الاهتمام الشعبي العربي بالانتخابات التركية.. رسائل في صندوق الأنظمة

2023.06.11 | 05:31 دمشق

الاهتمام الشعبي العربي بالانتخابات التركية.. رسائل في صندوق الأنظمة
+A
حجم الخط
-A

كثيراً ما حاولت الماكينة الإعلامية العربية الرسمية أو شبه الرسمية التشكيك بأهلية الشعوب العربية في ممارسة الديمقراطية، لتبرير سياسات القمع ومصادرة الحريات في العالم العربي، والتي أصبحت سمة عامة تميز المنطقة العربية عن بقية دول العالم.

وفي سبيل ترسيخ هذه الفكرة جندت الأنظمة العديد من المثقفين والباحثين والإعلاميين الذي يدورون في فلكها للتأكيد على فكرة قصور المجتمعات العربية، وعدم أهليتها في التعبير عن نفسها بحال سمحت هذه الأنظمة بهوامش حرية أكبر، وتركت لهذه الشعوب حرية اختيار من يمثلها من خلال عملية ديمقراطية حقيقية.

وطوال عقود مضت استمر الإعلام الرسمي العربي باتهام الديمقراطية بأنها منتج استعماري غربي الهدف منه زعزغة استقرار الأنظمة العربية "الوطنية" والتشويش عليها من خلال المطالبات المستمرة بمنح حريات أكبر لشعوبها، لكن هذه الفكرة سقطت بالتقادم، والأنظمة العربية لم تعجز عن إيجاد البديل من خلال مسرحيات انتخابية هزيلة الهدف منها محاولة إعطاء شرعية مفقودة لأنظمة الحكم القائمة.

تمكنت الشعوب العربية من الاطلاع على تجارب الشعوب الديمقراطية ومفهوم المواطنة وحقوق وواجبات المواطنة في الدولة الحديثة، ولم تكتف بالمتابعة، بل تفاعلت بشكل كبير مع هذه التجارب

ومع انكسار القيد الذي كانت تفرضه هذه الأنظمة على وسائل الإعلام بعد التطور الكبير في وسائل الاتصال الجديدة، تمكنت الشعوب العربية من الاطلاع على تجارب الشعوب الديمقراطية ومفهوم المواطنة وحقوق وواجبات المواطنة في الدولة الحديثة، ولم تكتف بالمتابعة، بل تفاعلت بشكل كبير مع هذه التجارب في رد عملي على كل ادعاءات هذه الأنظمة بأنها شعوب غير جديرة بممارسة الديمقراطية وغير مؤهلة بعد.

ومن الأمثلة الواضحة على هذا التفاعل كان الاهتمام الكبير والمنقطع النظير للجمهور العربي مع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي جرت خلال شهر أيار الماضي، حيث تابع الجمهور العربي بمختلف شرائحه وانتماءاته الانتخابات منذ الحملة الانتخابية وصولا للجولة الأولى وجولة الإعادة، وتفاعل مع تطوراتها من خلال المتابعة والتحليل والقراءة العميقة للمشهد الانتخابي التركي.

فمن خلال جولة بسيطة على مواقع التواصل الاجتماعي في اللغة العربية، يمكن لأي متابع أن يكتشف أن متابعة الجمهور العربي وبهذا الحجم للانتخابات التركية لم تكن حدثاً روتينياً، بل حمل في طياته رسائل واضحة المعالم لجميع الأنظمة العربية، تمثل في محورين رئيسيين:

