يوسف سلامة الأستاذ الذي لم يفارق جامعة دمشق

2024.03.09 | 07:02 دمشق

Youssef Salama
+A
حجم الخط
-A

لم ينشغل يوسف سلامة بالصفة التي يريد كثيرون أن يصفوه بها اليوم بعد رحيله، أو يجدوا سبيلاً للاختلاف حولها محبة أو سواها: معارض، مفكر، سياسي، أستاذ جامعي، شغيل ثقافة، رئيس تحرير، محب للحياة وجمالياتها، نديم سهر، عدو المخابرات أو صديقها إنْ كان ينتظر منها خدمة لطالب من طلابه مثلاً، زوج صالح، أب دافئ، سيد التفاصيل والمتابعة، المحنك الدبلوماسي.

ما كان يشغل الرجل قبل كل التوصيفات هو: ماذا نحن صانعون أمام هذا التعنت من قبل النظام السوري؟ هل "نروّح: سوريا من بين أيدينا مثلما راح غيرها؟ أم نبحث عن حلول مشتركة ونقدم رؤية ونكثف جهودنا معاً؟ وما دور كل منا في سياقه الذي وُجد فيه في تغيير المسارات؟ وهذا بالضبط ما يحتاجه المشهد السوري اليوم: أيْ وجود شخص يجمع، ولا يفرق، وشخصيات تستنفر الإيجابي عند السوريين وتعززه أكثر من حاجته لفلاسفة مشغولين بالنظريات.

وأمام انشغال الدكتور يوسف سلامة بهذا المشهد المتشابك وأسئلته؛ فإنه قد يعطي انطباعاً لدى كثيرين لا يعرفونه عن كثب أنه يهوى اللعب السياسي أو التواصل مع اتجاهات مختلفة كلياً أو ميال لدور سياسي أو راغب بالمركزية. أو أنه من النوع الذي يطوي صفحات معارفه سريعاً قبل أن يتم قراءتها، غير أن الأصح بتوصيفه، ربما، أنه ابن المشهد السوري بتحزباته وسلبياته وإيجابياته وتحالفاته وطعناته ونفوره ورضاه وألاعيبه. ولم يكن مشغولاً كثيراً بفكرة الأولية في المعارضة لأن الزمن عند الدكتور سلامة له مفهوم آخر، إنه زمان الإنجاز وليس زمان التوقيت، وما يهمه هو العمل على ما هو مقتنع به، غير مكترث بفكرة "تبييض الصفحات" عند من يجايلونه أو من هم في مقامه أو من طلابه.

يمكننا أن نختلف أو نتفق حول مؤلفات يوسف سلامة الفلسفية، أو مدى خصوصيتها، أو بصمتها، وهل كان لها من أثر خاص، أم أنها كانت محصلة الماجستير والدكتوراه فحسب، ولم يتجاوزها. وقد نتساءل عن خصوصية منجزه الفلسفي سواء أكان ضمن قسم الفلسفة في جامعة دمشق، أو ضمن سياق الجهود العربية. لكن قبل ذلك علينا أن نتذكر أن هذا لم يكن مسعاه أو هدفه الرئيس، بل كان يشغله أن يكون أستاذاً جامعياً يمارس فعل التفلسف مع طلابه ومعارفه كحالة تحريضية فاعلة عبر الحوارات الشفوية.

كان يكرر: أنا لست رجل سياسة بل مفكر ومقترح للحلول! أنا لا أتعاطى السياسة بالمفهوم المباشر أو أشارك فيها بل يكفيني أن أحرِّض الأفكار

كذلك يمكن أن نختلف أو نتفق حول مفهومه للمعارضة والسلطة في سوريا، وهل كان حقاً يعارض النظام السياسي، حين كان في دمشق أم أنه كان ميالاً لمعارضة تفتح باباً للحوار وتواصلاً وليس قطيعة مع السلطة بهدف تغييرها وتطويرها من الداخل، لأنه لم يكن يبحث عن فراغ السلطة أو يؤمن بنظرية الهدم والبداية الجديدة. ومن الطبيعي أن نختلف أو نتفق حول مواقفه ورؤاه حين خرج من سوريا بعد أكثر من سنتين من بداية ثورة عام 2011 من الثورة والمعارضة والنظام وما هي أفضل الحلول برأيه، خاصة أنه كان يحرص على المحافظة على مسافة من كثير من التكتلات السياسية، وهو الذي كان يكرر: أنا لست رجل سياسة بل مفكر ومقترح للحلول! أنا لا أتعاطى السياسة بالمفهوم المباشر أو أشارك فيها بل يكفيني أن أحرِّض الأفكار. لست معارضاً بالمفهوم الحركي أو التنظيمي، بل معارض بالمفهوم الفلسفي والنقدي والفكري والإنساني، وكيف لا يكون لمن يعمل بالفكر ألا يقف مع القيم الإنسانية التي تدعو إليها الثورات: من مثل العدالة والحرية والديمقراطية!

قد يختلف كثيرون أو يتفقون مع طريقة إدارة العمل العام والحرص على أن تكون الخيوط كلها بين يدي من يديرها، وأن مفهوم العمل الجماعي والفريق كان أقرب للفردانية وأقرب لمشكلات الشخصية السورية، فيتماهى مع المهمة، ومثل هذا التماهي فيه سلبيات وإيجابيات، من إيجابياته القوة التي يعطيها للعمل كي ينجح، ومن سلبياته أنه يغدو جزءاً من المهمة، ولا يسمح للشركاء بالمساس بها كأنه مساس بشخصيته المتماهية معها، فتحضر شراسة ردة الفعل وتبعاتها.

