icon
التغطية الحية

الجيش السوري قبل الوحدة.. الشيشكلي والأسد والهيمنة على القوى الضاربة

2023.06.11 | 19:43 دمشق

حافظ الأسد وأديب الشيشكلي
حافظ الأسد وأديب الشيشكلي
+A
حجم الخط
-A

إن التنقيب في حقبة أديب الشيشكلي، الذي هيمن على سوريا في 19 من كانون الأول 1949 وانتهى بـ 24 من شباط 1954، يدرك تماماً بأنّ التجربة السلطوية التي راكمَ عليها حافظ الأسد كانت تجربة الشيشكلي، رغم كل الفوارق الأخلاقية والمبدئية بين الاثنين، إلا أن آلية إدارة دفعة الحكم وشد عصب السلطة هو القاسم المشترك بينهما.

ولكن كيف استنتجت ذلك؟ وعلى أي أساس أضع الرجلين في مكان مقارنة مع أن أديب الشيشكلي نهض بسوريا وحافظ الأسد وزمرته فتكوا بها؟

أوضحت في دراستي: "صراع الأجنحة السياسية داخل المؤسسة العسكرية السورية 1954-1958: الانقلابات والتعددية السياسية"، أنّ سر العمل الانقلابي-العسكري وخزان بارود الجيش السوري في الفترة 1949-1961، هو سلاح المدرعات، وجوهره "اللواء الأوّل مدرع" الواقع في منطقة قطنا البعيدة عن العاصمة دمشق قرابة 30 كيلومتراً، وأي ضابط لا يهيمن على هذا اللواء فحتماً سيكون انقلابه محكوماً عليه بالفشل مسبقًا، وبالتالي كل انقلابات سوريا اعتمدت على هذا السلاح لتنفيذ انقلاباتها، قبل حقبة البعث، لأننا سنلاحظ لاحقاً صعود سلاح الجو.

فمثلًا، كان المنفذ الحقيقي، بل الوحيد، للانقلاب الثالث (أي انقلاب الشيشكلي) في سوريا هو المدرعات، فحركة أديب الشيشكلي التي أُطلق عليها "حركة العقداء" لم تضم ساعة التنفيذ سوى ضابطين برتبة عقيد (الشيشكلي وأمين أبو عساف)، أما الضباط الآخرون من الأسلحة المتنوعة كالمدفعية والطيران وقادة الشُعَب، انسحبوا قبل موعد الانقلاب بيوم واحد بعد اجتماعهم الأخير في منزل العقيد عزيز عبد الكريم، الذي انسحب هو الأخير كما تبعه العقيد توفيق نظام الدين. في الحقيقة، إنّ ما عجّل في الأمر هو إدراك صاحب الانقلاب الثاني سامي الحناوي لأهمية هذا السلاح، فأصدر أوامره بنقل آمر فوج المدرّعات الأول أمين أبو عساف إلى قوات لواء البادية، وتعيين المقدم صبحي عبارة آمراً للفوج.

في ظلّ تغيّر الظروف وانسحاب القطاعات والرتب الأخرى من المشاركة قبل ساعة الصفر، تراجع الشيشكلي عن القيام بحركته، لكن ضغط "أبو عساف"، كما يروي لنا ذلك في مذكراته، وإصراره الشديد على أن سلاح المدرعات بإمكانه القيام بالمهمة وحده، أدّى بالشيشكلي إلى الموافقة على التنفيذ. إذاً لم يمضِ على إصدار قرار نقل آمر سلاح المدرعات فجر اليوم التالي، إلا وقد أطاح سلاح المدرعات بكل ضباطه، بقائد الانقلاب الثاني سامي الحناوي نتيجة قراره.

