icon
التغطية الحية

بعيداً عن أرضه.. جلال الدين الرومي الذي ملأ وطن اللجوء بالحب والزهد

2022.07.01 | 07:43 دمشق

جلال الدين
محمد أوزملّي
+A
حجم الخط
-A

"حين تتلمس رفيق الطريق فإياك أن تنظر إلى لونه، أو لسانه، بل أبحث عن نواياه وهمته، فما يجمعك بمحبيك هو لغة القلب"- جلال الدين الرومي، محمد بن محمد بن حسين بهاء الدِّين البَلَخي الْبَكْرِيّ، ولدَ في بلخ (أفغانستان حالياً) سنة 1207 وتوفي في قونيا التركية سنة 1273.

كان والد الرومي "بهاء الدين" عالم دين وكاتباً ومعلماً صوفياً مشهوراً في بلخ الأفغانية، وبسبب الخلاف مع الحاكم آنذاك أو يحتمل أن يكون تهديد اقتراب المغول، غادر بهاء الدين وعائلته بلدتهم الأصلية قرابة عام 1218، وتجول في إيران والعراق والمدينة المنورة والشام ليستقر في النهاية مع عائلته في الأناضول (تركيا)، والتي كانت تحت حكم "سلاجقة الروم" (ومن هنا جاء لقب رومي)، وهي منطقة تمتعت بالسلام والازدهار في ظلّهم.

بعد إقامة قصيرة في كرمان جنوب قونيا توفيت والدة جلال الدين، فتم استدعاؤهم من قبل الحاكم إلى العاصمة قونيا عام 1228. وهنا بدأ بهاء الدين  بالتدريس في إحدى المدارس الدينية، وبعد وفاته عام 1231 خلفه ابنه جلال الدين بالتدريس فكان المعلم التلميذ في الوقت ذاته، فقد تتلمذ على يد خيرة علماء عصره ومنهم "برهان الدين محقق ترمذي" الذي أسهم بشكل كبير في التكوين الروحي لجلال الدين، و"ابن العربي" الذي التقى معه في دمشق ، و"شمس الدين تبريزي" المؤثر الأكبر في حياته، حيث كانت اللحظة الحاسمة في حياته سنة 1244، عندما التقى في شوارع قونيا بالدرويش المتجول/ الزاهد، شمس الدين التبريزي، والذي كشفت شخصيته لجلال الدين ألغاز العظمة الإلهية والجمال. فعاش الصوفيان معاً لعدة سنوات، إلى أن توفي التبريزي فكان هذا الفراق الخسارة الكبرى للرومي، ولكن إذا ما نظرنا إلى الجانب الآخر من هذا الفراق سنرى أنه محط إبداع وتحول كبير بالنسبة للرومي.

تجربة الحب والشوق والخسارة حوّلت الرومي إلى شاعر، تعكس قصائده مراحل مختلفة من حبه حتى إنهُ حسب وصفه يقول: "وجدت شمساً في نفسي مشعةً كالقمر". وتكريماً لصديقه ومعلمه أدخل اسم "شمس" بدلاً من اسمه المستعار في نهاية معظم قصائده الغنائية Dīvān-e Shams "ديوان شمس".

منهجه وتعاليمه ومؤلفاته

"إمام الدين" و"عماد الشريعة" و"سلطان العارفين" ألقاب لُقب بها الرومي في قونيا من قبل تلاميذه والناس بسبب زهده وعلمه، فعمل في التدريس والفتوى وكسب حاضنة كبيرة بعدما أقر له شيوخه بالنبوغ والاطلاع الواسع بفضل ثقافته العربية والفارسية المتنوعة.

بهذه المحبة والتسامح والزهد، وعلى الرغم من أنه ليس من أبناء اللغة والأرض التي عاش فيها، استطاع مولانا الرومي، اللاجئ، القادم من عرق ولغة وثقافة مختلفة أن يترك إرثاً طيباً وغزيراً بثقافة العشق والأدب والفلسفة التصوفية

مع هذا الحب الذي كسبه من الناس دخل الرومي تاريخ التصوف العالمي من أوسع أبوابه واعتُبر أحد أهم المتصوفين العظام في التاريخ الإسلامي، ونشأت من خلاله طريقة صوفية في تركيا عُرفت بـ "المولوية" واشتهرت بأجواء الرقص الدائري حول النفس، وجاء اسمها اشتقاقاً من اللقب الذي أطلقه الأتراك عليه وهو "مولانا" جلال الدين الرومي، وقد انتشرت هذه الطريقة لاحقاً في مختلف أصقاع العالم فكانت البوابة التي انفتحت وكشفت عن فلسفته وشعره للعالم.

تجلى فكر الرومي "بالكون" بأنه مكان لا نهاية له في وجود الله، وعن "الإنسان" فهناك عالمان تزامنا فيه العالم الداخلي والعالم الخارجي: "العالم الداخلي مثل محيط لا نهاية له، لا يمكن الشعور به ورؤيته إلا بعيون القلب، بينما العالم الخارجي مثل الرغوة العابرة التي تظهر على سطح الأمواج المنبعثة من ذلك المحيط". فبحسب فكره، كل شيء في الكون، كل كائن، حتى المادة نفسها - كلها ما هي إلا تجليات من الله.

