إشعالُ فتيل الانتفاضات السورية الناعمة

2022.03.02 | 05:32 دمشق

159318283672839500.jpg
+A
حجم الخط
-A

من أبرز محصلات الربط المعمم بين عقلية النظام السوري القمعية ونفاقه حول علمانيته المزعومة، تفكيك الانتفاضة الشعبية إلى حزمة أزمات مطلبية متفرقة، بهدف تشويه ثورة السوريين وحرفها عن كونها حالة وطنية شاملة تنشد تغيير المناخ السياسي برمته. حينذاك وجد الشعب السوري نفسه في جمهورية وراثية حقيقية، وديمقراطية شكلية، ودساتير وهمية، وإعلام زائف، ومحاكم ظالمة لا تعرف وزناً لشيء. لذا لا نبالغ إذ نقول إنّ الثورة السورية كانت، حرفياً، "فنّ تحقيق المستحيل"، لكونها لحظة بركانية انفجارية، حرّرت طاقات ما كانت لتتحرر قبلاً، وتشحذ همماً وعزائم ما كانت لتنشحذ في ظروف أخرى، وتُخرج من المجتمع أجمل ما فيه وأنبله وأفضله.

عموماً حملت حركة الاحتجاج السورية في بداياتها سرديات مشرّفة عن الوحدة الوطنية، خاصة ما يتعلّق بتحجيم الطبيعة الطفيلية للقطاع الأمني، الذي كان يبرز على الدوام أسوأ التظلمات الاجتماعية ومشاعر الضيم الإنسانية القائمة. لنوضح الأمر.. في 17 فبراير/شباط عام 2011 انهال رجال من الشرطة بالضرب على ابنَي مالك أحد المحال في منطقة الحريقة في دمشق، وأثارت هذه الحادثة سخط الناس في المكان الذي تجمعوا فيه على الفور، وخرجوا بمظاهرة لم يكن مخططاً لها من قبل، ورددوا خلالها الشعار الشهير: "الشعب السوري ما بينذل". أدت هذه المظاهرة إلى مجيء وزير داخلية النظام السوري آنذاك، الذي تحاور مع المحتجين وسألهم عن مطالبهم، ثم وعد بإجراء تحقيق بشأن ما حدث للشابين. أيضاً في 16 آذار/مارس اعتقلت السلطات السورية عدداً من الفتية في مدينة درعا على خلفية كتابتهم شعار "إجاك الدور يا دكتور"، وبعد أيام على اعتقالهم ذهب الأهالي إلى الضابط المسؤول في الأمن السياسي وطالبوا بالإفراج عن أبنائهم، لكنه هددهم باعتقالهم واعتقال نسائهم.

التظاهرات الشعبية، العفوية والمغمورة، عادة ما تحوي بداخلها إمكانيات هائلة، فهي عندما تبني حيزاً شرعياً للتحرك السلمي تحاول أن تحصن هذا الحيز بحدود واضحة ومتينة للتغيير

في الحقيقة لم يكن من قبيل المصادفة، على الإطلاق، أن ترتبط شرارة الانتفاضة السورية بهذه الإهانات المعممة من قبل الأجهزة الأمنية والمخابراتية، التي تحولت إلى تقنية سلطوية هدفها بناء العلاقة بين نظام ظالم ومتعسّف وبين أبناء الشعب، كعلاقة سيد بعبد. وفعلياً كان خروج السوريين إلى الشوارع لتحدي سلطة من هذا النوع معجزة بالمعنى الحرفي للكلمة، ليس بسبب الرعب الذي عشش في الصدور، ولا بسبب الحضور الأمني والعسكري المكثف، فحسب، بل أكثر من ذلك، بسبب الشعور العميق الذي ترسخ في قلب كلّ سوريّ بالعجز، وعدم القدرة على فعل شيء تجاه نظام متوحش، ورجال أمن وقادة عتاة. وعليه فإن التظاهرات الشعبية، العفوية والمغمورة، عادة ما تحوي بداخلها إمكانيات هائلة، فهي عندما تبني حيزاً شرعياً للتحرك السلمي تحاول أن تحصن هذا الحيز بحدود واضحة ومتينة للتغيير. حدود ترسم للمجتمع خطواته اللاحقة بصورة مدروسة، تتسم بالعقلانية والواقعية، تفضي عبر خاصية التراكم إلى تقدم المجتمع وازدهاره. وثمة من يقول إنه في كلّ عصر من العصور شارك أشخاص عاديون في صناعة أعمال بطولية ساهمت في تغيير العالم، وهؤلاء يستحقون الاهتمام والإشادة.

