icon
التغطية الحية

الجيش السوري قبل الوحدة: جذور التسييس وقادح الانقلابات

2023.05.25 | 20:36 دمشق

آخر تحديث: 25.05.2023 | 20:36 دمشق

ءؤرلا
خريجو المدرسة العسكرية في حمص عام 1949
إسطنبول - أحمد مأمون
+A
حجم الخط
-A

يهل بين الحين والآخر من يفكر بكتابة تاريخ سوريا العام، فإما يبدأ من نهاية القرن التاسع، وتحديدًا من عام 1860 أي مع مذابح المسيحيين والدروز، أو انهيار الدولة العثمانية، أو مع الجلاء عام 1946، وأغلبهم يسعون للوصول إلى حقبة عائلة الأسد لإعادة تكرار أو تجميع ما كُتب من قبلهم، وانتهاءً بعام 2011 وانطلاق الثورات العربية. ويوحّد جل هذه المؤلفات السائلة أنها لا تدقق وتتفحص الحقب والتحولات التي مرت بها سوريا منذ الاستقلال إلى بداية حكم البعث عام 1963. فسوريا، هذه البلاد الحاضرة في الوجدان دومًا، عرفت مراحل وتحولات جذرية تتطلب الكثير من الأقلام لفهم مدى تعقيد المراحل اللاحقة للاستقلال والتي كانت الأساس للحقب التالية التي تأسست للنظام السلطوي، الذي نشأ رويدًا رويدًا.

فمثلًا، كثيرًا ما ينظر برومانسية للحقبة الواقعة بين الجلاء وانقلاب حسني الزعيم، على أنها مرحلة ديمقراطية ليبرالية، كما ينظر برومانسية أشد إلى المرحلة الممتدة بين سقوط أديب الشيشكلي 1954 حتى قيام الوحدة مع مصر عام 1958، والتي سبق أن عالجتها بالتفصيل في دراستي: "صراع الأجنحة السياسية داخل المؤسسة العسكرية السورية 1954-1958: من الانقلابات والتعددية السياسية"، الصادرة عن دورية سياسات عربية، أما الحقبة الأولى، والتي ترجع بالأساس إلى نشوء الجمهورية البرلمانية عام 1943، فقد عالجها مؤخرًا المؤرخ الفذ محمد جمال باروت في دراسته: "الإخفاق في بناء الدولة ونهاية الجمهورية البرلمانية الأولى والأخيرة في سورية" المنشورة في كتاب "الدولة العربية المعاصرة: بحوث نظرية ودراسات حالة" الصادر مؤخرًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

وقبل أن نعرج على أسباب انقلاب حسني الزعيم، وجذور تسييس الجيش السوري من الأساس، لا بد من قراءة الفقرة الأخيرة من دراسة باروت عن تلك المرحلة بين 1943 والانقلاب الأول، حين قال: "أطلق الانقلاب 'رصاصة الرحمة' على الجمهورية البرلمانية الأولى والأخيرة في تاريخ سورية، ليبدأ تاريخ الدولة التسلُّطية في سورية، وقد نجح ليس لأنه كان انقلاب الجيش كله [...] بل لأن الجمهورية البرلمانية كانت هشّة بالفعل، واشتملت مسبقًا على عوامل الجنوح كلها إلى التسلطية التي كشفها شعار "الزعيم الرئيس" وابتداع عيد جلوس، وإخفاق الوطنيين السوريين في عملية بناء الدولة، وهشاشة إيمانهم بالجمهورية، واستغلال نخبهم الحاكمة مقدرات الدولة لمصالحهم الخاصة، وحماية من أثرى على حساب المال العام وتمكينه من الإفلات من العقاب، وإطاحتهم الحريات العامة، واستخدامهم الجيش في التدخل في النزاعات المدنية والسياسية، وتعظيم المظالم المناطقية، وخرق الدستور أو الدفع إلى تعديله تلبية لشهوة الحكم، وأخيرًا التزوير الفاضح للانتخابات".

الجزء الأول من هذه السلسلة:

قادح رصاصة الرحمة

بجانب ما كشفه المؤرخ الفذ باروت فإن هناك مجموعة عوامل تضافرت لتدفع الجيش السوري إلى الانقلاب على الحكم المدني الحديث، تقع ما بين العوامل السوسيولوجية والاقتصادية التي ترتكز على التحليلات الطبقية بالدرجة الأولى، فأصول الضباط في معظمها ريفية، وابن الريف تحببه سياسات الإصلاح الزراعي والانشغال بقضايا الفلاحين مصدر انجذاب للانقلاب على الطبقات المهيمنة سياسيًا واجتماعيًا (البرجوازية المدينية وملاك الأراضي).

وشكلت عوامل سياسية دولية كمحاولات الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة، لإيقاف عمليات التسيس والانجراف نحو اليسار في سياق الحرب الباردة، وفي نطاق سياسات الحفاظ على الأمن الأمريكي، عاملًا أساسيًا لانقلابات العالم الثالث. في حين تذيلت هزيمة الجيوش العربية في حرب 1948 رأس قائمة الأسباب التي قادت إلى افتتاح ظاهرة الانقلابات العسكرية في العالم العربي.

فـ"تشخيص الضباط لأسباب الهزيمة وردة فعلهم عليها تقاطعت مع موقفهم من الوضع السياسي - الاجتماعي القائم". في حين وجد البعض في ضعف الأحزاب العقائدية وعدم قدرتها على الوصول إلى السلطة، دافعًا إلى تسيس الجيش وتجييره لصالحه للوصول إلى السلطة بعدما يئس من احتمالات الوصول إلى الحكم بالقوة الشعبية.

