أثر المستبد وإرثه

2024.03.06 | 07:06 دمشق

أثر المستبد وإرثه
+A
حجم الخط
-A

إذا ما أراد الهمج في "لوزيانة" نيل ثمرة قطعوا الشجرة من أسفلها واقتطفوا الثمرة، هذه هي الحكومة المستبدة. هكذا عرف العبقري "مونتسكيو" الحكومة المستبدة في كتابه الشهير "روح الشرائع". وفي سياق حديثه عن هذا النوع من الحكومات يذكر أن أحد الطغاة بلغ من الإرهاب ما صلح به حال الشعب بعض الصلاح في عهده، ثم يقول: وهكذا ترى السيل الذي يخرب كل شيء من ناحية يدع من ناحية أخرى حقولا ترى العين فيها بعض المروج من بعيد.

المبدأ الرئيس في الحكم المستبد أن يقضي الخوف على كل شجاعة فيطفئ حتى أدنى مشاعر الطموح. ويتم تعميم الخوف عن طريق التربية التي تقتصر على إلقاء الخوف في القلوب ومنح الروح معرفة ببعض مبادئ الدين البسيطة جدا. وتفترض الطاعة المتناهية جهلا متناهيا. لذلك، يلاحظ أن التعليم لدى الحكومات المستبدة يكون في أدنى حدوده وخاليا من أي حسّ نقدي، وهناك ينظر إلى الثقافة والمثقفين كعدو شديد الخطورة، وكأن "غوبلز" كان ينطق بلسان حال كل أنظمة الاستبداد عندما قال: "كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي".

نتيجة للوسائل التي تمتلكها وتتحكم بها (التعليم – الإعلام – التثقيف الحزبي – وغير ذلك) تستطيع أنظمة الاستبداد احتكار تقديم المعلومة الأولى في معظم المجالات. أي تلك المعلومات التي تأخذ صفة الثبات

يقول علماء النفس إن الإنسان الذي لا يجيد أسس التفكير النقدي فإن المعلومات التي تأتيه لأول مرة تلتصق بدماغه وتأخذ صفة الثبات، وتتجلى هذه الظاهرة بشكل واضح عند الأطفال لأن المخ عند صغار السن يكون غير ناضج. فالطفل يكتفي بإثبات صحة المعلومة بقوله: أمي قالت ذلك، أو معلمي قال ذلك، وهكذا.. وبناء على ذلك تسعى الأنظمة الاستبدادية جاهدة للحد من نضج المخ عند الرعية، فهم يرغبون في تصنيع إنسان يجيد التلقي ويعجز عن النقد أو الاعتراض، وهكذا تتمكن هذه الأنظمة عن طريق إعلامها وتعليمها أن تقنع الجماهير بأن بعض المروج التي خلفها السيل هي الخير كله، وأن الذي دمره السيل لا وجود أو لا أهمية له.

نتيجة للوسائل التي تمتلكها وتتحكم بها (التعليم – الإعلام – التثقيف الحزبي – وغير ذلك) تستطيع أنظمة الاستبداد احتكار تقديم المعلومة الأولى في معظم المجالات. أي تلك المعلومات التي تأخذ صفة الثبات، والتي تشكل الأسس التي يبني الإنسان معظم أفكاره حولها وعليها. ونتيجة لتجذر المعلومة الأولى وثباتها – بحسب علماء النفس – يلجأ الإنسان إلى ما يسمى بالانحياز التأكيدي. أي، تفضيل المعلومات التي تؤكد معتقداته السابقة. والأسوأ من ذلك أن تلك الأفكار والمعتقدات تشكل له ما يسمى بمنطقة الراحة. لذلك تراه يدافع عنها بشراسة وذعر عندما يجد من يشكك بها. وهكذا يدافع عن أفكار المستبد معتقدا أنه يدافع عن أفكاره.