أديب الشيشكلي: من تثبيت نظام الحكم إلى السقوط

استمر حكم الشيشكلي حتى 24 من شباط/ فبراير 1954، أي أكثر من أربع سنوات، قضى معظمها يتلطى (وفق تعبير حازم صاغية) خلف واجهات مدنية كالرئيس هاشم الأتاسي، وواجهات عسكرية كزميله فوزي سلو، وأسس حزباً حاكماً سمّاه "حركة التحرير العربي" في 6 من نيسان/ أبريل 1952، بحثاً عن قاعدة شعبية وإضفاءً للشرعية على حكمه بعد قراره بحل الأحزاب جميعها.

طوال عقدين من زمن الانقلابات في سوريا لم تستقر أمور حكم الدولة لضابطٍ كما استقرت لأديب الشيشكلي، رغم الاستقطابات الإقليمية - الدولية وصراعات المحاور والظروف المحلية التي شهدتها مرحلته، فما الذي سمح باستتباب الحكم لهذا الضابط المسيس من زاوية الجيش؟ اتضح أن العمل الانقلابي في سوريا بحاجة قبل أي شيء آخر إلى ضمان مشاركة ضبّاط من سلاح المدرعات.

أدرك الشيشكلي أن ضباطًا كأمين أبو عساف وفضل الله أبو منصور هم أحد ركائز الحركات الانقلابية الأولى في سوريا، فسرعان ما استبعد كلا الضابطين عن وحداتهم، وشكّل تنظيماً عسكرياً خاصاً به داخل الجيش، وقدّم إلى صفوف القوات المسلحة وسلاح المدرعات ضباطاً شباباً ربطته بهم علاقات قوية، واتسعت قاعدة الشيشكلي بصورة كبيرة لاهتمامه بالضباط الذين يحملون رتب مقدم ونقيب وملازم، وهو ما يعود لفطنته بأنّ هذه الرتب الثلاث هي عادة ما تكون على رأس كتائب وسرايا الجيش، وهي في حالة تعامل يومي لا ينفك عن جنود السلاح وضباط صفه وهمومهم، أي أنّهم أكثر الضباط سيطرةً على القوات في الثكنات.

ووفق ما يرويه الجنرال الذي يرتدي ثياباً مدنية أكرم الحوراني في مذاكرته، كان تعامل الشيشكلي مع هؤلاء الضباط كعلاقة الأب بأبنائه. في المقابل ضمن ولاء بعض الرتب العليا من دون ثقة أو احترام لأحد منها.

ونظراً لعدم ثقته بأحد، فقد وجّه اهتمام مخابرات الجيش والشرطة العسكرية نحو الجيش وضباطه، ووضع جزءاً كبيراً منهم تحت المراقبة والمتابعة الدائمة، فرزحت الموازنات تحت وطأة العجز، حيث وصلت ميزانية المخابرات إلى 20 مليون ليرة سوريّة سنوياً لضمان سير عمل المكتب الثاني بدقة و"احترافية" استخبارية.

وهذا موضع التشابه بين تجربة الشيشكلي والأسد، فكان الأوّل يجترح أساليب وآليات للوقاية من الانقلاب لم تعهدها سوريا من قبل، بل في المنطقة العربية قاطبة في زمنه، وتأثر به كثير من الضباط العرب، كعبد الناصر. ولكن تحت كل هذه الظروف العسكرية والأمنية الصارمة، كيف سقطت دكتاتورية الشيشكلي، الذي لطالما رأينا هيمنته على السلاح الذي يقود الانقلابات في سوريا؟

يذكر العديد من الباحثين والسياسيين السوريين مجموعة عوامل سياسية وعسكرية أسهمت مجتمعةً في الانقلاب على حكم الشيشكلي:

  • أولاً، إلغاؤه لامتيازات شيوخ القبائل والشخصيات الوطنية، ما دفع قائد الثورة السورية الكبرى والبعثي سلطان باشا الأطرش إلى الانخراط في نشاط معارض نتيجة لهذه السياسات، فأمر الشيشكلي باعتقاله ما تسبّب في اندلاع مظاهرات احتجاجية في السويداء وإطلاق للنار، ونشوب مواجهات دامية راح ضحيتها مئات السوريين الدروز.

