ازرع الإرهاب تجنِ النفط والمال

2019.10.29 | 18:52 دمشق

be02b967-dbec-44a1-b779-801056ee6955_16x9_1200x676.jpg
+A
حجم الخط
-A

اعتدنا في روايات وقصص الجريمة على أن يكون هناك جريمة موصوفة وأن تتفكك خيوط الجريمة ويظهر مرتكبها أو مرتكبوها في نهاية القصة بعد أن يلهث القارئ أو المتفرج خلف الأحداث التي غالبًا ما تكون مشوقة. 

لكن في أكثر القصص والروايات إثارة وإطالة لم يكن الحال كذلك، القصص التي يخطط لها ويطلق أشخاصها ويمسك ببوصلتها العالم القوي الجبار صاحب الاحتكارات ونزعة امتلاك مصير العالم والبشرية جمعاء. حصل ويحصل كل يوم، أحداث مسلسل الدمار وتهجير الشعوب ودمار الأوطان وانهيار الدول وتدمير الثقافة والتراث الإنساني تستمر، ويستمر الإعلام في عرضها وتضليل الشعوب.

ليست حكاية البغدادي الأولى ولن تكون الأخيرة، البغدادي واحد من شخصيات الدراما التي تُصنع وتُنتج وتُمنتج في استديوهات فائقة الدهاء والتقنية، هو واحدة من الشخصيات الشبحية التي شُكلت بمهارة حدّ الإقناع، فكانت الفزاعة التي شغلت العالم وغيّرت الواقع بمنتهى الفاعلية وزرعت ما يمكن أن يحرز فوزًا ونصرًا أكثر من أي حرب أخرى وبتكاليف أقل بكثير على منتجيها، إنها أحد أكثر الاستثمارات ربحًا.

يطل رئيس أقوى دولة في العالم ليزف إلى البشرية خبر إنجازه الجبار، مقتل أبي بكر البغدادي، الشبح الذي قض مضاجع العالم صغيرًا وكبيرًا على مدى سنوات خمس، الشخصية التي قالت: لقد وُلّيت عليكم، بعد أن أعلن قيام دولة الخلافة، دولة الإسلام في العراق والشام، بعد أن كان تنظيمه قد انبثق من الفج العميق ناضجًا مكتملاً لديه من القوة والسطوة والحيلة والمهارات والتقنيات ما جعل العالم كله يتوحد لمحاربته بأعتى جيوشه وأدهى سياسييه، وليصبح الهدف الذي يكرّس زعيم أقوى قوة في العالم بطلاً، ليس بالنسبة لشعبه فقط، بل بالنسبة للعالم، فقد صار البغدادي القضية الكبرى والأهم والأكثر إلحاحًا لهذا العالم القبيح المتوحش، صار البغدادي أهم من أرواح الأطفال التي زهقت على مرأى العالم، أهم من الشعوب التي تتغول في حياتها حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل لكنها الضحية والقربان على مذابح الجشع العالمي، البغدادي وقبله أسامة بن لادن والزرقاوي وغيرهم مما صنّعت القوى الرأسمالية والإمبريالية العالمية من أساطير الشرّ لتحكم قبضتها على مقدرات الشعوب، كلهم ليسوا أكثر من شخصيات من ورق، شخصيات كرتونية، شخصيات كأبطال الأفلام التي باتت تنتجها هوليود بشخصيات رقمية وتطرحها للاستهلاك البشري، وكل مرة يحسب لرئيس أميركي إنجاز بطولي يُحمّل العالمَ مجتمعًا جميله بواسطته، ليس فقط تحميل العالم جميله، بل إشهاره كقيمة أخلاقية تفوق كل المنظومات التي أنتجتها البشرية على مر تاريخها، إنه العمل الأنبل والأكثر شهامة، فهذا الشر المستطير الذي ألصق بالإسلام والمسلمين هو الخطر الأكبر على البشرية، وعلى بلاد المسلمين والشعوب المستضعفة أن تدفع الثمن صاغرة، الإسلام الذي سُخّرت لتشويهه المنابر والوسائط كلها، ورسم صورة عنه ترتبط بالعنف والقتل واستهداف البشرية متكئة على القرآن والشريعة، بينما الصورة الحقيقية للإسلام والمسلمين غابت أو غُيّبت ولم تعد شعوب الأرض تعرف عن الإسلام والمسلمين شيئًا غير هذه الشخصيات الشريرة المفبركة التي سلطت عليهم وهددت حياتهم وتوعدت بمستقبلهم.

لن ينتهي الإرهاب بموت البغدادي، هذا الموت المفبرك غير المقنع خاصة بالنسبة إلى القوى التي ما زال لديها ما تهتم به وتحارب من أجله

