إعادة الإعمار السوري اجتماعياً ودور المؤثِّرِين عبر السوشال ميديا

2021.08.21 | 06:46 دمشق

1613578710uevw7.jpg
+A
حجم الخط
-A

المؤثّر عبر مواقع التواصل الاجتماعي هو الشخص/ ـة الذي ينشط ويتفاعل معه عدد من المتابعين، قد لا يقلون عن عشرة آلاف وقد يصلون إلى عشرات الملايين.

المؤثرون الرقميّون مُخْرَجٌ من مخرجات ثقافة السوشال ميديا، وهم الذين يكونون اليوم جزءاً كبيراً من وعي الناس والرأي العام، خاصة الأطفال والشباب في مختلف أنحاء العالم، بل كذلك باتوا يحددون سُلَّم القيم اليومية، والفاعلين في الحراك الاجتماعي اليومي، وساحة فاعليتهم هي ساحة الإنترنت، وهي مساحة تفاعلية باتت البشرية تقضي معظم وقتها فيها، بل ربما أكثر ممّا نقضيه مع البشر الآخرين في العالم الواقعي.

والمؤثرون من جهة أخرى هم قادة الرأي العام الجُدد، بدلاً من الزعامات التقليدية المتمثلة برجل الدين والمخابرات وشيخ العشيرة والوجيه والمفكر، دون أن يعني ذلك استبدال دور القادة الرسميين على مستوى الدول، لنقل بكلمات أخرى: إنهم سلطة اجتماعية ثانية مرادفة للعوامل المؤثرة تقليدياً، أو القادة المألوفين، وكثير منهم يركزون دورهم على الجانب الاجتماعي والحاجات والتفاصيل اليومية، كجزء من ثقافة الاستهلاك والفردانية التي تسيطر على الساحة العالمية، لكنهم من جهة أخرى هم شركاؤنا في تربية أطفالنا وتوجيه عاداتنا وتقاليدنا ولباسنا وشرابنا وطعامنا، بل في اختيار من نحبّ وصفاته وعوامل الجمال فيه، وغمازات خديه، وهناك من يقصر دوره على تأدية رسالة وهدف ورؤية.

وهناك دولٌ كان المؤثرون فيها مشايخ ورجال دين، لهم متابعون من عشرات الملايين، نجحت في استبدالهم بمؤثرين على مستوى الترفيه واستضافة المطربين، مستعملةً خطاباً شعبوياً، يفعل فعل السحر في عالم السوشال ميديا!

نجد أن حالة تعامل الدولة المعاصرة (الأوروبية مثلاً) مع هؤلاء المؤثرين هي حالة تصالح واستقطاب ومواكبة لحراكهم، وإدماج لهم في المؤسسات التقليدية لتنشيط دورها، والإفادة منهم، كأن تقوم الدولة الهولندية باستضافة "يوتيوبيرز مغربي" أو "مغني راب" للتأثير على الشباب المنحرفين من جذور مغاربية مثلاً، أي أن الإفادة منهم هي لما يخدم المجتمع ومؤسساته، لأن هذه الدول تجاوزت الحكم الاستبدادي.

  في المجتمعات المحافظة يُنظر إليهم، من خلال أربعة عيون:

  • الثقافة التقليدية المحافظة الأبوية، وفقاً للخطاب المضمر، ترى أنهم حالة مؤقتة ستزول، وأنهم ليسوا المصدر المؤثر، بل إن هناك من يرى أنهم جزء من إعلاء قيمة الشعبوية مقابل النخبوية.
  • الدول ذات النظام الشمولي، لا ترتاح لأي سلطة جديدة، لكنها تحاول أن تستوعبهم وتجرب شقاوتهم، فتطلب منهم أن يشيدوا بالزعيم وخياراته، ولمعرفتها أن المال هدفهم، فإنها تدعمهم بطريقة أو بأخرى.
  • المثقف والمفكر أُسقط في يده، ليس لديه المرونة لتقبل وجودهم كقوة ناشر غالباً للثقافة السطحية أو ثقافة التفاهة، لذلك يحاول أن ينمّطهم ويقرأهم ويرصدهم كظواهر، كثير من هؤلاء المثقفين يرتاحون حين يحولون العالم إلى ظواهر، حتى شقاوات الحب تغدو ظاهرة قابلة للدراسة، فيعفون أنفسهم من خوض المغامرات!
  • طبقة التجار ورجال الأعمال عبر مجسّاتهم السريعة، وحرفيّتهم، عدّوا المؤثرين خير جسر للتسويق الإلكتروني، فالتقطوا الكثير منهم وحققوا فوائد متبادلة، في ظل شيوع القطيعية الاستهلاكية، وأفادوا منهم وأفادوهم.
  • حراس الفضيلة ومفاهيم محددة للدين، صنعوا مؤثِّريهم، الذين يؤثرون فيمن يشاركهم القناعات والفكر والرؤى، لكن الكثير منهم عرفوا أو لم يعرفوا، أن معظم جمهورهم يتابع سراً الذين يسميهم بـ "التافهين"!

