آلية الكشف الأممية وصوت العار

2023.07.05 | 07:06 دمشق

آلية الكشف الأممية وصوت العار
+A
حجم الخط
-A

يُحزِنُ السوريُّ ويؤلمه ويهزُّ كيانه موتُ حبيب أو دمار بيت أو تشَرُّدٌ أو فقر؛ ولكنَّ الأشدّ وطأة على روحه والمدمّر لكيانه، ألاّ يعرف إذا كان مَن يحب حيّاً أو ميتاً. إنها قصة المعتقلين والمفقودين والمغيّبين قسرياً. جَهِدَ السوريون أفراداً ومجموعات ومنظمات مجتمع مدني، وعبر مؤسسات دولية في التمسّك بخيط أمل؛ وعملوا جاهدين أن يكون هناك طريقة أو وسيلة أو أي آلية للكشف عن مصير هؤلاء.

وأخيراً، وفي الثامن والعشرين من حزيران، وصلت جهودهم لاستصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، قدمته "لوكسمبورغ"، بإنشاء آلية تسهم بإطفاء شيء من ذلك الجمر في قلوب الأهل. وكان اللجوء للجمعية العامة هرباً من مجلس الأمن، الذي أخذه بوتين رهينة باستخدام "الفيتو"، كي يحمي ويرافع عن منظومة الاستبداد الأسدية ثماني عشرة مرة خلال السنوات الماضية.

تقول التقديرات إن عدد المفقودين والمغيبين قسرياً يقارب مئة ألف سوري. وحقيقة الأمر، هم أكثر من ثلاثة أضعاف هذا الرقم. وبات معروفاً أن القسم الأكبر منهم قد قضى تحت التعذيب في معتقلات نظام الأسد؛ وشهادات قيصر وصوره، وما رواه "حفار القبور" كشاهد عيان، والمجازر الموثقة، وأفران سجن صيدنايا دلائل دامغة على ذلك. أما كيف وصل هؤلاء ليد النظام، فكان عبر الحواجز الطيارة والثابتة، وخلال الاعتقال العشوائي، لنشر الرعب. وكانت ذروة تلك الأفعال بين 2012 و2014.

خضع قرار تلك الآلية للتصويت في الجمعية العامة، ونجح. ولا يُتَوقّع أن يكون مصيره مختلفاً عن قرارات أخرى بخصوص سوريا؛ إذ رفضها "النظام" ممارسة وفعلاً، بما في ذلك القرار 2118 إثر استخدامه للسلاح الكيماوي؛ والذي حوى في طياته بنداً يشير إلى الفصل السابع، في حال استخدم النظام ذلك السلاح ثانية. إلا أن "النظام" استخدمه ثانية وثالثة؛ وتمّ توثيق ذلك؛ ولم يحدث شيء. وهذا القرار في إنشاء آلية للكشف عن المختفين والمغيبين قسرياً لن يختلف مصيره عن مثيلاته، بحكم أن ذلك سيكون وبالاً على "النظام"؛ ومع ذلك يبقى على الأقل إعلامياً تذكيراً بالجرائم التي ارتكبتها منظومة الاستبداد، وناقوساً يذكّر العالم أن هناك إجراماً، وتفلُّتاً من العدالة.

لقد كانت الذرائع والحجج التي ساقها هؤلاء لتبرير فعلتهم الذليلة الرذيلة، بأنهم ينهجون نهجاً سياسياً واقعياً عقلانياً لاستجلاب الأسد إلى حل من دون ضغوط

أسعدَ السوريين المكلومين مرور القرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم يستغربوا رفض نظام الاستبداد له؛ لأنه البوابة التي ستفتح أبواب جهنم على إجرامه؛ ولكن، ألاّ توافق دول عربية، قالت إنها تقترب من نظام الأسد من أجل إنقاذ الشعب السوري، فهو صادمٌ وجرحٌ مضاعفٌ.

