البراغماتية الإيرانية في مواجهة شعارات الحلف

2023.11.29 | 07:09 دمشق

آخر تحديث: 29.11.2023 | 07:09 دمشق

البراغماتية الإيرانية في مواجهة شعارات الحلف
+A
حجم الخط
-A

صدم جمهور ما يسمى بـ "حلف المقاومة" بالتراجع الإيراني عن الدخول في الحرب التي فرضتها عليهم حركة حماس في السابع من شهر أكتوبر المنصرم، حيث كانت التوقعات المرتفعة تفيد عبر دهاليز الإعلام الرسمي والشعبوي في "الحلف" بأن ساعة الحسم آتية وبأن مبدأ وحدة الساحات سوف يسهم في إلحاق هزيمة كبرى بالعدو، عبر شبكة من التحالفات الإقليمية بنتها طهران في أغلب البلدان العربية التي اجتاحتها ميليشياتها من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن، وعبر معارك كبرى خاضتها تلك الميليشيات التي ترفع شعارات "الثورة الإسلامية" في إيران، وفي سوريا عبر حرب دموية ضد فصائل "المعارضة السورية" وفي العراق عبر حرب أهلية طويلة وعدمية، وفي حرب طويلة ودامية في اليمن.

فكان الصوت الذي يبرر كل تلك الدماء يأتي عبر خطابات الناطق الإعلامي باسم حلف المقاومة وهو الأمين العام لحزب الله اللبناني، الذي أوكلت إليه عملية مخاطبة الجمهور العربي لقدرته الخطابية والتعبوية على حشد شعبويات الأمة العربية عبر اللعب على مفاتيح تهز الوجدان العربي، فكان التبرير بأن طريق القدس يمر عبر كل المناطق العربية آنفة الذكر، من حلب إلى الحسكة ودمشق وبعلبك وصنعاء وعمران والفلوجة وبغداد والموصل، بمعنى آخر أن لا تحرير للقدس ولا انتصاراً ممكناً في "حرب تحرير" فلسطين حسب وجهة نظره، إلا إذا تم الامساك أمنياً وعسكرياً وديمغرافياً بالدول المحيطة بفلسطين.

لم تقنع هذه الخطابات أغلبية الشارع العربي، ولكنها كانت مثل المخدر بالنسبة إلى البقية القليلة من أنصار ما يسمى "حلف المقاومة " ولكن معركة 7 أكتوبر أسقطت جميع هذه الحجج وأوضحت حجم الدم الذي سفكته إيران عبر أذرعها العربية مجاناً، وبأنه لا علاقة له أبداً بحرب وهمية ستخوضها عبر ميليشياتها.

العقل السياسي الإيراني يعلم جيداً الفرق بين الخطابات الشعبوية التي يلقيها مسؤولو "حلف المقاومة" على جمهورهم، وبين الواقع السياسي الحقيقي، الذي يعكس التوازن العسكري مع أميركا

لقد أثبتت البراغماتية الإيرانية أن كل تلك المليارات من الدولارات التي صرفتها وأنفقتها من المال الحكومي الإيراني ومن المال النفطي العراقي قد ذهبت هباء، وبأن مئات آلاف القتلى الذين سقطوا في حروب سيطرتها على دول الطوق العربي، قد ذهبوا مجاناً، فها هي الحرب قد أتت إليهم وقد رفضوها. لأن العقل السياسي الإيراني يعلم جيداً الفرق بين الخطابات الشعبوية التي يلقيها مسؤولو "حلف المقاومة" على جمهورهم، وبين الواقع السياسي الحقيقي، الذي يعكس التوازن العسكري مع أميركا التي استنُفرت بعد السابع من أكتوبر للدفاع عن ربيبتها في الشرق الأوسط، وحركت حاملات الطائرات التي أرسلت رسالة واضحة عبر الوسطاء بأن المشروع النووي الإيراني سوف يكون هدفاً مباشراً وبأن البنية التحتية الإيرانية المتهالكة أصلاً سوف تسحق، وتزيد الواقع الإيراني صعوبة وكارثية، خاصة أمام الجيل الشاب في إيران الذي ضاق ذرعاً بالفشل التنموي الذي حصل في العقدين الأخيرين نتيجة المغامرات الصبيانية التي خاضها قادة الحرس الثوري الإيراني، وأدت إلى تفاقم الحصار الاقتصادي وزيادة الانفاق العسكري في المنطقة كلها.