السؤال على المستوى الاجتماعي السوري هو: كيف نفيدُ من هؤلاء المؤثرين/ات على مستوى إعادة الإعمار السوري اجتماعياً، ومن هم أولئك المؤثرون على الساحة السورية في مناطق النظام والمعارضة والمناطق التي تحكمها قسد واللاجئين السوريين في تركيا وأوروبا، وهل من مؤثرين تجاوزوا المواقف السياسية، ولهم أثر على جميع قطاعات السوريين؟

يمكننا الحديث عن مؤشرات عامة تدلّ على هؤلاء المؤثرين، لأننا نفتقد إلى دراسات مفصلة، أو استقصائية، أو إحصائية ترصد أولئك المؤثرين، ومدى حجم دورهم وفاعليتهم، وإن كانت الملاحظة العيانيّة والتجربة تدلّ على أن أثرهم يكاد يتجاوز دور الآباء والأمهات وكل المؤثرين التقليديين، والميدان الذي ينشطون فيه تبعاً للأعمار والاهتمام، والمحتوى، والميدان من انستغرام "حيث الصورة والفيديو القصير"، إلى الفيسبوك "حيث الكلمة والفكر"، إلى التيك توك "الطعام والشراب واللباس والطرفة واللحظة العابرة"، خاصة أصحاب الأعمار الصغيرة"، وهناك مؤثرو التويتر (للمشهورين التقليديين غالباً)، ومؤثرو اليويتوب وهم مختلفو الانتماءات والمحتويات.

من أبرز المؤثرين السوريين اليوم، سارد يوميات عبر الانستغرام (مروة وأنس) أو مقدم اسكتشات (عمرو مسكون ولمى الأصيل وسليمان عاجي وفهد الشلهومي)، أو ممثلة تقدم أنوعاً من اللباس أو الإكسسورات (نسرين طافش مثلاً) أو مغني راب (إسماعيل تمر) أو مؤثر شعبي دون هدف (أبو طلق) أو سامر وحود في "البوبجي" وأم سيف كذلك، و"الرئيس" شرتح الذي يقدم اسكتشات سياسية. ورشا البيك كمدونة موضة، ورولا علوش وريم الحبال كمدونات مهتمات بالصحة. وهناك نمط آخر يركز على علاقة الرجل والمرأة (جود عقاد) أو ناشطة وراقصة مثل (دارين حليمة). وهناك مؤثرون يختصون بالطبخ مثل الشيف عمر، وشام الأصيل، وبنسبة ما: ملكة جزماتي.

 وهناك نمط يركز على الجوانب التربوية، لعل أبرز نموذج هي غزل بغدادي من خلال "علمتني كنز" حيث مرت تجربتها بمراحل عدة، واشتغلت على نفسها لتغدو مدربة تنمية بشرية وتربوية.

 وكذلك منشورات محمد حبش المدهشة وقراءاته ورؤاه الجديدة، وهناك محاولات لتوضيح مواقف سياسية من مثل يوتيوبات مشعل العدوي، وكذلك سمير متيني عبر قناته على اليوتيوب.. وحالياً في دول اللجوء نكاد نجد في كل جالية مؤثراً أو مؤثرات على مستويات محدودة.

بالتأكيد التوظيف لأولئك المؤثرين مهم جداً محلياً وعالمياً، فالفلسطينية الأميركية "ليا حديد" وظفت شهرتها في محاولة لفت النظر لأحداث الشيخ جراح

وفي عالم المؤثرين يوجد المؤثر المثقف والمؤثر العادي، منهم من يحمل رؤيا، ومنهم من لا يحمل سوى (الطاسة الضايعة) ولم يسمع بمصطلح الرؤيا والرؤية مطلقاً، وعادة ما يكون حظ البسطاء والشعبيين أكثر في عالم المؤثرين وأوسع انتشاراً، وعادة ما يقدم أولئك المؤثرون خدمات مهمة للعمل التطوعي كما فعلت غزل بغدادي مع فريق ملهم التطوعي.

بالتأكيد التوظيف لأولئك المؤثرين مهم جداً محلياً وعالمياً، فالفلسطينية الأميركية "ليا حديد" وظفت شهرتها في محاولة لفت النظر لأحداث الشيخ جراح، والأميركية الأرمنية "كيم كاردشيان" حاولت أن تلفت النظر إلى موقف بلادها من الحرب الأذرية الأرمنية.