لقد كانت الذرائع والحجج التي ساقها هؤلاء لتبرير فعلتهم الذليلة الرذيلة، بأنهم ينهجون نهجاً سياسياً واقعياً عقلانياً لاستجلاب الأسد إلى حل من دون ضغوط. ومسلكهم هذا يشبه تماماً ما ساقوه من حجج للتقارب والتطبيع مع نظام الأسد. فِعلُهم الإضافي هذا هو طَلَبُ ودّ الأسد، الذي عبّرَ سلفاً عن احتقاره لهم في قمّتهم، ووصفهم يوماً بأنصاف الرجال؛ وربما لا يراهم الآن حتى أشباه ذكور، لا أشباه رجال. والأخطر والأمرّ من ذلك النفاق المعيب كان محاولات تلك الأنظمة وضغوطها على بعض الدول لِثَنيها عن الموافقة، أو التمنع عن التصويت. والمفارقة أن إسرائيل لم تفعل ما فعلوا.

إذا كانت إحدى الذرائع التي ساقتها تلك السلطات العربية للاقتراب والتطبيع مع نظام الأسد قد قالت يوماً إنها من أجل إنقاذ السوريين، وخاصة اللاجئين وإعادتهم إلى بلادهم؛ فالموافقة والدفع بهذه الآلية يُسهم بالعناية والاهتمام بالشعب السوري؛ فما معنى المحايدة السلبية على تشكيل هذه الآلية؟! أليس ذلك دليلاً على الكذب في الحجة الأولى؟! ألا يثبت ذلك أن آخر اهتمامات تلك السلطات هو الشعب السوري، وإنما إنقاذ أنفسهم بإنقاذ زميلهم؟! لماذا يصرّون على عدائهم للشعب السوري، ويستمرون بادّعاء الحرص عليه، ويصرّون على لبوس العار، هذا الذي يصعب فهمه؟!

إن نتائج ومآلات وعقابيل هذا الانكشاف وخيمة جداً؛ وليس أقلها العداء والشروخ بين السوريين والشعوب العربية التي تدّعي تلك السلطات تمثيلها أو تفرض عليها نفسها بالقوة

حقيقة الأمر، هم لا يريدون لشبيههم المجرم أن يتكشّف أكثر؛ فهم نسخة واحدة بالطريقة والعقلية والنهج؛ ويخشون انكشاف أفعالهم المشابهة؛ حيث انتشار قرارات بآليات مشابهة وامتدادها إلى معتقلاتهم، مدمّر بالنسبة لهم. لقد كان هاجس تلك السلطات واهتمامها في مكان آخر؛ إذ إن الموافقة على آلية كهذه ستفتح الأبواب على خزائن الجماجم، فينكشف المستور.

إن نتائج ومآلات وعقابيل هذا الانكشاف وخيمة جداً؛ وليس أقلها العداء والشروخ بين السوريين والشعوب العربية التي تدّعي تلك السلطات تمثيلها أو تفرض عليها نفسها بالقوة. ما فعلته لا يُنسى، ويحفر في النفوس أبدياً؛ وكأنها مكلَّفةٌ رسمياً بصناعة هذه الشروخ. إذا كان الإخفاء والتغييب جريمة ضد الإنسانية، والقبول بها كارتكابها؛ فهم بفعلتهم يُثبتون عداءهم لحقوق الإنسان وشراكتهم بالجريمة.

سيعمل السوريون مع الشعب العربي الشريف في تلك الدول مستندين إلى رعب تلك السلطات من السوريين طلاّب الحرية، وعلى خوفها من شرفاء "شعوبها"؛ فهؤلاء هم النبراس والقدوة للخلاص من الطغيان. إرادة السوريين وعزيمة أولئك الشرفاء ستنقل حال الأمة من هذا الانحطاط إلى حالة إنسانية عادلة حضارية رشيدة تسهم في بناء الإنسان الخلاّق، لا بناء أبراج النذالة.