وبالعودة إلى كتاب "روح الشرائع" و"مونتسكيو" فقد سجل ملاحظة مهمة تشكل مادة دسمة للإجابة عن السؤال الذي يسعى هذا المقال للإجابة عنه. يقول "مونتسكيو": "وكل بيت في الدول المستبدة إمبراطورية منفصلة، وتكون التربية، القائمة هنالك على عيش الإنسان مع الآخرين خاصة، محدودة إلى الغاية إذن". والمقال إذ يشير لما سجله "مونتسكيو" من ملاحظة منذ ما يقارب الثلاثمئة سنة يهدف للقول إن ظاهرة تشظي المجتمعات التي تخضع لحكم الاستبداد ظاهرة قديمة قدم الاستبداد ذاته. ظاهرة ملاصقة لهذا الشكل من أشكال الحكم. من هنا يجب ألا يستغرب عجز أفراد هذه المجتمعات عن العمل معا، وعن العمل الجماعي بالعموم.

إذن، فمن آثار حكم الاستبداد على الشعوب: إنسان غير ناضج، ومجتمع مفكك خائف يفتقر إلى روح المنافسة وأدنى درجات الطموح، مجتمع يفتقر إلى روح التعاون وأسس العمل الجماعي. مجتمع يكاد يخلو من فئة المثقفين؛ معارفه غير علمية وغير موضوعية تبنى على معلومات أولية هي في غالبيتها العظمى أنصاف حقائق أو أكاذيب مختلقة. وكأعراض جانبية للخوف والاستعباد ينتشر الكذب والنفاق والتملق والاستزلام. وأخيرا، كما أن عادات الشعب الحر جزء من حريته؛ فعادات الشعب المستعبد جزء من عبوديته. وهكذا فعادات الشعوب الخاضعة لحكم الاستبداد أقرب لعادات العبيد منها لعادات الأحرار.

ندما يزول الزعيم الأوحد دون وجود آلية واضحة لتنصيب آخر تدخل الدولة في مرحلة من الاضطراب وربما التفكك. فالبشر – بحسب أحد علماء النفس - عندما يتشاركون الإحساس بالدونية لا يحتملون أن يصعد واحد منهم، فذلك يصدمهم كأنه ظلم

بعد كل هذا الدمار للإنسان لا يستحي المستبد أن يقنع ضحاياه بأنهم شعب متفوق. شعب ألمعيّ عليه أن يعتدّ بنفسه ويستعلي على الآخرين. ولأن الإنسان بطبعه يحب المديح ويكره النقد يتلقف الجميع هذا الادّعاء ثم لا يلبث أن يتحول إلى قناعة راسخة يدافعون عنها بآلية التحيز التأكيدي ذاتها. فيبحثون عن بعض قصص النجاح لأبناء جلدتهم ويجعلون منها برهانا على تفوقهم المتوهَّم. ووهم التفوق هذا يرافق الشعوب المستعبدة حتى وإن زال المستبد؛ فقد أشارت إحدى الدراسات التي أجريت في ألمانيا إلى أن سكان المناطق التي كانت تخضع لحكم شمولي تحت مسمى "ألمانيا الشرقية" ما زالوا – رغم مرور ثلاثين عاما على توحد الألمانيتين – لديهم نزعة عنصرية ناتجة عن شعور بالتفوق.

ولكن، رغم هذا الجنون الجماعي (وهم التفوق) وفي تناقض صارخ؛ يشعر أفراد المجتمعات المستعبدة بنوع من الدونية أمام الزعيم أو القائد الأوحد، فهذا – غالبا - يقدم لهم كمخلوق أعلى من مرتبة البشر، أو أنه بشر استثنائي، أما البقية فهم سواسية بمفهوم ما (ربما الكل عبيد حتى رجالات الدولة). لذلك، عندما يزول الزعيم الأوحد دون وجود آلية واضحة لتنصيب آخر تدخل الدولة في مرحلة من الاضطراب وربما التفكك. فالبشر – بحسب أحد علماء النفس - عندما يتشاركون الإحساس بالدونية لا يحتملون أن يصعد واحد منهم، فذلك يصدمهم كأنه ظلم.

بالمختصر، يشكل إرث المستبد معضلة يصعب حلها عن طريق الحوار أو الإقناع أو أي وسيلة أخرى. الاستثناء الوحيد هو جهة تمتلك القوة ولديها الرغبة الصادقة في التخلص من هذا الإرث.