icon
التغطية الحية

الحداثة.. بين النمط والتجاوز

2022.07.03 | 11:24 دمشق

حداثة
+A
حجم الخط
-A

يبدو أنّ الكلام في الحداثة وإشكاليّاتها لن ينتهي، حيث تتكشّفُ هذه الظاهرة كل يومٍ عن وجه جديد، أو مأزقٍ يضاف إلى جملة ما أصيبت به من مآزق. معلنةً أنّ الظاهرة نفسها قابلةٌ للكلام والتفكير الدّائمين، لعلّ مجمل نتائج هذا وذاك تساعد في فهم ماهيّة الحداثة، التي يردّد بعض مفكريها حتَّى الآن أنها غير واضحة وغير محدّدة، مع أننا نلاحظ كيف دخل مصطلح (ما بعد الحداثة) حيّز التداول بشدّة منذ عهدٍ قريب. (وقد يُرجع البعض نشوء هذا المصطلح إلى عشرات السنوات!).

وفي الوقت الذي يتمّ فيه تحليل ونقد الحداثة، فإن الجميع مصابون بها تماماً، أي أنّ الأمر لا يتشكل بصورة منفصلةٍ بين الانسياق للظاهرة وتمثّلها، وبين نقدها والشكوى من عدم تحديدها وثبوتها على نحوٍ معيّن.

وربمّا استطعنا من خلال التذكير ببعض وقائع الحداثة وولادتها أن نقيم جسراً إلى ما يتمّ الجدل حوله الآن. فمن وقائعها أنها نشأت في سياق تحوّل المجتمع الأوروبي وإعادة بناء منظوماته العقلية والاقتصادية ومفهوماته الأدبية والنقدية، كل ذلك في تناغمٍ وانسجامٍ بين جميع هذه الأصعدة، بحيث يمكن القول إن ظاهرة الحداثة كانت (شبحاً يتجوّل في جميع أنحاء أوروبا) دون استثناء.

كانت الحداثة تقتضي نقد العقل، ونقد السياسة، ونقد العلم، ونقد الاقتصاد... إلخ. وكانت تشير إلى ضرورة هدم بنى المجتمع المستقرّة، وإخراج طاقات الناس الكامنة للتَّشغيل والعطاء والجدل.

كما عُنيت الحداثة بعدم الاعتراف بكلّ ما هو ثابت ومستقرٌّ وجامد، مع ما يعني ذلك من الإقرار بجدوى إخضاعِ كل ما ينتابنا من أفكار ومفهومات، إلى سلطة العقل، وسؤال الذَّات التي بدأت تشعر بنفسها وأهمية أن ترتبط الأشياء جميعها بها. لذلك أخذت هذه الذات تتساءل عن معناها، عن قيمتها في سياق تاريخ الجماعة، وعن صلة الذات بهذا التاريخ، وما دورها في التأثير فيه وصناعته، بحيث لم يعد التّاريخُ معطى ميتافيزيقيّاً بل هو يتبدّى على أرض الواقع دون مفهومات راسخة جامدة.

لم تنشغل الحداثة بتحليل التاريخ وهدمه فقط، بل كانت –وهذه طبيعتها– تقدّم المبنى الخاص بها: مبنى التاريخ، مبنى الواقع، مبنى الفكر، نقول المبنى بمعنى أنَّ الحداثة هدمت ثم بَنَتْ وشيّدتْ في اللَّحظة نفسها. وهذا هو جدلُ الحداثة الجوهريّ. لا تقوّض مبنى دون أن تشيّد  آخر. لا تنسف مفهوماً قبل أن تستولد من داخله بديله. نقول من داخله وليس من كوكب آخر.