دول كثيرة صفقت للرئيس الأميركي وهو يزف الخبر للعالم بسرد يستهين بالعقول ويسخفها، واعتبرته ضربة للتنظيم الإرهابي ونقطة تحول في الحرب على الإرهاب. بلى، هي نقطة تحول في الحرب على الإرهاب، لكنها ليست قضاء عليه، فالإرهاب هو الشماعة التي استعملتها قوى الشر المتصارعة من أجل مصالحها فوق أراضينا وعلى حساب شعوبنا وأوطاننا، القوى التي ركبت موجات الانتفاضات الشعبية ودقت الأسافين بين مكونات الشعوب فحرفت حراكاتها عن أهدافها المحقة وجعلت من مطالبها المشروعة نقمة على الأوطان، ها هي القوى المتصارعة على سوريا لكل منها إرهابها الذي تحاربه، ولن ينتهي الإرهاب بموت البغدادي، هذا الموت المفبرك غير المقنع خاصة بالنسبة إلى القوى التي ما زال لديها ما تهتم به وتحارب من أجله، أما بالنسبة للرئيس الأميركي الذي اعتاد العالم على جرأته حد الوقاحة في القول والفعل فقد قالها بصريح العبارة ومن دون أي مجال للتأويل، بأن من الواجب أن يأخذ النفط بعد الإنجاز الذي قامت به بلاده، ولقد تعاقد مع شركات عالمية من أجل الأمر. الرئيس الذي لا يهتم للدور الذي يلعبه، بل يلعبه بكل فجور، مرة يلعب دور البلطجي، وأخرى دور الـ "بودي غارد" الذي يمنح عضلاته وقدرته على القتال لقاء المال، مهما كانت الشخصية التي يقدم لها الحماية، وليست تصريحاته لابتزاز مال النفط السعودي ببعيدة في الذاكرة. لقد انتهى دور شماعة الإرهاب بالنسبة إلى دونالد ترمب، كانت حقول النفط غايته فضلل شريحة واسعة من الشعب السوري في منطقة الجزيرة السورية بوعوده الخلبية وغدر بها، مثلما غيره ضلل وسيضلل ووعد وسيعد حتى تأتي الإرادة الدولية أمرًا كان مفعولا.

من المهم بالنسبة للرئيس الأميركي أن يضيف إلى رصيده كرئيس إنجازًا مثل هذا الإنجاز، فلقد نجح سلفه أوباما في القضاء خلال ولايته الرئاسية على أسامة بن لادن، الزعيم السابق لتنظيم القاعدة. لا فرق بين رئيس ورئيس للولايات المتحدة بالنسبة إلى العالم وقضايا الشعوب، فالمهم مصلحة أميركا، أمريكا الدولة العظمى التي قامت فوق أشلاء أصحاب الأرض وبنت مجدها على تلال جماجمهم، ومن ينتظر من أميركا او أي دولة تدور في فلك القوى العظمى التي تمتلك مصير البشرية، أو تلك الصاعدة ليكون لها موقع قدم في محافلها، أن تكون نصيرة الشعوب فهو واهم. أميركا وحلفاؤها من الأقوياء، وأندادها أيضًا، أولئك الطامحون بالسيطرة وبأن يكونوا دولاً كبرى، وكبرى فقط، لا يهمها مصير الشعوب، ولا حياة الأبرياء، ولا مستقبل الأمم، كل ما يهمها ضمان مصالحها وتدفق روافد قوتها، لذلك فإن مقتل البغدادي ليس أكثر من نهاية فصل في مسرحية أو دراما عالمية مفتوحة على الزمن اسمها "الإرهاب ومحاربته".

لقد قال دونالد ترمب المقبل على انتخابات في ظل أزمة ما بات يعرف بـ "أوكرانيا غيت" التي قد تصل تداعياتها إلى حد العصف بمستقبله السياسي، كما يتنبأ المراقبون، في أثناء زف الخبر للعالم عن مقتل البغدادي: إنه مفتاح لتحقيق السلام. بالفعل، هو مفتاح تحقيق سلام تم رسم ملامحه الأساسية باتفاق كل الأطراف الضالعة بالحروب في منطقتنا، ليست تركيا أو روسيا أو إيران أو حلفاء أميركا من دول الخليج ببعيدة عنه، إنه السلام الضامن لمصالح الأنظمة وليس الشعوب. 

لقد صدقت الشعوب، ومنها الشعب السوري أن هناك أصدقاء له، لكنهم لم يكونوا أصدقاء إلا لمصالحهم ولأجنداتهم وأدواتهم وحلفائهم وإدارة نزاعاتهم، أما الشعب السوري فقد كان الأداة والوسيلة، كان القربان وكان الثمن، وكان البغدادي وهناك الجولاني وسوف يأتي غيرهما بأسماء وألقاب مختلفة إنما لغاية واحدة هي الاستمرار في تكريس "الداعشية" وتجذيرها في المجتمع وصياغة وعي جمعي بها وبأساليب ممارساتها وإدارتها الحياة واحتكارها المجال العام، الداعشية كنهج وأسلوب تفكير لا يمكن ان تنتج حياة او أوطانًا قابلة للعيش، إنها نهج ضد المستقبل.

آن لنا أن نقف وقفة تأملية وننظر نظرة شاملة لواقع المنطقة: شعوب مظلومة مقهورة تنتفض لكرامتها والمسك بوجودها ومصيرها، وأنظمة مرتبطة لا تستطيع الانفكاك عن القوى الإقليمية والعالمية التي تدير اللعبة، حتى لو أرادت أن تكون في لحظة صحو واستنارة إلى جانب الشعوب وهذا أمر مستبعد. اليمن، سوريا، العراق، لبنان، ليبيا، مصر، الجزائر... مشهد مريع، لا منقذ لهذه الشعوب إلاّ أن تدرك كخطوة أولى أن لا أصدقاء لها غير نفسها، وعليها التوحد وتحديد أهدافها قبل كل شيء.