تفشي الكذب إحدى جرائم النظم القمعية

2024.03.19 | 04:07 دمشق

تفشي الكذب إحدى جرائم النظم القمعية
+A
حجم الخط
-A

الكذب لغة هو نقيض الصدق، وهو الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه في الواقع. أما تعريفه كمصطلح فغير متفق عليه، ولكن بحسب جامعة "ستانفورد" الأميركية، فإن أكثر تعريف مستخدم للكذب هو: أي تصريح، أو إفادة، أو إخبار معلومة يختلقها شخص لا يؤمن بها ولا يصدقها، مع وجود نية أن يصدقها الشخص الآخر المتلقي لها، ويعرف الكذب أيضاً بأنه أي عمل تواصلي يهدف إلى جعل المتلقي يتبنى أو يستمر في اعتقاد خاطئ.

من وجهة نظر "علم النفس التطوري" يعتبر أي سلوك يساعد البشر على البقاء والتكيف يستمر ويتطور، أما السلوك الذي لا يساعد على ذلك فيزول ويندثر. وبناء عليه؛ مازال البشر يحافظون على الكذب باعتباره سلوكا يساعدهم على التكيف والبقاء. ووجهة النظر هذه تبدو شديدة الإقناع، إذ لا يمكننا تصور مجتمع يخلو من الكذب تماما وأفراده يمكنهم التعايش بسلام، حيث لا أحد يكترث بمشاعر أحد سواء كان طفلا أو امرأة أو شيخا أو من ذوي الاحتياجات الخاصة، وهكذا دواليك..

حورب الكذب من قبل الأديان ومن قبل المدارس الأخلاقية على اختلاف مشاربها، وبات الكذب بوجهه القبيح مناف للأخلاق أو محرم لدى معظم الأمم

لكن البشر الذين حافظوا على هذا النوع من السلوك المساعد على التكيف؛ يبدو أنهم اكتشفوا منذ زمن بعيد أن الكذب ككثير من الأغذية قليله دواء وكثيره سم قاتل، وربما أيضا بعض أنواعه؛ فمنها ما هو مفيد ومنها ما هو مؤذ. فترى المجتمعات طورت كثيرا من الضوابط حتى لا ينفلت الكذب عن الحدود المقبولة ويصبح أداة تدمير للمجتمع، وهكذا حورب الكذب من قبل الأديان ومن قبل المدارس الأخلاقية على اختلاف مشاربها، وبات الكذب بوجهه القبيح مناف للأخلاق أو محرم لدى معظم الأمم.

يرجع العلماء الكذب على المستوى الفردي لعدة أسباب، كالتهرب من العقاب وتجنب الإحراج والحفاظ على المكانة، أو لهدف مادي أو لحالة مرضية ولغير ذلك من الأسباب. وهذه الظواهر موجودة عند كل المجتمعات بأعداد محدودة، وهذا طبيعي، ولكن المصيبة عندما تجد مجتمعات بأغلبيتها العظمى تكذب لدرجة أنك ترى فيها الصادق استثناء غير مرحب به، وتتجلى هذه الحالة بكل وضوح لدى المجتمعات الخاضعة لحكم قمعي، ففي مقابل وقاحة الفرد في ممارسة الكذب يتجسد الكذب في مجتمع القهر بشكل ممنهج وفق ضوابط أنظمته الاستبدادية.

يقول الدكتور مصطفى حجازي في كتابه القيّم "التخلف الاجتماعي" يمكن اعتبار الكذب والتضليل الذي تخضع له الجماهير المقهورة نوعا من استخدام أساليب السيد المتسلط في الخداع، إنه كذب متبادل بين الطرفين، السيد يكذب في وعوده للجماهير بالإصلاح والخطط الإنمائية والأخلاق والرقي والتقدم والمستقبل الأفضل، والجماهير من جهتها تكذب على السيد المتسلط وهي تخلع عليه أوصاف السيادة والمروءة والصلاح والبطولة. ثم يقوم الإنسان المقهور بتعميم ذلك الكذب على كل جوانب حياته، فينشأ وجود متخلف قائم على الكذب والخداع.

وفي روايته الشهيرة "1984" يورد الروائي البريطاني "جورج أورويل" عبارات ويرسم مشاهد تكشف طبيعة الكذب الذي يمارسه الحزب الشمولي وتداعياته الكارثية على الفرد والمجتمع، من ذلك قوله: لا بد لعضو الحزب أن يكذب متعمدا وهو يؤمن في قرارة نفسه بكذبه، وأن ينسى أي حقيقة باتت غير ملائمة.. ومن الضروري أن يمارس ازدواجية التفكير، ذلك أن المرء باستعماله هذه العبارة، إنما يعترف بأنه يتلاعب بالحقائق أجمع، كل مرة يلجأ فيها المرء لازدواجية التفكير (طمس الحقيقة) فإنه يطمس معرفة ما، وهكذا دواليك حتى تتراكم الأكاذيب وتجثم فوق الحقيقة.

مؤسف جدا أن تدفع أنظمة القمع - بشتى أشكالها – بشعوبها لأن تتخذ من الكذب الوبائي المدمر وسيلة للمحافظة على التكيف والبقاء

وعندما تتراكم الأكاذيب وتجثم فوق الحقيقة وتطمسها تتحول هذه الأكاذيب مع الزمن لمعارف ومعلومات تكتسب صفة الحقائق، وهكذا نكون أمام نوع آخر من الكذب لا ينطبق عليه تعريف الكذب، وخاصة في جزئية "لا يؤمن بها ولا يصدقها"، إذ يردد المرء في هذه الحالة أكاذيب لكنه يؤمن بها ويصدقها. وهكذا نكون أمام مجتمع يظلل الكذب جل علاقاته وسلوكه وحديثه، فهو إما يكذب ويعلم أنه يكذب، وإما يردد الأكاذيب معتقدا أنها حقائق، وتجد الكذب بنوعيه حيثما يممت وجهك، تراه في المنزل وفي السوق وفي الجامعة أو المدرسة، وتراه في المقاهي وفي الملاعب وعلى أرصفة الطرقات.

مؤسف جدا أن تدفع أنظمة القمع - بشتى أشكالها – بشعوبها لأن تتخذ من الكذب الوبائي المدمر وسيلة للمحافظة على التكيف والبقاء. والمؤسف أكثر أن تنطلي على هذه الشعوب كذبة لعلها من أكبر الأكاذيب، وهي أن الغرب (الديمقراطي) يكذب، وأن البقية هم الصادقون. لذلك لم يكن من المستغرب أن يخرج علينا أحد أخطر المستبدين ليقول بكل وقاحة: إن الغرب يكذب، ثم يتلقى النقد من معارضيه حول معظم ما تفوه به باستثناء قوله "إن الغرب يكذب". ذلك لأن الأغلبية الساحقة تؤمن بهذه المقولة. أو لنقل بعبارة أخرى؛ لأن الأغلبية صدقت هذه الأكذوبة رغم أن الواقع يثبت عكس ذلك.

أخيرا؛ ليس المقصود مما جاء في هذا المقال اتهاما أو توبيخا للشعوب المقهورة أو الحط من شأنها، فهذا موقف أو حكم مناف للأخلاق؛ إذ يتجه لتجريم الضحية بدلا من تجريم الجاني، ولكن القصد هو الإشارة للندبات والدمامل والقروح التي تتركها الأنظمة القمعية في جسد المجتمعات التي تحكمها. بمعنى آخر: الهدف هو تشخيص الحالة كمساعدة لمن يرغب في العلاج.