 وهذا بطبيعة الحال يقودنا، وبشكل بديهي، للحديث عن آخر مستجدات الشارع السوري: "في مكان لا سلطة فيه ولا عمامة، ودعت نساء جرمانا ابنتهم بالأهازيج. رحلت، سارة اللحام، الشابة العشرينية من ريف دمشق لأسباب مجهولة. ولاختيار إنهاء الحياة في سوريا (اليوم) آلاف الأسباب التي لا يمكن حصرها، لكن تشييع جسد سارة وسط مشهد مهيب محاطة بنساء شجاعات من صديقات وزميلات الدراسة، قررن عدم السكوت على الظلم، وذلك بعد رفض مشايخ الطائفة الدرزية إقامة صلاة الميت على روحها، هو أكبر عزاء لها وأهم من شهادة ألف رجل دين". عند قراءة هذا الخبر سيتداخل بشدة مفهوم انتفاضة أولئك النسوة مع مفاهيم أخرى مقاربة، كالانقلاب على العادات والتقاليد، والتمرد على الشائع من الأخلاق العامة، والفتنة وربما الفوضى. وسأتجرأ على أن أسمّي مثل هذه التظاهرة العفوية المتواضعة باسم "انتفاضة ناعمة"، رغم أنها لم تعمل بعد على ترسيخ منظومة قيم اجتماعية جديدة تحدث قفزة نوعية في بنية المجتمع السوري المتهالك.

ورغم أنّ معيار الثورة، بالعموم، يقاس بحجم النقلة العميقة التي تحدثها على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي للمجتمعات. لكن لنكن واقعيين قليلاً، ولنسلّم أن هذه التظاهرة لا شك جاءت، وفي هذا التوقيت بالذات، تطهرنا من مخرجات مستنقع الخوف، وتصفعنا بألم لنستيقظ من غفلتنا المغفلة. هي تماماً تبدو كثقب صغير مضيء في مساحة شاسعة ظلماء.

بمعنى آخر هذه التظاهرة النسائية التي حصلت بصورة رومانسية ويتيمة، اكتسبت، حقيقة، مضموناً ثورياً، لقدرتها، إن تمخضت عن انتفاضات متلاحقة مماثلة، على التأسيس لمتغيرات جديدة. فالتغيرات الكبيرة تأتي من أدق التفاصيل، إذ غالباً ما يقف هذا النمط من التظاهرات الناعمة خلف "النقلات" التاريخية الكبرى في حياة الشعوب. وهل ننسى ثورة الورود التي قام بها الجورجيون عام 2003 ضد الرئيس إدوارد شيفردنادزة، الذي أجبر على الاستقالة بعدما اقتحم المحتجون البرلمان حاملين في أيديهم زهوراً دون إراقة قطرة دم واحدة؟.

في المقابل نستطيع التكهن أنّ هذه التظاهرة، في جوهرها، لم تأتِ احتجاجاً على قرار رجالات الدين، حرفياً، إنما تولدت من اتساع تلك الفجوة بين الشعارات والأيديولوجيات المطروحة وفشل وعجز قادتها، وما بين واقع الشعب الاقتصادي الذي يعيشه، ومنظومة القيم الاجتماعية السائدة التي تحكمه. تظاهرة مرت، لا شك، بفترة مخاض واختمار طويل، ﻭحتى ﺇﻥ لم تؤتِ ﺛﻤﺎﺭﻫﺎ ﺇﻻ بعد وقت يطول وقد يقصر، إلا أنّ لها دورا عظيما في هزّ الأخلاق العامة للشارع السوري وتقويم اعوجاجها بعد خيبات متلاحقة وأليمة.

تقول النبوءة: "إن الخراب عندما يمدّد ظله على البلاد، فثمة انتفاضة هائلة تحوم في الأجواء"

نافل القول إنه من الطبيعي وبعد مرور أكثر من عشر سنوات على اندلاع الثورة السورية، إجراء مراجعة هادئة وموضوعية لمثل هذه التظاهرات الصغيرة بعيداً عن سراب الآمال وسطوة التكهنات، وعدم التسرع في الحكم عليها حتى تنضج شروطها كاستحقاق داخلي في هذا البلد الخرِب. مع محاولة استشفاف تظاهرات حقيقية قادمة، دافعة ومحركة للضمير السوري، تقود الحراك الشعبي وتمده بموجات جديدة من الزخم الثوري، وصولاً لتحقيق المعنى الكامل للثورة التي اغتيلت.

تقول النبوءة: "إن الخراب عندما يمدّد ظله على البلاد، فثمة انتفاضة هائلة تحوم في الأجواء". وعليه فإن البلاد اليوم بحاجة لناس اكتووا بنار القهر بالدرجة الكافية لكي تنتفض قلوب جسورة، تمهد لانتفاضاتٍ خارج إطار مؤسسات الدولة، (الاحتجاجات، والعرائض، والعصيان المدني)، في أشكالها غير العُنفية، إذ تعتبر مثل هذه السياسات التنازعية عاملاً حاسماً في عملية المشاركة السياسية. وكما تدل تجارب بلدان أخرى، تشعل السياسات التنازعية فتيل تغيير بعيد المدى، وتؤثّر على الأنظمة السياسية مهما بلغت درجة جبروتها وتوحشها. وهذا يعني الانتقال من مسار الصراع الذي يعمل على نشر أوهام القوة الإقصائية المتمحورة على الخارج، إلى مسار التكون السوري في أطر إنسانية ووطنية. وشأنها شأن أي ممارسة سياسية رشيدة، ما تحتاج إليه سوريا اليوم هو القوة المعنوية، وصلابة الإرادة، والإيمان الراسخ بعدالة القضية، والإصرار على النصر مهما تكن التضحيات، لأن الثورة صراع وجود لا صراع حدود، وحركة مغالبة لا مطالبة.