وتسود في كواليس عالم الكثير من المؤثرين العديد من التفاصيل السرية والألاعيب و"الصندوق الأسود" التي يدرك بعضها المتابعون، لكنهم لا يكفون عن متابعة مشاهيرهم، كجزء من تكريس ما يدعى بثقافة التفاهة، خاصة أن ما يهتمون به ليس موقف أولئك المؤثرين أو رؤاهم، بل الحدث والدهشة الآنية والمتعة السريعة العابرة، ويروي أصدقاءُ عدد من أولئك المؤثرين وعارفوهم الكثير من الحكايات السرية عنهم وعن مواقفهم المعلنة والسرية، وحالات استغلال لمواقف إنسانية أجادوا توظيفها، وكيف أن الكثير منهم يلبس جلد الحرباء كي لا يفقد متابعيه، ولكن عدداً منهم اشتغل على نفسه وأدواته.

ومن اللافت أن النساء قد أفدن من السوشال ميديا ونجومها، أو صنعن نجومهن للدفاع عما يؤمن به وهو توظيف سليم يلفت النظر إلى أن وجود قنوات متساوية يجعل أصوات المظلومات تصل ولو بعد حين!

ولم تتمّ الإفادة المنتظرة من دور أولئك المؤثرين سوريّاً، خاصة أن الساحة السورية المعارضة على الأقل، مهيأة، نتيجة فعل الثورة، لكي تتخلخل بنى المجتمع القائمة بمختلف مرجعياتها وتمظهراتها، وتخلق حالة من اللايقين بكثير ممّا كان لا يأتيه الشكُّ من أمامه أو خلفه، وتحاولُ أن تحلّ بدلاً من تلك الثوابت قيماً جديدة، أكثر عصرنة، وملاءمة للثائرين. وهذا الذي يحدث في عهدها لا يُقبلُ حدوثه في حالات الاستقرار، التي يكون فيها الاقتراب من هذه الثوابت ممنوعاً، وتصحّ تلك الزاوية من المقاربة، خاصة، في الدول الشمولية، التي يحرص مستبدُّوها على عدم الصدام مع القوى الاجتماعية والدينية والفكرية المستقرّة، ما دامت لا تهدّد حكمهم، أو تتنازع معهم السلطات الرئيسية.

وقد أعطى تأخرُ انتصار الثورات عسكرياً، فرصة كبيرة لإحلال قيم جديدة، بدلاً من القديمة البالية، بمعنى آخر، إن الساحة صالحة لكي يأخذ المؤثرون المثقفون، أو أصحاب الرؤية مكانتهم وأثرهم، فيما يعيق حركة المجتمع، بعد أن تقاعد المثقف عن دوره، أو فقد أدوات التأثير والتفاعل فيمن حوله، سواء أكان السبب الثورة الرقمية، أو خطابه المتكلس.

ومما يساعد على قبول تلك القيم الجديدة، الشعور بالإحباط وخيبة الأمل والانكسار والتفكر بأسباب عدم النصر، فيلجأ المؤثِّرون المثقفون في المجتمع، كنوع من التعويض النفسي والبحث في فلسفة الأسباب العميقة لعدم الانتصار في اللحظة الموعودة، إلى إعادة قراءة الذات المجتمعية ومنجزها وكينونتها ووجودها، وهو أمر غير متاح لو حدثت لحظة نشوة الانتصار الثوري السريع، الذي تكشفه تجارب دول عربية أخرى، فارتدت على أنقاضها السابقة، وباء الانتصار السريع للثائرين، وبالاً على أنفسهم ومجتمعهم، وولَّد حالة نكوص لافتة، وكأن ثورة لم تقم، وكأن انتصاراً لم يحدث!

 من الطبيعي أنه قبل الوصول إلى مرحلة الإيمان بالتغيير والمراجعة، سيمرّ الحراك الاجتماعي بمرحلة من الصلف والإنكار والتحدي والمظلومية، وربما الانكسار، وكذلك البحث عن أسباب عدم الانتصار في الآخر، الذي ورط الحراك الاجتماعي، أو لم يقف بجانبه، أو لم ينصره كما تمنى الحراك وكما كانت عيونه تقرأ المشهد، لكن آجلاً أم عاجلاً سيصل معظم الثائرين إلى فكرة البحث عن أسباب عدم الانتصار في الذات المجتمعية قبل إلقاء التهم على الآخرين أو الظروف المحيطة.

هاهنا يكبر دور المؤثرين بالشأن العام، سواء أكانوا نجوم سوشال ميديا، أو سياسيين، أو مفكرين، أو رجال دين متنورين، أو إعلاميين، فالحراك الاجتماعي في مرحلة إعادة قراءة تحولات الذات وإشكالياتها، بحاجة إلى "مؤثرين" منبثقين منه، أو قريبين منه، وليس إلى قادة بعيدين عنه، جرّب حنظل قيادتهم ومآل ثقته بقدراتهم.