 

الرومي
متحف مولانا جلال الدين الرومي في قونيا- تركيا

 

وفي الشعر لعبت الرمزية دوراً كبيراً في قصائده، فأسس المذهب المثنوي، الذي كان من أبرز تجلياته ديوانه الشعري المعروف بـ"مثنوي معنوي" والذي اعتبر بأنه أكبر مرجع تصوفي باللغة الفارسية، فقد كتب فيه الآلاف من أبيات الشعر (بلغ عددها 25 ألفاً و632 بيتاً)، موزعة على ستة أجزاء استغرق سبعة أعوام في كتابتها، وفيها 424 قصة تسرد معاناة الإنسان للوصول إلى حبه الأكمل الذي هو الله، ووصوله لمراده من منظور فكري صوفي.

 من أشعاره

إن تكن تبحث عن مسكن الروح فأنت روح

وإن تكن تفتش عن قطعة خبز فأنت الخبز

وإن تستطع إدراك هذه الفكرة الدقيقة فسوف تفهم

أن كل ما تبحث عنه هو أنت.

كما ترك لنا الرومي دروسا ألقاها في مجالسه العلمية وإجابات عن أسئلة وجهت إليه في مناسبات مختلفة، و"مكاتيب" أي رسائله إلى معارفه ومريديه ضمن كتاب سماه "فيه ما فيه"، إلى جانب عدة مؤلفات ما بين منظوم ومنثور تناول فيها العديد من المسائل الصوفية والاجتماعية والفلسفية والأدبية؛ ظهرت فيها شخصيته الفكرية المتصوفة، ونذكر منها: "ديوان شمس الدين التبريزي" الذي يحتوي ألف بيت سجّل فيها ذكرياته مع أستاذه التبريزي الذي لطالما تأثر بعلمه وزهده، و"الرباعيات" التي يبلغ عددها 1959 رباعية، وهي أبيات شعرية تصور رحلة الإنسان إلى البحث عن الحق الذي هو الخالق تبارك وتعالى، وقد ترجمت إلى عدة لغات من الأصل وهي الفارسية إلى(الإنكليزية والألمانية والفرنسية والعربية والتركية والأردية، وغيرها من اللغات الأخرى).

أيها البشر الأتقياء التائهون في هذا العالم

لم هذا التيه من أجل معشوق واحد

ما تبحثون عنه في هذا العالم

ابحثوا في دخائلكم فما أنتم سوى ذلك المعشوق.

إرث الرومي وتأثيره

كان جلال الدين الرومي رجلاً مليئاً بالحب، ليس فقط بحب الله، بل للبشرية جمعاء من كل عقيدة ولون وطبقة. ويقول في هذا: "نحن نحب، لهذا نحن في سلام". فكان الرومي يرى نفسه قريباً من جميع الأديان والعقائد، وشجع على التسامح والسلام والرحمة. فكتب في قصيدته الملحمية الشهيرة المثنوي - وهي من أكثر القطع تأثيراً في الأدب الإسلامي:

"تعال، تعال، من كنت مهما كنت، تعال، يا وثني، عابد الأوثان أو عابد النار، تعال، حتى لو أنكرت قسمك مئة مرة، تعال، فبابنا هو باب الرجاء، تعال! تعال كما أنت".

بهذه المحبة والتسامح والزهد، وعلى الرغم من أنه ليس من أبناء اللغة والأرض التي عاش فيها، استطاع مولانا الرومي، اللاجئ، القادم من عرق ولغة وثقافة مختلفة أن يترك إرثاً طيباً وغزيراً بثقافة العشق والأدب والفلسفة التصوفية في مجتمع قونيا كما واُعتبر من أكثر الحكماء الذين كان لهم تأثير كبير على تشكيل مقومات وقيم الثقافة التركية، البلد الذي لجأ إليه غريباً فعاش فيه قريباً وصديقاً لكبار الشخصيات وكذلك الرهبان المسيحيين وجميع طبقات المجتمع، وكما يُروى فقد حضر موكب دفنه (في الـ17 من كانون الأول 1273)، حشد كبير من الناس من مختلف الأديان والجنسيات. وضريحه "القبة الخضراء" هو اليوم متحف ومزار في قونيا، يزوره محبوه من جميع أنحاء العالم ومن مختلف الأعراق والأديان، خاصة من المسلمين الأتراك الذين كان له التأثير الأكبر عليهم، فقد حرصوا في كل عام على إحياء ذكرى وفاته التي مرّ عليها مئات السّنين، في ولاية قونيا حيث عاش وتوفي ودُفن فيها.

أهمية "مولانا" الرومي تجاوزت الحدود الوطنية والعرقية على مر القرون، وكان لها تأثير كبير على الآداب الفارسية والأردية والبنغالية والتركية، كما تُرجمت قصائده على نطاق واسع إلى العديد من لغات العالم، وبأشكال مختلفة. وُصف بأنه "الشاعر الأكثر شعبية في أميركا"، كما أبدت أوروبا اهتماماً كبيراً به، وأخذ عنه الشعراء الألمان مثل روكرت وغوته، والكاتب والفيلسوف الباكستاني محمد إقبال، وشعراء البنغال مثل طاغور وكازي نازرول إسلام، والكثير من شعراء العالم، حيث تأثروا بالنشوة والحس والحب والتسامح والسعي الروحي نحو الصفاء الذي كان رمزاً وطابعاً لازم شخصية الرومي الذي طالما وصفه مريدوه  بالإنسان الكامل.

"هكذا أود أن أموت في العشق الذي أكنه لك، كقطع سحب تذوب في ضوء الشمس"