الأول كان في حجم المتابعة والتفاعل مع الانتخابات التركية الذي لا يقارن بأي شكل من الأشكال مع مسرحيات الانتخابات الرئاسية والبرلمانية ذات الإخراج الرديء والمبتذل، بدءاً من الحملات الانتخابية المثيرة للغثيان والتي يطلق عليها "الأعراس الديمقراطية"، وصولاً للمرشحين الكومبارس الذين يخوضون هذه الانتخابات ضد الرئيس السابق الذي دائما ما يفوز بنسبة تتراوح بين 90- 99% من الأصوات، كذلك الأمر بالنسبة للانتخابات البرلمانية التي يحصل فيها الحزب الحاكم على أغلبية مريحة بالبرلمان، فيما تتوزع بقية المقاعد على بعض المستقلين الموالين وأحزاب تلعب دور الكومبارس هي الأخرى وتدور في فلك الحزب الحاكم، فكان الاهتمام الكبير بالانتخابات التركية مقابل عدم الاكتراث بأي انتخابات يجريها أي نظام عربي رسالة واضحة على وعي الجمهور العربي، ورسالة للأنظمة العربية بأن هذه الانتخابات ليست سوى مسرحيات سمجة تنتقص من ذهنية المواطن العربي وكرامته.

والمحور الثاني كان بطريقة التفاعل مع سير العملية الانتخابية وتحليلها، حيث يمكن لأي متابع أن يلحظ مدى النضج والدراية لدى شرائح كبيرة من رواد التواصل الاجتماعي العربي بآليات العملية الديمقراطية عكس ما تحاول الأنظمة العربية ترسيخه بأن المجتمع العربي غير ناضج بعد للممارسة الديمقراطية، فطوال الحملة الانتخابية ووصولا إلى الانتخابات الأولى وجولة الإعادة تفاعل الجمهور العربي مع تطور سير العملية الانتخابية وكان على دراية وفهم سليم لتأثير الحالة الاقتصادية والإيديولوجية والسياسية والحريات العامة على مزاج الناخب التركي، وأنه قادر هو الآخر إن أتيحت له الفرصة على إنجاح أي عملية ديمقراطية حقيقية.

يعتقد النظام العربي الرسمي أنه استطاع كسر إرادة الشعوب العربية التي ثارت للتغيير إبان موجات الربيع العربي، وما عودة نظام الأسد إلا محاولة لترسيخ انتصار هذا النظام على الربيع العربي

الانتخابات التركية لم تكن الأولى التي تحظى بمتابعة واهتمام من قبل الجمهور العربي، بل حظيت الانتخابات الأميركية أيضاً بمتابعة كبيرة هي الأخرى، كما تابع الجمهور العربي الانتخابات في معظم الدول الأوروبية، والذاكرة الجمعية العربية لا يمكنها أن تنسى التجربة الديمقراطية الحقيقية التي عاشها عالمنا العربي في عام 2012، وتمثلت بانتخابات الرئاسة المصرية والتي شهدت هي الأخرى جولة إعادة بين الرئيس المصري السابق محمد مرسي والمرشح الرئاسي أحمد شفيق، حيث حصل محمد مرسي على 51.73% من نسبة الأصوات مقابل 48.27%، وهي نسبة كانت جديدة على الثقافة السياسية العربية، التي لا تعرف معنى الرئيس المنتخب بل القائد الخالد أو الرئيس الراحل.

ختاماً.. يعتقد النظام العربي الرسمي أنه استطاع كسر إرادة الشعوب العربية التي ثارت للتغيير إبان موجات الربيع العربي، وما عودة نظام الأسد إلا محاولة لترسيخ انتصار هذا النظام على الربيع العربي، ورغم كل محاولات ماكينة النظام العربي الرسمي لتشويه ثورات الربيع العربي ووصم الثائرين بالتطرف والإرهاب وأنهم دعاة تخريب وتدمير وليس دعاة حرية وليسوا مؤهلين بعد لأي ممارسة ديمقراطية، إلا أن الاهتمام الشعبي العربي بالانتخابات التركية أوصل رسالة مفادها، بأنه سيبقى شعباً توّاقاً للديمقراطية أسوة بكل الشعوب المتقدمة، ويملك من الوعي ما يفوق كل محاولات التشويه التي تحاول الأنظمة العربية إلحاقها به.