icon
التغطية الحية

الحضرة والسور.. صوفية هجّرت من الجزائر ثم حطت بالشام وانتهت بتركيا

2022.11.11 | 09:56 دمشق

الحضرة والسور
الحضرة والسور.. كتاب بحثي عن الحركات الصوفية في سوريا
إسطنبول - عبد الناصر القادري
+A
حجم الخط
-A

تنتشر الطرق الصوفية في سوريا بشكل كبير، وفي العاصمة السورية دمشق بشكل خاص منذ قرون طويلة، حيث بدأت الصوفية تتشكل في جماعات وطرق عديدة، لها أساليبها ومفاهيمها وشيوخها وأورادها، وحضورها على المستويات الدينية والاجتماعية.

وفي دراسة بعنوان "الحضرة والسور.. الشيخ محمد الهاشمي التلمساني - عصره وطريقته الشاذلية"، صدرت عام 2022 للباحث السوري عبد الله أحمد مراد، تحدث فيها عن الطرق الصوفية والجماعات الإسلامية في سوريا عموماً، مع التركيز على الطريقة الشاذلية على يد الشيخ محمد الهاشمي القادم من الجزائر إلى دمشق وتأثيره بانتشار الطريقة في بلاد الشام والعراق على مدار قرن كامل ثم انتقال الطريقة إلى إسطنبول ومدن تركية أخرى بعد انطلاق الثورة السورية عام 2011.

ويقصد بالسور، سور قلعة دمشق الذي يحيط بدمشق القديمة، أو ما يعرف بسور "الشام"، أما الحضرة، فهو مصطلح صوفي يطلق على مجالس الذكر الجماعية التي يؤديها المسلمون المنتمون لإحدى الطرق الصوفية.

أوضاع دمشق السياسية والاجتماعية

ويبدأ الكاتب بحثه الموسع الذي نال عليه درجة الماجستير في جامعة مرمرة التركية، من أحوال دمشق والجزائر إبان نشأة الطريقة الشاذلية الدرقاوية الهاشمية، مع الإشارة إلى الأوضاع السياسية والاجتماعية في دمشق في ظل الدولة العثمانية، والحديث عن فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر وسوريا.

وعرج الباحث مراد على الثورة السورية الكبرى عام 1925 ودور "علماء دمشق" وأعيانها في الثورة ضد الفرنسيين وفي مقدمتهم "المحدث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني" وعلي الدقر، ومحمد الأشمر وعبد الله الأفغاني، ومحمد الهاشمي وغيرهم.

وناقش كذلك الوضع المعيشي لأهالي دمشق خلال الانتداب الفرنسي وصولاً إلى عهد الجلاء والانقلابات العسكرية حتى صعود البعث واستيلاء حافظ الأسد على السلطة عام 1970.

وسرد الباحث بشكل موجز الأحداث التاريخية السياسية المهمة التي شهدتها سوريا، وبالأخص دمشق في عهد نظام الأسد، والدور الذي لعبه رجال الدين أو ما يطلق عليه "علماء السلطان" في التمكين لحافظ الأسد ونقاشات دين رئيس الدولة والدستور السوري حينها، وصولاً إلى أحداث الثمانينيات وما رافقها من أحداث عنف ومجازر بحق المدنيين في عدة مدن سورية على رأسها حماة وحلب وجسر الشغور، واستمرار حكم عائلة الأسد بعد وفاة حافظ الأسد واستلام نجله بشار للحكم عام 2000، حتى الثورة السورية عام 2011.

الجماعات والحركات الإسلامية في دمشق

ويناقش البحث أنماط الفكر الإسلامي في المجتمع الدمشقي، والذي يغلب عليه الطابع الصوفي، وإن انقسم إلى جماعات وحركات، تمايزت في دعوتها ونشاطها.

