الجوع الطرابلسي الذي تسعى السلطة لتحويله إلى سياسة

2021.01.30 | 00:05 دمشق

20210128_2_46607214_62026494.jpg
+A
حجم الخط
-A

السّلطات في لبنان وقوى الأمر الواقع الماليّة والحزبيّة تهوى المستحيل. تعمل على الدّوام على تحويل الأمور إلى نقائضها. تريد أن تفرض على الجوع اللّبنانيّ العام والطرابلسيّ الخاص ارتداء ثوب السّياسة، مع أن لا أحد يشكّ في أن الجوع يحمل في معناه وبنيته، تأكيدًا حاسمًا على موت السّياسة والعجز عن ممارستها.

لذا قد يكون من المفيد النّظر إلى القراءة السّائدة للمشهد الطرابلسيّ الّذي يغلي منذ أيام ويفرز مواجهات عنيفة بين القوى الأمنية وحشد من الجوعى المحتجين على إجراءات الإغلاق التّام، الّذي فرضته الدولة كإجراء إلزاميّ يهدف إلى الحدّ من انتشار وباء الكورونا.

ارتفعت وتيرة التصعيد ووصلت إلى درجة عالية حيث كانت حصيلتها ليلة الأربعاء 27 كانون الثّاني الجاري حوالي 227 إصابة. انفجر إثرها طوفان من التّحليلات يحرص على سحب الطّابع المطلبيّ والاحتجاجيّ عن التّحركات، ويصرّ على وصلها الحصريّ بمشاريع سياسيّة وإدراجها في سياق الصّراعات القائمة بين أقطابها.

انحصر النّظر إلى المشهد الطرابلسيّ في مفهوم الاستثمار السّياسيّ وصراع الأحزاب والتّيارات والأجهزة

جريدة الأخبار التّابعة لحزب الله عنونت افتتاحيّتها بـ"حرب الإخوة في طرابلس" في محاولة للتّأكيد على أن انفجار الشارع الطرابلسي ليس سوى أحد فصول الكباش  بين رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري وشقيقه بهاء الحريري الطّامح للدّخول إلى السّاحة السّياسيّة من البوابة السنيّة، ما يتطلّب سحب شرعيّة حضور شقيقه وتفكيك شعبيّته.

انحصر النّظر إلى المشهد الطرابلسيّ في مفهوم الاستثمار السّياسيّ وصراع الأحزاب والتّيارات والأجهزة، وبدا الجوع الفعليّ والحقيقيّ والّذي لا ينكر أحد حجم تفشّيه وانتشاره في قلب هذه البيئة وكأنه مجرد عنوان وهميّ وهامشيّ، لا يمكنه أن يشكّل مصدرًا للأحداث أو يفسّرها.

الحقيقيّ في نظر الإعلام ومحللي وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وأبطال التويتر، ونجوم الانستغرام، كان السّياسة ولا شيء سواها.

 لذا كان الرّصاص الحي الذي أطلق على المتظاهرين وتسبّب بوفاة الشّاب عمر طيبة مجرد سياسة، وكذلك القنبلة اليدوية التي استهدفت شعبة المعلومات وأدّت إلى إصابة مجموعة من عناصرها ومن ضمنهم رئيس شعبة المعلومات في الشّمال محمد عرب.

تستعمل هذه المفردة منذ فترة في لبنان في سياق يرتبط بدفع الأمور إلى حالة من التّجريد التّام الذي لا يمكن معه الحديث عن واقع أو عن مسؤوليات. بات مفهوم السّياسة وكل ما يتصل به بمنزلة خطاب مكرّس كليّ وشامل، لا يكف عن التّوسع واحتواء كل شيء يجري في البلد وإخفائه وتحويره وتزويره.

السّياسة لم تعد حاملة لأي معنى في البلد، ولا يمكن وصف أيّ صّراع يجري فيه بالسّياسيّ، لأن السّياسة هي آليّة ضبط وإدارة وليست آليّة إبادة. وجودها يفترض توفّر ظروفها وعناوينها، وهو ما بات مفتقدا في لبنان وفي المنطقة.

الإبادة ليست سياسة وما يجري بين السّلطة والنّاس في لبنان منذ أن سيطرت على مقاليد الأمور فيه ميليشيا إباديّة لا يحتمل أي درجة من درجات التّسييس.

إنها مجزرة مفتوحة تطمح دائما للتوسع والامتداد، ويعلم الجميع أنّ أوّل ضحاياها كان السّياسة، التي لم تمت وحسب في بلاد الأرز، بل إن سادية صنّاع المجزرة كانت تحاول في كل مرة تستعاد فيها هذه المفردة أن تحول الموضوع إلى حفلة تمثيل بجثتها. ليس أدلّ على ذلك من السّعي للتّمديد لرئيس الجمهورية ميشال عون في لحظة انفجار وباء الكورونا، وانتشار الجوع والانهيار الشّامل على كل المستويات.

لم يحسب قتلة السّياسة والأمن في البلاد حساب تسارع حركة الكارثة، والّتي يتوقع أن تنفجر في نهاية المطاف في وجوههم. ينتشر الجوع والغضب والموت على أبواب المستشفيات بوتيرة أعلى من كل قدرات الإدارة والتّوجيه وفرض التّأويلات وإخفاء الوقائع، وبذلك فإن الخطاب الوحيد القادر على اختراق أسوار التّباعد والتّباغض الطائفيّ والمناطقيّ قد وجد عنوانه الواضح في المشهد الطرابلسيّ وما أفرزه.

جوعى طرابلس هم المستقبل الذي تعده السّطلة لعموم اللّبنانيين، وذلك المشهد الّذي انتشر على وسائل الإعلام لفتى يدعو قوى الأمن إلى إطلاق النارعليه ليس استخفافا بالحياة ونزعة انتحاريّة، بل هو تعبير عن استحالتها في ظل وجود السّلطات المافيويّة القائمة.

هذه الاستحالة هي ما تبني عليه الميليشيا الإلهيّة الحاكمة مشروعها المرتبط بالحفاظ على ما تسميه بمقاومتها، وربما قد يكون من الضروري الشّروع في التّفكير بتحديد هويّة جمهور تلك المقاومة في ظل خلق مناخ إباديّ لا يمكن لأحد توقع أن تنجو بيئته الحاضنة منه.

الرّبط بين مشاريع حزب الله والمشهد الطرابلسيّ ليس اتّهامًا وتحليلا ووجهة نظر بل مجرد رسم لملامح مجزرة لا تتصّل بالسّياسة لا من قريب ولا من بعيد

الحزب الإلهيّ قد اختار منذ فترة بعيدة شعبه، وهو لا يتألّف من النّاس بل من الصّواريخ ومشغّليها وحسب، وتاليًا فان أيّ إبادة تطول البلد بناسه وأرضه وكلّ ما فيه لن تكون سوى انتصار في حال بقي ذلك الشّعب حيًّا يرزق.

المشهد الطرابلسيّ المؤهّل للانتشار ليس سوى علامة على ذلك النّزوع ومبشرا بحلوله في كل البلاد.

الرّبط بين مشاريع حزب الله والمشهد الطرابلسيّ ليس اتّهامًا وتحليلا ووجهة نظر بل مجرد رسم لملامح مجزرة لا تتصّل بالسّياسة لا من قريب ولا من بعيد، ولا مفرّ من النّظر إليها بوصفها الهيئة التي تتّخذها البلاد، والّتي رسمت دماء عمر طيبة الشاب الثّلاثيني الّذي سقط برصاص قوى الأمن ملامحها وحددت صفاتها.

كلمات مفتاحية