هذا الأمر دفع الشيشكلي إلى إرسال تعزيزات من الجيش وقوى الهجانة من عرب اللجاة (الذين كانوا على عداء دائم مع جبل الدروز وبينهم دماء وثارات)، كما أرسل قوة لإلقاء القبض على الأطرش، مما اضطره إلى المقاومة مع رفاقه ومن ثم اللجوء للأردن.

  • ثانياً، اعتماد الشيشكلي لسياسة التصفية والاستبعاد ضد ضباط الجيش الشركس والمسيحيين والعلويين، وهي المسألة التي فصلنا فيها في المقال الأول من هذه السلسلة.
  • ثالثاً، تسبّب إلغاء الشيشكلي للحياة السياسية وقمعه للصحافة وإهماله لقضية الفلاحين التي وعد بحلها، في إكسابه عداوة صديقه الحميم والقديم أكرم الحوراني، الذي تمتع بنفوذ واسع في صفوف الجيش وأوساط الضباط.

نفى الشيشكلي قادة البعث العربي الاشتراكي خارج سوريا، إضافةً إلى خلافاته مع حزب الشعب ومع هاشم الأتاسي، الذي فُرض عليه إقامة جبرية في الأيام الأخيرة قبل رحيله عن الحكم، وهو ما يفسّر الاندفاع الشديد من العقيد فيصل الأتاسي للمشاركة والتخطيط في الانقلاب، نتيجة علاقات القرابة التي تجمعهما، ففيصل يكون ابن أخيه لهاشم الأتاسي.

كل ذلك أسهم بتوحيد جهود هذه الأطراف السياسية والعسكرية للانقلاب على الشيشكلي، بينما صراعه مع الدروز اتخذ الوجه الأعنف لأنه تحوّل إلى تدخل عسكري.

عسكرياً، كانت الإطاحة بالشيشكلي مفاجئة حتى لمن قادوا الانقلاب ضده في 24 من شباط/ فبراير 1954. عادةً ما يُقاد الانقلاب في مرحلة الانقلابات التقليدية من العاصمة متبوعاً بالبيان رقم واحد، لكن هذه المرة، جاء الاستثناء من مدينة حلب، فقد سقط الشيشكلي تحت وطأة حصار مديني-أقلياتي على المدينة الدمشقية عاصمة الإذاعة الشهيرة ومبنى الأركان والبرلمان والمؤسسات السيادية للدولة السورية، ذلك أن الشيشكلي لم يدرك عملية التحوّل الدائرة في سوريا أثناء حكمه، فأصبح بالإمكان القيام بانقلاب من مدينة أخرى، بعدما حصّن حكمه في دمشق وهيمن على قواتها.

كانت مدينة حلب عاصمة الصراعات الاقتصادية والسياسية للبرجوازية السورية، لكنّها أصبحت مدينة الصراعات العسكرية أيضاً بدءاً من عام 1954، أولاً بسبب ارتفاع مستوى جاهزية اللواء الثاني في المدينة. وثانياً، وهو الأهم، ففي كانون الأول/ ديسمبر 1949، نشأت إذاعة حلب وأخذت تتطور معداتها وتستقر في مكان إقامة ثابت (تنقلت أكثر من مرة عام 1950)، ويذيع سيطها بين الجمهور السوري والعربي، حتى أصبح بالإمكان أن تكون هدفاً للانقلابيين كما تبيّن لاحقًا مع محاولات جاسم علوان بعد الانفصال عن مصر، وقيام حركات تمرد بداية حكم البعث بعد 1963.