البراغماتية الخجولة التي يقودها أحد صقور إيران وهو الرئيس الإيراني نفسه، بدأت إبان التوقيع على التفاهم السعودي الإيراني تحت ظل الرعاية الصينية، والتي مفادها أن قبول إيران في المنطقة يجب أن يشمل قبول أذرعتها العسكرية ودخول الجميع في عملية سياسية شاملة تعيد ترتيب المنطقة، من دون أية خسائر تلحق بالأذرع قبل القلب في طهران، فتمت إعادة تدوير النظام السوري ضمن خطة عمل عربية تسمح بعودة المهجرين وبدء عملية سياسية تفضي إلى حل شامل للمسألة السورية، وإلحاق حزب الله بحكومة وحدة وطنية بعد ترسيم الحدود مع إسرائيل برياً وبحرياً، وذات الشيء مع الحوثيين في اليمن بحيث أن وفداً من الحوثي كان قد زار الرياض واجتمع مع خصوم الأمس، في العراق الحكومة يمكنها ببساطة تعديل توجهها المتفرد في السيطرة على الحياة السياسية العراقية، ولكن القسم الأكبر من الصفقة يتعلق بطبيعة الحال في إيران وعلاقتها مع المنطقة، فإيران لا تريد قبولاً إقليمياً بقدر حاجتها إلى التفاعل دولياً مع الولايات المتحدة نفسها، وبناء علاقة ندية معها، واشنطن لا تمانع ذلك، في ظل توتر العلاقة مع روسيا، ولكن الشروط الأميركية كبيرة، والمكافآت الأميركية ستكون مجزية لجهة عدم تدخل إيران في المعركة، ولجهة إنكار معرفتها بالعملية التي خاضتها حماس منفردة في السابع من أكتوبر، صرح بهذا حسن نصرالله مراراً في خطاباته، وصرح بذلك المرشد الإيراني خلال استقباله إسماعيل هنية في طهران، الخطوة التي اتخذتها إيران إلى الخلف، سيكون لها ثمن كبير كما تتمنى طهران، وأميركا مستعدة للتفاعل مع أية مبادرة تلجم انفلات الحرب في الشرق الأوسط فما يجري في أوروبا كاف والاستنزاف كبير في أوكرانيا.

أما الشعوب العربية والإيرانية فلا قيمة لرأيها ولا ثمن لدمها، في إطار الحروب التي يسفكها الطرفان الإيراني والإسرائيلي، في معركتهما الطويلة، دول الخليج كانت مبادرة لجهة تهدئة الأجواء، واستقبال الرئيس الإيراني في القمة العربية الإسلامية أتى في إطار تهيئة الأجواء لإيران، وموافقة الرئيس رئيسي على بيان القمة الختامي كان رداً فورياً على المبادرة العربية، فحل الدولتين بات حاجة إقليمية وليس فقط حاجة فلسطينية، وإيران لا تمانع، البراغماتية وصلت لذروتها، وما الحرب إلا ورقة ميدانية لتحريك طاولات الحوار، الإيرانيون يفهمون اللعبة جيداً، ويجيدونها، فالحروب دوماً تنتهي على طاولات المفاوضات، وإيران تقاتل عبر الأذرع من أجل حماية نظامها سابقاً، واليوم تفاوض بالنيابة عنهم من أجل رخاء اقتصادها، لا تكترث أبداً طهران لأمر الشعب السوري مثلاً، أو اليمني أو العراقي، فهذه مشكلة دول الخليج، فهي الموكلة بعملية إعادة بناء تلك الدول، حسب تصريحات المسؤولين الإيرانيين، ولكن عملية بناء إيران ستكون من نصيب الحكومة الإيرانية، والنظام الإسلامي فيها، تراقب إيران تطلعات شعبها، وتدرك أن جيل الشباب يراقب التطور في أذربيجان، والسعودية وقطر والإمارات وكازاخستان، وتركيا، وكلها دول مجاورة لها، وتدرك أن الوقت ليس في صالحها، إن أرادت نزع فتيل الانفجار الداخلي، لذلك لم تنجرف في معركة وجودية مع أميركا، وتركت حركة حماس تقاتل وحيدة، بعد أن تخلى عنها حتى حزب الله، ضمن قواعد الاشتباك المعروفة، في الضرب داخل العمق الإسرائيلي من دون التدخل الكبير برياً أو صاروخياً.

لا تزال تصريحات وزير الخارجية الإيراني ترسم أفقاً ثورياً يتماشى مع شعبوية النظام، ولكن أفعالها وبراغميتها دخلت في إطار العملية السياسية التي بدأت من غزة، ولن تنتهي إلا ببقية دول الشرق الأوسط الجديد

وافقت طهران في براغماتيتها المستحدثة على لاءات بلينكن، بل وأصرت عليها، وأيدت تصريحات بيرت ماكغورك حول مبادئ طوكيو الخمس في رفض التهجير القسري للشعب الفلسطيني من غزة، ورفض احتلال غزة مجدداً، ورفض تهديد أمن إسرائيل من غزة، ورفض حصار القطاع، ورفض تقليص أو إعادة ترسيم حدود غزة. الوسطاء أبلغوا الجانب القطري والإيراني بذلك بعد حوار المنامة، ووزراء الخارجية العرب كانوا مدركين أن المفاوضات لا تتم فقط مع الجانب الإسرائيلي وإنما جهود الدبلوماسية العربية كانت بالشراكة مع وزير الخارجية الأميركي منصبة لإقناع إيران بعدم توسيع رقعة المعركة فالحريق سيصيب الجميع، بمن فيهم إيران نفسها. وهذا ما وافقت عليه إيران ببيان النتائج وليس التصريحات.

فلا تزال تصريحات وزير الخارجية الإيراني ترسم أفقاً ثورياً يتماشى مع شعبوية النظام، ولكن أفعالها وبراغميتها دخلت في إطار العملية السياسية التي بدأت من غزة، ولن تنتهي إلا ببقية دول الشرق الأوسط الجديد.