ووجهت هذه الحركات الفكر العام للتدين داخل دمشق وخارجها وأثّرت بشكل كبير بتغيرات جذرية لوقائع وأحداث سياسية واجتماعية، كما أنها دعمت ووطدت حكومات وأيدت سياسيين، ما أخرج التدين من نطاقه الشعائري في المساجد والزوايا إلى محرك أساسي في المجتمع وتدافعاته السياسية إلى أنه غلب الطابع الاستبدادي ودخلت الجماعات الإسلامية بمختلف أنواعها عهداً جديداً منذ انقلاب حافظ الأسد حتى اندلاع الثورة السورية.

وكان لعدة عائلات "عريقة" من دمشق دور في قيادة المشهد الديني في "الشام" مثل عائلة "الخطيب والمحاسني والأسطواني والكزبري والبرهاني وعابدين والعطار وغيرهم"، حيث أسسوا العديد من المدارس والمؤسسات التعليمية في القرن العشرين، ومنها ما هو مستمر حتى اليوم.

ومن أبرز تلك المدارس: "الكلية الشرعية، معهد ومدرسة جمعية الغراء، كلية الشريعة في جامعة دمشق، دار الحديث النووية، دار الحديث الأشرفية الجوانية، دار القرآن الكريم والحديث الشريف التنكزية (المدرسة الكاملية)".

ومن هذه المدارس نشأت جماعات دينية في دمشق كان لها دورها السياسي الذي ساندت نظام الأسد أو هادنته أو وقفت ضده مثل "جماعة زيد" التي أسسها الشيخ عبد الكريم الرفاعي و"جماعة الفتح" التي أسسها الشيخ صالح الفرفور و"جماعة كفتارو" التي أسسها مفتي الجمهورية الراحل الشيخ أحمد كفتارو أحد أبرز الداعمين لحافظ الأسد.

الهجرة من الجزائر إلى دمشق

وتحدث البحث عن الأوضاع السياسية والاجتماعية والدينية التي شهدتها الجزائر في عهد الاحتلال الفرنسي الذي استمر 132 عاماً مخلفاً مليون قتيل، مع نهب هائل لخيرات وثروات الجزائر.

في المقابل واجه الجزائريون هذا الاحتلال بثورة مسلحة قادها الأمير عبد القادر الجزائري مكملاً مسيرة والده ومن سبقوه، إلى أن انتكست قوته مع استخدام الفرنسيين لسياسة الأرض المحروقة ما دفع الأمير للاستسلام حفاظاً على أرواح المدنيين.

وأجبرت الأوضاع السياسية والاقتصادية السيئة التي آلت إليها الجزائر تحت نير الاحتلال الفرنسي الكثير من السكان للهجرة باتجاه بلاد الشام في ظل الحكم العثماني حينها، خصوصاً أن فرنسا بدأت باستقطاب العائلات الفرنسية من أراضيها إلى الجزائر.

كما كان للعامل الديني دور في هجرة الجزائريين إلى بلاد الشام لا سيما في فرض الثقافة الفرنسية على الشعب الجزائري ما هدد الثقافة العربية الإسلامية التي كانت مهيمنة قبل مجيئهم.

وهجّر الفرنسيون الكثير من الجزائريين الذين ثبت تورطهم بحملهم السلاح ضد قوات الاحتلال أو له علاقة أو اتصال مع الدولة العثمانية أو الأمير الجزائري.

وفي هجرة عام 1856 قصد الأمير عبد القادر الجزائري دمشق مع 500 شخص من أتباعه، كما تعددت الهجرات الجماعية من الجزائر إلى بلاد الشام، مثل هجرات (1857 - 1861 - 1871- 1882)، ثم تنشطت الهجرات مجدداً بدءاً من أعوام (1888 - 1893 - 1907 - 1911) وضمت آخر هجرة الشيخ محمد بن يَلِّس (شيخ الطريقة الشاذلية الدرقاوية) وطالبه محمد الهاشمي.

وكان لهؤلاء المهاجرين الجزائريين أثر واضح في المجتمع الدمشقي بمختلف مناحي الحياة ولا سيما دينياً واجتماعياً وعلمياً، وهو ما ظهر فيما بعد على يد علمائهم الذين ذاع صيتهم وأصبحوا من أكبر عائلات دمشق، مثل الجزائري والمبارك والهاشمي واليعقوبي والكتاني والبيطار.