لكن هل تنظر الحداثة في البناء الجديد الذي تشيّده؟ هل تستسلمُ للقصيدة الجديدة، والمذهب النقدي الجديد، والنظرية العلمية الجديدة؟ هل تعلن الحداثة قبولها بذلك؟ أتعلن رضاها وقناعتها بما أنجزتْ؟

إن المسألة تحتاج إلى تفكير طويلٍ. وذلك حتى نضع يدنا على بعض الفروق الأساسية بين "حداثتهم" و"حداثتنا"، حداثتهم التي لا تكاد تصل إلى فكرة حتّى تخلخلها من جديد، وتبني على أنقاضها فكرة جديدة، وحداثتنا التي سمّاها البعضُ (حداثةَ النَّمط). نحن نصلُ إلى نمطٍ شعريٍّ ما، نمطٍ في بناء القصيدة، إيقاعها ولغتها ورموزها وتسمية عناوينها، وتستقرّ عليه. بحيث تصاب جميع القصائد في فترةٍ ما بالتّشابه والاجترار وإعادة القول. يبتكر أدونيس نمطاً كتابيّاً، فيصاب به الجميع بالعدوى. يخترع محمود درويش أسلوباً في إقامة علاقات جديدة بينه وبين التَّاريخ، بينه وبين رموز معينة، فيتبعه الجميع سنوات. وينتظرون حتّى يغيّر هو من نمطه لتغيير نمطهم.

يبدو أننا لا نتبع -من التّبعيّة- الغربَ فقط في ملاحقة موديلاته النقدية، والفكرية، بل نكون تابعين لأعلامنا، بسبب ثقتنا بأن ما يجعلهم أعلاماً هو هذا الأسلوب، هذا المناخ، فلماذا لا نحاول تقليدهم ونسخهم علَّنا نصبح أعلاماً في رؤوسها نيران؟ بدلاً من ابتداع لحظتنا الذّاتية الخاصَّة بنا، وطرح سؤالنا الذاتي، وتقديم معاناتنا برؤيا مختلفة، بدلاً من هذا، تستعير من الآخرين حتى معاناتهم وننسبها إلينا، فنقع في المحظور الذي جاءت الحداثة أصلاً لكي تُخرج العقل منه، وتخرجَ الإبداعَ، والفلسفةَ كذلك. حين نتبع نمط الآخر نُسقط عن أنفسنا شرط انتمائنا للحداثة. لأنها لم تولد لتصنع أوثاناً من تمرٍ، بل لتخلق لحظات لا نهاية لها، ترتبط كلّها فيما بينها، ولكنها غير مستنسخةٍ بعضها عن بعض.

ولننظر اليوم في مظاهر القصيدة الحديثة، سنرى أن أحد أوجه تجليات أزمتها أنها دخلت في شعار (تشابهَ الشعرُ علينا). بحيث أننا نقرأ عشرات القصائد لأسماء مختلفة، وربما كانت من أقطارٍ مختلفة، فنشعر وكأننا نقرأ لشاعرٍ واحد هو كل هذه الأسماء. أين فرادة هذه الأسماء؟ أين سؤال كل منها بمفرده؟ أين مشروع كل شاعر؟ لماذا لا يكتشف هؤلاء أنهم غير مبدعين ويكفوننا (شرَّ القتال)؟

نحن لا نريد أن نصل في مطالبة الحداثة أن تتجاوز نفسها إلى الحدّ الذي سماه (بودلير) حداثةَ ما هوَ عابرٌ وسريعُ الزوال، أو الحداثة الموضة

ولم يتوقَّف الأمر عند حدود نمطٍ مكّرر بين عدّة شعراء، بل لقد تشكَّل لدينا عددٌ كبير من الشعراء، كل واحد بمفرده استقرَّ على نمط معيّنٍ لا يغادره، وكأنه استطاب ولمدّة عقودٍ من الزمن أن يكتب اللّغةَ نفسها، يبني الصورة بالأسلوب نفسه، يكتب أعماله الكاملة بتفعيلةٍ واحدةٍ، يكرّر المفردات والقوافي والروح نفسه نفسه. وعلينا أن ننتبه هنا، فنحن لا نتناول شاعراً له معجمه الخاصّ وهويّته الخاصّة، إن أدونيس له معجمه، لكنه لا ينمطّ ذاتَهُ، ومحمود درويش هو خير من يملك معجماً غنيّاً، لكنه خير من يبدّل من أساليبه ويحرق المراحل حرقاً ويتجاوز نفسه. نحن نقصد هنا أولئك الذين يشبهون أنفسهم، ولا يغادرون صورةً عرفوا بها طيلة حياتهم، هل نسمّيهم؟ سيأتي ذلك، يأتي ذلك في زمنٍ ما. على كلّ إنهم كما أتصّور يعرفون أنفسهم، وربما جيّداً... وهم حَتْماً بعض من سيقرأ هذه الكلام!.

