الاستشراق ليس مؤامرة أجنبية!

2020.01.14 | 15:23 دمشق

2019928115121418.jpg
+A
حجم الخط
-A

ما هو الاستشراق؟ إنه ببساطة "مفاهيم الغرب عن الشرق"، أي كيف ينظر الغربيُّون إلينا، وكيف يدرسون بلداننا وتاريخنا وأدياننا وآدابنا ولغاتنا ومجتمعاتنا. وهو مبحثٌ لهُ أوّل وما لهُ آخر، وليست له حدودٌ دقيقة في الوقت ذاته، غذّتْه العلاقة المتوتّرة والتنافسيّة بين ما سُمّي "الشرق" و"الغرب" وأثّرتْ فيه، منذ أيام حروب الامبراطوريتين الفارسيّة والبيزنطيّة وحتى يومنا هذا.

الكتاب العُمدة في هذا المجال هو "الاستشراق" (1978) للمفكّر الفلسطيني إدوارد سعيد، والذي أحدث أثراً بالغاً في الأوساط الأكاديمية والثقافية الغربية، وافتتح البابَ لفروعٍ بحثية وأكاديمية جديدة، مثل "دراسات ما بعد الاستعمار" و"دراسات التابع".

ما طرحه سعيدٌ في هذا الكتاب الأشمل في مجاله؛ هو أنّ صورة "الشرق" لدى الغربيين لطالما كانت صورةً مشوّهة وغير حقيقية، صورةً مستمدّة من خيال الغربي وثقافته وغاياته أكثرَ من انتمائها إلى الواقعيّة والصدقيَّة. وقد لاحظ سعيدٌ كيف باتَ لكتابات الباحثين والأدباء والرحّالة الأوروبيين حول "الشرق"؛ سلطةٌ عليا في المراكز البحثية الأوروبية منذ أواخر القرن الثامن عشر، فصار الباحثُ الجديد المهتمّ بدراسة "الشرق" تاريخياً أو لغوياً واجتماعياً أو سياسياً... يتأثر بسلطة تلك الكتابات والأبحاث السابقة عليه، بل صار يعتمد على ما وردَ فيها أكثر من اعتماده على ما يراه ويدرسه ويبحث فيه. وهذا ما سمّاه سعيد "الموقفَ النَّصِّيَّ"، أي حين يغدو النصُّ هو المصدرَ الأعلى لاستقاء الحقائق، بدلاً من الواقع المدروس بالملاحظة والتجربة والاستنتاج العقلي، وهو يشبه ما نسمّيه في ثقافتنا بـ "ترجيح النقل على العقل". أما النقطة الثالثة والأخطر في طرح سعيد؛ فهي أن هذا الاستشراق، هذه الدراسة "للشرق" وتمثيله تمثيلاً مشوّهاً، هذه المعرفة التي يمتلكها "الغربُ" كقوّةٍ ومصدر سلطة؛ قد استُخدمت كأداةٍ في يد الاستعمار الأوروبي، وكوسيلةٍ لتبرير الاستعمار ثم الإمبريالية.

لكنّ ما حدث في الأوساط الثقافية العربية بعد هذا الكتاب، تلك الأوساط الـمُولَعة بنظريات المؤامرة على الأنظمة والأديان والأمم، هي أنهم صاروا يدمجون ما بين الاستشراق (دراسات الغربيين للشرق) والاستعمار والإمبريالية دمجاً كاملاً

لكنّ ما حدث في الأوساط الثقافية العربية بعد هذا الكتاب، تلك الأوساط الـمُولَعة بنظريات المؤامرة على الأنظمة والأديان والأمم، والتي غالباً ما تتألف من موظّفين تابعين لأنظمة الطُغيان العربية، ممّنْ يحلُو لهم إحالةُ جميع الكوارث التي تصيبُنا إلى "الغرب المتآمر"، بهدف تبرئة الأنظمة الحاكمة المسؤولة بالدرجة الأولى عن تلك الكوارث؛ هي أنهم صاروا يدمجون ما بين الاستشراق (دراسات الغربيين للشرق) والاستعمار والإمبريالية دمجاً كاملاً، ودون تمييزٍ ما بين المستشرقين وطروحاتهم ومناهجهم وخلفيّاتهم وغاياتهم. وهكذا صاروا يتّخذون من المستشرقين "موقفاً نصيّاً" (هو الموقف الذي نقدَهُ سعيد بالمناسبة)، فيستخدمون كلمة "مستشرق" كتهمةٍ جاهزة موجَّهة ضدّ الباحث، وعبارةَ "كلام المستشرقين" كحكمِ إدانةٍ مُسبق على آرائه وطروحاته. وهُم -كعادتهم ودأبهم منذ قرون- يرجّحون النقل على العقل.

في كل حال، لا يمكن لعاقل أن يتّهم جميعَ من بحثوا في تاريخ "الشرق" وحضاراته وأديانه وآدابه ولغاته... بأنهم متحيّزون أو عنصريّون أو مُسيَّسون، أو أنهم يخدمون الاستعمار والإمبريالية! فالمستشرقون مختلفو الاتجاهات ومتنوّعُو الأهداف والأهواء، منهم مَن يخدم دولته الاستعمارية فعلاً، ومنهم مَن هو محايد وموضوعيّ في دراسته وطرحه، ومنهم مَن يبحث في تاريخ "الشرق" أو أديانه أو آدابه بسبب حبّه وشَغَفه في هذا المجال البحثي العلمي. ولا بدَّ من التذكير بأن للمستشرقين أفضالاً علينا، منها -على سبيل المثال- أنهم اكتشفوا حضارات الشرق القديم التي نفاخر بها، وترجموا لنا نصوصَها من اللغات القديمة وعرّفونا بأهمّيتها.