التصوف في دمشق

ورغم أن الصوفية كانت منتشرة في سوريا ودمشق قبل هجرة الجزائريين، إلا أن لهم دورا في إعادة تنشيط الطرق الصوفية وإدخال مدارس جديدة استمرت إلى يومنا هذا.

وعمل "مراد" في بحثه على إحاطة القارئ بالتدين والتصوف الدمشقي بشكل عام وأبرز المدارس والأعلام الذين نزلوا بها، حيث فيها دُفن "الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي"، و"الشيخ عبد الغني النابلسي" وهم من أبرز أعلام الصوفية، وفيها قبر "شيخ الإسلام ابن تيمية، وطالبه ابن قيم الجوزية" أهم رموز السلفية، وإن كان الحظ الوافر للصوفية شديد الوضوح والتأثير خلال القرنين الماضيين.

ولعل من أبرز الطرق الصوفية الأوسع انتشاراً في دمشق خلال القرن العشرين: "الطريقة النقشبندية، والطريقة الشاذلية وفروعها، والطريقة الخلوتية، والطريقة القادرية، والطريقة السعدية، والطريقة التيجانية".

وسرد الباحث بشكل موسع عادات وتقاليد متصوفة دمشق، ومجالسهم وأعلامهم، إلى جانب السرد التاريخي للتصوف وامتداده وتطوراته ومدارسه.

وفصّل الباحث في الطريقة الشاذلية من النشأة إلى التطور، مع الإشارة إلى ظروف انتقالها من مصر إلى الجزائر ومنها إلى دمشق وأبرز أعلامها ومشايخها، وحالات تجديدها وفروعها المنتشرة.

محمد الهاشمي "شيخ الشاذلية" في دمشق

ولعل الجزء الأكبر من البحث، كان عن الشيخ محمد الهاشمي التلمساني وطريقته. نزل الشيخ الهاشمي بدمشق عام 1911، وأخذ العلم عن شيوخها وعلمائها، حتى أخذ مشيخة الطريقة الشاذلية الدرقاوية وانتشرت في دمشق وحلب وبلاد الشام وصولاً إلى العراق ثم تركيا.

وشرح الكاتب كيف يُجاز الشيخ بالطريقة وكيف يجيز بها مريديه وأتباعه، وما يعرف بالورد العام والخاص، وإقامة الحضرة ومجالس الذكر.

وعدد كذلك أبرز تلامذة الشيخ الهاشمي، مثل "محمد سعيد البرهاني، ومحمد هاشم الخطيب، ومحمود السيد الدوماني" في دمشق، و"عبد القادر عيسى ومحمد النبهان" في حلب، و"محمد سعيد الكردي" في الأردن. وقاسم القيس في بغداد بالعراق.

وأجاز الهاشمي بالورد العام كلاً من "محمد بشير القهوجي، وعبد الرحمن الشاغوري ومحمد صالح الحموي ومحيي الدين الكردي وشكري اللحفي" والكثير غيرهم.

هجرة الشاذلية إلى تركيا 

تعرضت الجماعات الإسلامية في دمشق منذ انقلاب البعث في ستيتنيات القرن الماضي للتضييق على حركتها ونشاطها من قبل الدولة التي فرضت نظاماً عسكرياً للحكم ألغى الحياة المدنية والسياسية والثقافية، وزاد الأمر بعد أحداث الثمانينيات في حماة التي دفعت بالكثير من الشيوخ والدعاة إلى خارج البلاد.

وبعد الثورة السورية عام 2011، والقمع والعنف الذي واجه بها نظام بشار الأسد الشعب، كان الشيوخ مجبرين على اتخاذ موقف إما مناهض للنظام يدين إبادة الشعب أو مساند للنظام ومدافع عنه، وفي ظل هذا الوضع خرج الكثير من الشيوخ خارج سوريا، وحطت رحال كثير منهم في تركيا حيث توزعوا في ولاياتها كإسطنبول وغازي عنتاب وبورصة ومرعش وغيرها.