نحن لا نريد أن نصل في مطالبة الحداثة أن تتجاوز نفسها إلى الحدّ الذي سماه (بودلير) حداثةَ ما هوَ عابرٌ وسريعُ الزوال، أو الحداثة الموضة، وذلك لأننا لسنا هواة تبديل أزياء. لكننا هواة تبديل المواقع التي وصلنا إليها، دفعها إلى أقصى مدى ممكن لنبدأ ببناء موقع جديد.

إن بعضاً من نقاد الحداثة يطرحون مفهوم حداثة اللحظة، وذلك حرصاً مطلقاً منهم على تجنّب الحداثة أن تصاب بالموت، لذلك لابدّ من القفز نحو الأمام دائماً، والبحث عن حداثة أخرى، نمطٍ سرعان ما يتهدّم، أسلوب حياة سرعان ما يفقد صلاحيّتَهُ. ربما كان لدى البعض مبالغة في ذلك. حسناً، لنأخذ نحن مبدأ تجاوز الحداثة لذاتها. ولنبتعد في الوقت نفسه عن إتباع الموضة. لكن لنا أن نحاول عدم الوقوع في الجدث، ولنا أن نرفض الموت. يقول د. عبد الرحمن محمد القعود في كتابه (الإبهام في شعر الحداثة):

"حداثة (اللحظة) هي حداثة التناسل المتسارع في المفهوم الغالب. ستظلّ الحداثة تتناسل، وستظلّ تنسلُ ما يشبهها وما يخالفها وما يصطدم معها. وإذا توقفت الحداثة عن التناسل أو توقفت عن إنسال النَّقيض – مكتفية بالشبيه – فقد فقدّتْ إحدى أهم سماتها. ولا تتخذ الحداثة ممّا تنسله نموذجاً، فالحداثة نفيٌ للنماذج ولا تطمح إلى مثال"·

ومشكلةُ أغلبِ آبائنا الشّعريين، في سورية وغيرها، أنهم اقتنعوا بما حقّقوه من إنجاز شعريّ، وراح واحدهم يعمل عمره كله على إعادة صياغة ما أنجزه واجترار ما توصّل إليه. وهذا ما يصعب عليهم الاعتراف به، ولكنه سيتمّ تحليله نقديّاً ولو بعد أجيال.

إن الشاعر الذي يرضخ للقناعة، فقد مشروعيته كشاعر. خرج من مضمار الإبداع إلى مضمار التقليد. وكم من قصائد تفعيليّةٍ لشعراء نجومٍ، في سوريا وخارجها، ما هي إلاّ قصائد تقليديّة في بنيتها، لأنها لا تقدّم لغة حديثة، لا مفهوماً جمالياً حديثاً، ولا تطرح سؤالاً يخصّ الذات الحديثة ولا المستقبل... إلخ.

هذا لا ينفي عن شعراء الأجيال الجديدة التّهمة نفسها. وإننا لنستنكر وجودها عند شعراء شباب ما زالوا في مرحلة التأسيس والتكوّن، فماذا ينتظر من شابّ استقرّ منذ بداياته على نمطٍ معين ولم يحاول الخروج منه؟ ماذا نأمل من شاعرٍ جديدٍ لا تختلف بنية قصيدته عن بنية قصيدة عمرها ستّون عاماً للسياب، أو لخليل حاوي، أو لسواهما؟ نحن نرفض أن يعيد الجيل الجديد أزمة جيل الآباء، على الأقلّ لأن الجديد ينبغي أن يبتكر ويبتدع وينجز ذاتَهُ، ليس بإطلاق النار على الآباء، بل بعدم تكرارهم بكلّ ما فيهم.

 

· د. عبد الرحمن محمد القعود – الإبهام في شعر الحداثة – سلسلة عالم المعرفة – الكويت – 2002 – ص 82

 

 


· د. عبد الرحمن محمد القعود – الإبهام في شعر الحداثة – سلسلة عالم المعرفة – الكويت – 2002 – ص 82