ولهذا؛ فإنّ ذلك الموقف "الوطني" أو "القومي" أو "الإسلامي" الذي يتّهم المستشرقين قاطبةً، ويرفضُ بحوثهم ونظريّاتهم ومستكشفاتهم دون النظر فيها، وبحجّة أنها جزء من المؤامرة الكونية التي تحوكُها الإمبريالية؛ فهو يكشف كيف جعلَ هؤلاء من نقد الاستشراق ذريعةً لرفض العلم والمعرفة والتنوير، ولإبقاء الناس في جهل مُطبِقٍ ومتَوَارث، جهلٍ يبدو فيه وبسببه أولئك "الممانعون" وكأنهم "نخبة ثقافية"!

وعند النظر في الاتهامات التي يوجّهها هذا الصنف "القومجي" و"الممانعجي" إلى المستشرقين الأجانب، نجد أنها تنطبق عليهم وعلى غيرهم من مثقفينا بدرجة أكبر من أولئك الأجانب. لنبدأْ من اتّهام المستشرقين بالتبعيّة إلى سلطة سياسية والاشتغال الثقافي بما يخدم مصالحها، فإننا نجدُ هذه الظاهرة في ثقافتنا العربية منذ القديم حتى اليوم، أعني تبعية المثقفين لسلطة سياسيّة عربية أو أجنبية أو عربية خاضعة لأجنبية، واشتغالهم في خدمة مصالحها سواء تمثّلتْ في ترسيخ الاستبداد المحلّي أو تبرير التوسُّع الخارجي. وإذا انتقلنا إلى التحيّز العرقي والقومي والديني، فلا حاجة إلى ضرْبِ أمثلةٍ من ثقافتنا ومثقفينا نصادفُها كلَّ يوم! وأخيراً يأتي المضحك المبكي، وهو أن يخرج "باحث" من مُرتّبات "اتحاد الكتّاب- فرع المزّة"، ويتّهم باحثين أكاديميّين غربيّين بانعدام المنهجيّة العلمية، دون قراءتهم أو السماع بهم، وفي حين كانت جُلُّ معارفه عن العِلم والمنهج لم تتجاوز القرن الرابع للهجرة!

وعند النظر في الاتهامات التي يوجّهها هذا الصنف "القومجي" و"الممانعجي" إلى المستشرقين الأجانب، نجد أنها تنطبق عليهم وعلى غيرهم من مثقفينا بدرجة أكبر من أولئك الأجانب

في العام الماضي، صدر كتابٌ مهمّ عن "المركز العربيّ للأبحاث" في الدوحة، هو كتاب "في النظرية" للمفكّر الهندي-الأميركي إعجاز أحمد، بترجمة ثائر ديب، ويتضمن الكتاب نقداً جوهرياً لكتاب إدوارد سعيد "الاستشراق". تكمن أهميّة هذا النقد في كون الناقد (إعجاز أحمد) من أبناء العالم الثالث أولاً، ومعادياً للاستعمار والإمبريالية ثانياً، ولأنه ينتمي إلى التيار الفكري النقدي ذاته الذي ينتمي إليه سعيدٌ ثالثاً، أي يصحُّ في هذا النقد القول: "وشهدَ شاهدٌ من أهله".

ومن نُقُود إعجاز أحمد لعمل سعيد؛ هو أنّ العاطفة قد غلبتْ لديه على المحاكمة العقلية في بعض الأحيان، لكونه فلسطينياً مهجّراً من أرضه، ولأنه تعرّض خلال حياته في الولايات المتحدة إلى عديد من المواقف العنصرية والإقصائية، ناهيك عن التهديد بالقتل. ومن حيث أنّ سعيداً ينتقد الاستشراق الأوروبي، لأنه ينظرُ إلى "الشرق" ككتلةٍ واحدة متجانسة، متجاهلاً الاختلافات والتمايُزات الهائلة في هذا "الشرق" الشاسع، ويراهُ "شرقاً" ثابتاً بصفاته وخصائصه عبر مختلف العصور. لكنّ سعيداً نفسه سوف يتبنّى النظرة ذاتها تُجاه "الغرب"، فيراهُ "غرباً" واحداً ذا نظرة واحدة تُجاه "الشرق"؛ هي نظرةُ الاستعلاء والعنصرية والاستعمار، فيتحدّث عن خطاب استشراقيّ يمتدّ من اليونان القديم إلى القرن العشرين دون كثيرٍ من التغيير أو القطائع. أما النقد الجوهريّ الذي قدّمه إعجاز أحمد؛ فيَطُولُ المنهج الذي استخدمه سعيدٌ على طول كتابه الأشهر "الاستشراق".

مختصر الكلام؛ لا ينبغي لنا أن نتخذَ موقفاً مُسبقاً ضدّ الباحثين الغربيّين الذين يدرسُون تاريخنا وأدياننا ولغاتنا وآدابنا... فقط لكونهم أجانبَ أو مستشرقين! بل يجب أن نقرأهم وندرسَ أفكارهم وطروحاتهم ونظرياتهم بكلّ اهتمام، ثم نناقشها وننتقدها، ونرى ما لها وما عليها.