وكانت بداية انتشار الطريقة الشاذلية في تركيا بعد عام 2011 على يد أحد شيوخها " محمد موفق المرابع" في القسم الآسيوي من إسطنبول، والذي ساهم بتأسيس العديد من المؤسسات والجمعيات المعنية في التعليم الشرعي مثل مؤسسة رسالة الشام الإنسانية وجمعية ألفة، ومعهد "العلامة الشيخ عبد الرزاق الحلبي" في منطقة الفاتح، ودار القرآن الكريم وعلومه في منطقة العمرانية، ودار طيبة للعلوم الشرعية والعربية في منطقة سنجاق تبه، ودار السادات للقرآن الكريم في مدينة قونية، ومعهد "الشيخ صالح الحموي" في إسنلر.

وفي إسطنبول الأوروبية كان للشيخ محمد خالد الخرسة، وأخوه الشيخ عبد الهادي الخرسة دور كبير في انتشار الطريقة الشاذلية، حيث أسس بالمشاركة مع الشيخ محمد موفق المرابع وقف جميعة العلم والهداية والبركة في منطقة الفاتح، وساهم في تأسيس معهد الشيخ الحلبي، ويرأس مقرأة جامع (حافظ أحمد باشا) في الفاتح، ويدرس في دار الفقهاء التابعة لجامعة السلطان محمد الفاتح الوقفية بإسطنبول، وله جهود واسعة في الدروس ومجالس الذكر المستمرة، وفق الباحث.

وفي غازي عنتاب جنوبي تركيا عمل الشيخ محمد رضا القهوجي على إحياء مدرسة والده محمد بشير القهوجي التي أسسها في ثمانينيات القرن الماضي، أولى مراحل انتقال الطريقة لتركيا.

هل يوجد نساء في الطريقة الشاذلية؟

وفي خاتمة بحثه أكّد الباحث عبد الله مراد أن الدراسة التي قام بها عن الحركة الصوفية في دمشق عموماً، والشاذلية الدرقاوية خصوصاً، عمل عليها بطريقة تحليلية نقدية، اعتماداً على المراجع والدراسات والمقابلات، واستعرض للقارئ الفروقات المنهجية والحركية التي تميزت بها ودورها في المجتمع السوري والدمشقي وأهمية الدراسات التي تتناول هذه التفاصيل المجتمعية شديدة التأثير في سوريا.

ولعل القارئ للبحث على أهميته في استقراء الحالة الصوفية في سوريا ودمشق خصوصاً، وتركيز الباحث على الطريقة الشاذلية وكل ما يتصل بها، غاب عنه إلى حد كبير الحالة النقدية والتي من المرجح أن تكون بسبب القيود البحثية التي تفرضها أطروحة الماجستير.

وكان من الملاحظ على سبيل المثال غياب أي دور لـ "المرأة المسلمة" في الطريقة الشاذلية وحتى الصوفية عموماً ضمن البحث، رغم أن التاريخ الإسلامي حافل بالكثير من "الصوفيات" العالمات أو اللواتي اشتهرن بالزهد والعلم مثل "رابعة العدوية، وفاطمة النيسابورية، وعائشة الباعونية، ومولاة الشامية" وغيرهن، وهذا يشير إلى أن القرون السابقة كانت أكثر نضجاً وقرباً من بداية الإسلام الذي عُرف فيه الصحابيات بأسمائهن ودورهن الأساسي في "فجر" الإسلام.

ولا يخفى الجهد الواضح الذي بذله الباحث في كتابة أطروحته، فكمية المراجع ومقارنتها وتقريب خطوطها كان لافتاً وينم عن أمانة علمية عالية خصوصاً من ناحية الاقتباس الحرفي من دون أي تغيير، وإن كان من الممكن أن يتم التركيز أكثر على ما انتقدت به الطريقة من "علماء" أو "دعاة" انتقدوا جوانب معينة في الطريقة الشاذلية أو غيرها، ما يعطي البحث درجة أكبر من "الموضوعية".