في هذه الأجواء السياسية والفكرية والاستقطابات الاجتماعية، تصدرت الأحداث المحلية واجهة المشهد السياسي، وشكلت القادح لاصطدام القوى العسكرية بالمدنية. دفعت صدمة الهزيمة عسكر المنطقة إلى الاعتقاد أن ما أدى إلى الهزيمة هو ضعف الساسة المدنيين، وسوء تدبيرهم، وإهمالهم للأجهزة العسكرية من حيث التسليح والتدريب.

وفي محاولة إلى رد الاعتبار الاجتماعي للمؤسسة العسكرية بعد الهزيمة، والتي أهينت من قبل السياسيين بوصم الجيش بالعار بشكل علني، هاجم النائب في البرلمان فيصل العسلي الجيش وأهانه على الملأ، في المقابل أحال رئيس الجمهورية شكري القوتلي ثلاثة عشر ضابطًا في الجيش من قسم إدارة التموين إلى السجن بعد فضيحة السمن المغشوش، وعلى رأسهم العقيد أنطون البستاني المقرب من رئيس الأركان حسني الزعيم، الأمر الذي أثار غضب فئات واسعة من ضباط وجنود الجيش السوري. فوقع انقلاب حسني الزعيم في 30 آذار/ مارس 1949، كما كان للعامل الدولي/ الإقليمي أهميته في انقلاب الزعيم، فقد قوبلت اتفاقية مدّ خط أنابيب التابلاين النفطية التابعة لشركة أرامكو السعودية-الأميركية عبر الأراضي السورية بالرفض من قبل وزير الاقتصاد خالد العظم، وبقيت اتفاقية الهدنة مع إسرائيل معلقة هي الأخرى، ما دفع أمريكا إلى البحث عن طرف يمكن أن يمرر لها مصالحها، وهو ما حصل بالفعل بعد الانقلاب، فصدّق قائد الانقلاب حسني الزعيم كلا الاتفاقيتين وأبرمهما.

ولكن كيف ومتى بدأ داء السياسة والأيديولوجيا ينخر المؤسسة العسكرية التي يجدر بها الالتزام بالاحترافية نظريًا؟

تسييس المؤسسة العسكرية

يُرجع عزمي بشارة جذور التسيس وتبنى الأيديولوجيات في أوساط الجيش السوري إلى الدورة الأولى من خريجي المدرسة العسكرية في حمص عام 1945، حيث انتشرت الأفكار اليسارية والقومية في معظم أوساط الجيش لتأخذ في التوسع مع نتائج الهزيمة في حرب 1948، ومع ولادة أولى حركة الانقلابات العسكرية في البلاد. فقد لعبت الأيديولوجيات والأحزاب الصاعدة كحزب البعث العربي، الذي أسسه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار عام 1947، والحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني عام 1951، دوراً مركزيًا في تسييس الجيش عبر خطابات القومية والدفاع عن حقوق العمال والفلاحين والطبقات الكادحة، إذ لقيت هذه الخطابات رواجًا في صفوف العسكريين المتحدرين من أصول فلاحية ولأبناء الطبقات الوسطى في المدينة والريف، في مواجهة الطبقات الحاكمة، التي هي طبقة كبار الملاك، لتطبيق برنامج الإصلاح الزراعي بالقوة.

وانجذبت قواعد واسعة في أوساط الجنود والضباط حول أكرم الحوراني، العسكريين من مدينة حماة (مسقط رأس الحوراني) تحديدًا، وامتدت قاعدة الحوراني بالتدريج في قرى حمص ومعرة النعمان وبعض قرى حلب. ووفق المؤرخ جمال باروت (في دراسته المهمة "حول الشعبوية "الحورانية" في سوريا"، 1990) فإن الضابط عبد الغني قنوت لعب دورًا أساسيًا بجانب الحوراني في عملية تسييس الضباط، بل في جر الحوراني إلى الحركات الانقلابية، بعدما كان يؤمن بالحركة الشعبية الفلاحية لا العسكرية.

وبالتالي تلاقت مصالح وأهداف حزبي البعث والاشتراكي - اللذين توحدا نهاية عام 1952 - مع قطاعات في الجيش. كما ساهم تصدع النخبة السياسية المدينية الليبرالية، كالكتلة الوطنية في الخمسينيات، التي كانت قد انشطرت إلى حزبي الشعب والوطني في عام 1947، إلى اتاحة المجال السياسي لهذه الأحزاب الهامشية بالتوسع.

لقي الحزب القومي السوري الاجتماعي الذي ينادي بالوطنية السورية ووحدة دول "الهلال الخصيب" بعض الرواج في الجيش، فجذب مثلًا تعاطف أديب الشيشكلي في السنوات الأولى من حكمه (1949-1954)، رغم إيمانه العميق بقيم الجمهورية المتعارضة مع العراق الملكي، لكن هذا الحضور بقيَ محدودًا، وسط الخطابات وصعود المد القومي العربي مقابل الوطنية السورية الضيقة.

وبالتالي، مع تورط سوريا في سلسلة الانقلابات، ووصوله إلى سدة الحكم، رأى الجيش أو قطاعاته التي تسعى إلى الهيمنة والبقاء في السلطة طويلًا، ضرورة التحالف مع أيديولوجيات. فكما ذهب بكل وجاهة خلدون النقيب وجاك ووديز أن الجيش ما إن يخرج من الثكنة لا يمكنه أن يبقى على حياد مع التيارات الأيديولوجية المنتشرة لفترة طويلة، فالبقاء في السلطة أو السعي إليها يتطلب التحالف مع أحد الأيديولوجيات أو الطبقات المهيمنة، وأن تدخله في السياسة والسيطرة على السلطة مرتبط بالنظم الاجتماعية والمؤسسات السياسية السائدة في المجتمع كالأحزاب والتيارات والتكتلات العقائدية والأيديولوجية.