ما يسمح ببروز دور المؤثرين في المرحلة الحالية في مسار الثورة السورية أنها جاءت في مرحلة عهد السوشال ميديا، أي مرحلة التواصل عالمياً، والمقايسة، ومعرفة ما يحصل في كل مجتمع مباشرة، وكذلك حصول حالة اللجوء السوري، نتيجة الموقع الجغرافي لسوريا، التي مكنت مئات الألوف من السوريين من الخروج منها، وبالتالي معايشة تجارب ومعارف وشعوب وثقافات مختلفة كلياً، الكثير منها كان السوريون لا يعرفون عنه شيئاً، ومنها ما مُنعوا من التعرف إليه، نتيجة ترسيخ "يقين العداوة" الذي أفلح النظام بزراعته في نفوس السوريين، وقد انشغل به عشرات السنوات، وصوّر لهم الصندوق الذي كانوا يعيشون به أنه الأفضل والأجمل.

ولعله في ضوء ذلك نتفهم التردّد الذي أصاب النظام أشهراً، حول فتح الحدود والسماح بخروج الناس من سوريا، والمنع الإعلامي، لكن عصر المعلومات المسيطر، ورجحان كفة المستشارين الإيرانيين الذين حبذوا التخلص من الكتلة الشعبية الأكبر الحاضنة للثورة، والإبقاء على الخاصرة الشعبية الرخوة التي يمكن أن تقبل بالإذلال وفقاً لتقديرات أولئك الخبراء، أو لا تهوى المغامرة، أو لديها حسابات أخرى بحيث يسهل توظيفها مذهبياً أو مصلحياً كما يفعل الآن، في دير الزور أو حلب أو دمشق، جعل كفة هذا الحلّ الإكراهي مساراً يلجأ إليه النظام المستبد، بحيث إنه فتح الحدود للتخلص من تلك الحاضنة الشعبية الكبيرة، وفي الوقت نفسه، فتح على ذاته أبواب جهنم المعلوماتية، وثارات وشهوداً، سيقفون في وجهه ويحاججونه عقوداً طويلة.

أروم من خلال ذلك إلى ضرورة أن يعيد المثقف النظر بأدواته ووسائل التأثير في ضوء الثقافة المعاصرة الرقمية

ليس ما أدعو إليه ها هنا رغبة في إهدار قيمة الفلسفة والتفلسف، أو الرغبة بتفكيك دور المثقف التقليدي في ظل عالم الثقافة الرقمية والتفاعلية، بقدر كونه إشارة لكي يأخذ المؤثرون دورهم، ويقدموا مقترحات ورؤى، كي يتخفّف الحراك السوري من إلقاء اللوم على الآخرين، أو توزيع الأحكام وشهادات حسن السيرة والسلوك، وأن يقدم أولئك المؤثرون، "المثقفون" خاصة، كذلك مبادرات مجتمعية تعلي قيم الحرية الفردية والعامة، والدولة المدنية الديمقراطية، والتفسير المرن للجانب الديني بما يسمح له بمواكبة الحياة وليس الانكفاء على الماضي، بحيث يتمّ التركيز على مقاصد الشريعة العامة والخاصة من عدل ومساواة وعدم إساءة وحفظ الذات والآخر، وتسمح للفرد بأخذ زمام قراره من حدود المجتمع، ورفع الظلم عن المرأة وإعادة دورها المنتج لها (وهو مدخل أي تغيير)، هو أقرب إلى إعادة إعمار مجتمعي، قبل إعادة الإعمار الخدمية والسكنية التي تهم عالم الاستثمار، وفي الوقت نفسه أروم من خلال ذلك إلى ضرورة أن يعيد المثقف النظر بأدواته ووسائل التأثير في ضوء الثقافة المعاصرة الرقمية.

سيقول قائلٌ بعد أن يقرأ ما كتبته أعلاه: إنه زمان الرويبضة، وأننا في "آخر الزمان" حيث ينشغل أكاديمي مهتم بالشأن العام، بالحديث عن دور المؤثرين وكيفية الإفادة منه، بدلاً من تكريس دور القائد، أو الثقافة التقليدية الوصائية، أو الدعوة للتعويل على الأكاديمي!

 قد يكون الحقّ مع مثل هذا الرأي الذي يبدو أن "بيته الوجودي" لم يتأثر بمسار الثورة وليس بحاجة إلى إعادة إعمار، لكن هذا اليقين المعرفي أو الرؤيوي غادرني منذ زمان، وأحاول أن أعيد إعمار ذاتي، مرة باللجوء إلى إعادة إدماج لها، ومرة بإعادة النظر بمفاهيمها، ومرة بعيون قارئ، أو قارئة لطيفة!