فكما نعلم، لا يمكن للعمل الانقلابي أن ينجح دون إذاعة يُطلق منها بيان الانقلاب. هذا إذا ما فهمنا أن الانقلابات هي "لعبة تنسيق" كما يطلق عليها الباحث الأميركي ناونيهال سينج في كتابه المهم حول الانقلابات العسكرية "الاستيلاء على السلطة.. المنطق الاستراتيجي للانقلابات العسكرية":

"ولأن تعميم المعرفة المشتركة يمكن أن يؤدي إلى سلوك جمعي، فامتلاك وسائل خلق هذه المعرفة مهم جداً لأولئك الذين في السلطة أو أولئك الذين يتطلعون للوصول إليها [...] فخلق حقيقة ما، يتم بشكل مشترك من خلال الاستيلاء على منشأة الراديو أو محطة البث الأساسية والقيام بإعلان للاعبين الآخرين. والعكس بالعكس، فلإفشال محاولة انقلاب، تحتاج الحكومة أن تفعل العكس: إما أن تتمسك بمنشآت البث أولًا أو تبعد الانقلابين عنها، ثم تقوم بإعلان حكومي لخلق التوقعات بالبقاء المستمر للحكومة وفشل الانقلابيين.. إن الضباط الذين قابلتهم أكّدوا على أن السيطرة على إذاعة الراديو ضروري دائماً، لنجاح الانقلاب وأنه لولاه سيكون مصير الانقلاب الفشل. وبشكل واضح، هدف البث هو تمكين الانقلابيين من الاستيلاء على السلطة (أو الحكومة للحفاظ عليها)، وليس إقناع أفراد الجيش للانضمام (أو معارضة) الانقلاب ولا إقناع العامة بشرعية الانقلاب (أو غيابها). لذلك فما يهم ليس وصول البث للعامة بنطاق واسع، وإنما أن تكون المعلومات بالبث "عامة" داخل الجيش، أي أن يصبح محتوى البث معرفة مشتركة لأعضاء القوات المسلحة".

ولهذين السببين أصبحت حلب مدينة مركزية عسكرياً بفضل الإذاعة أولاً، ولتتطور قواتها ثانياً، لقد اجتمعت اللاذقية ودير الزور وحلب وحمص وسويداء ودرعا على إسقاط الشيشكلي، محاصرين العاصمة دمشق الموالية له، فقد عسكرت بعض القوات قرب العاصمة قادمة من حلب بقيادة المقدم بكري قطرش والنقيب فضل الله أبو منصور (كما يروي لنا في مذكراته)، في حين عسكرت قوات أخرى في دير الزور بقيادة أمين أبو عساف بعد أن نقله الشيشكلي إلى المنطقة الشرقية.

في حلب تمرّد العقيد فيصل الأتاسي والنقيب مصطفى حمدون، واعتقلا قائد حامية حلب العقيد عمر خان تمر، في حين عسكرت قوات في حمص بقيادة العقيد في سلاح المدفعية محمود شوكت، انضم هو الآخر بعدما ظلّ يُطمئن الشيشكلي على أنه موال له، خشيةً من قدرة الشيشكلي على إفشال الانقلاب وضعف حامية حمص في صد أي هجوم من كتيبة دبابات ترسلها دمشق (بحسب خالد العظم في مذكراته)، أمّا في درعا، فقد سيطر عليها أمين الحافظ واعتقل آمر اللواء ومحافظ درعا.

في المقابل بقيت كل قوات دمشق وأهم وحداتها مواليةً للشيشكلي، وكانت قادرةً على المواجهة بحكم ما تمتلك من القوة، لكن الشيشكلي آثر وترك دمشق حقناً لدماء الشعب والجيش السوري، وعلى الرغم من ذلك استمر ضباط الشيشكلي منهم: عبد الحق شحادة وحسين حدة في مقاومة الانقلابين من خلال إطلاق بيانات عسكرية من إذاعة دمشق حتى 27 من شباط/ فبراير، وانتهى الأمر بمساومات قادها رئيس الأركان شوكت شقير.