غير أن ما لا يختلف عليه معظم من عرف الدكتور يوسف سلامة أنه كان محركاً ثقافياً وإنسانياً بكل معنى الجملة، وكان رجل مشافهة بامتياز ومتحدثاً متمكناً. إذ على الرغم من مرور عقد من الزمان على سفره من سوريا إلا أنه بقي يتابع تفاصيل معظم طلابه وطالباته ولا يبخل عليهم بنصيحة أو ترشيح أو "استفقادة دافئة"، أو زيارة، أو لقاء وحوار ابتداء بشؤونهم الدراسية وانتهاء بتفاصيلهم الحياتية. ولم يكن يتحرج في الطلب من معارفه أو شبكة علاقاته في مساعدة طلابه أو طالباته للحصول على فرصة عمل أو سواها. لا مانع لديه من المجاملة والمسايرة غير أنه إنْ لم تحقق طلبه وسؤاله كان يتفهم الأمر ولا يغل أو يكيد في قلبه.

ما يمكن ملاحظته بيسر هو أنه كانت لديه أبوية عالية سواء تجاه أبنائه بالدم، حين يتحدث عن (رنيم وسليم وقاسم)، وقد أقام كل منهم في بلد (هولندا وبريطانيا والسويد). أو يتابع تفاصيل أبنائه من الطلاب والطالبات، أينما انتشروا، بل يحرص على متابعة تفاصيل كثيرين من معارفه والتدخل في شؤونهم العائلية بهدف البحث عن سبل للحلول أو الألفة. وأمام هذه الطباع الدافئة فمن الطبيعي أن تتلاشى الحدود مع كثير منهم، ويكبر حجم "المونة" بين الأب وأبنائه وبناته. فالأب يوسف سلامة يمون ويطلب ويساعد ويدافع، خاصة إذا كان هذا الأب يتمتع بحضور حار وسرعة بديهة وطرفة، وهو نديم جلسات يجعل السهر ذا معنى آخر. ولعل أهم ما يحضر بحضوره هو: الإرادة العالية، والهمة الحاضرة، والإقبال النهم على الحياة كأنه ابن العشرين وهو على أعتاب الثمانين: يتصل ويراسل ويحرض ويتابع ويستفقد ويعيش ويضحك!

والرجل نسيج نفسه إنسانياً وتواصلياً، عرفته عبر أكثر من ربع قرن في كلية الآداب بجامعة دمشق، وكذلك تزاملنا في المعهد الفرنسي (الإيفبو) وكم ترافقنا لنصعد بالسرافيس، حيث أوصله إلى سرفيس المخيم، بعد جلسة حوار ونقاش يتخللها مرات كثيرة طعام أو شراب. وشاءت ظروف الحياة أن يزورني في هولندا غير مرة وأن نتعرف معاً إلى الكثير من تفاصيلنا الخاصة مما كنا نتهيب الحديث عنه حين كنا في سوريا، وهو الذي يتقاطع عنده الخاص بالعام، وقد كانت بيننا لحظات جميلة في الدوحة وإسطنبول قبل شهور قليلة بحضور أصدقاء سبق أن درَّسهم قبل ثلاثين عاماً، لكنهم يتعاملون معه كأنهم لا يزالون على مقاعد الدراسة احتراماً وعرفاناً بالجميل، وتذكراً لأيام من الزمن القديم، أو مستقبل سوريا.

ما أكثر سبل اشتعال النار والاختلاف بين السوريين الذين يمرون بمرحلة حرب ولجوء وانكسار لذلك فإن قابليتهم للاشتعال والعطب أحياناً سريعة

غير أن ذلك لا يعني؛ مهما كنت قريباً منه، أنكَ لن تجد سبلاً للاختلاف معه، أو نقاطاً لا تروق لك في نمط شخصيته أو العكس، فما دامت العقول تعمل وتجتهد وتفكر وتنتقد فلا بد أن تختلف وتخطئ وتصيب (كما كان يردد دائماً)، وفي هذ المجال قد يصبح لدى أي منا فريقه أو شلته ممن لا يقولون: لا، مداراة لامتيازاتهم المسلفنة بسلوفان الوفاء للأستذة ربما، وقد تدخل في تنافر مع هذا أو ذاك، أو قد تتقاطع مصالحك مع مصالحهم أو ينسبك شخص ما لثقافة "اضرب واهرب" وأن يكون هناك من لا يرتاح لطريقة عملك، أو يتخذ من النفور منك طريقاً لتوصيفك. بخاصة إنْ وُجِدَ من مهنته "صب الزيت على النار"، وما أكثر سبل اشتعال النار والاختلاف بين السوريين الذين يمرون بمرحلة حرب ولجوء وانكسار لذلك فإن قابليتهم للاشتعال والعطب أحياناً سريعة، وقد تكون غير مسوّغة أو مفهومة! وكان الرجل يشتكي، كونه مسؤولاً عن منبر للنشر وفيه جانب مادي، بأن الناس إبان المنافع المادية قد يسايرون حتى يصبحوا "مسيحة جوخ" أو يعادون حتى يفجروا في الخصومة!

كثيرون منا نحن المنشغلين في المشهد السوري، إبان العمل، قد نغدو مركزيين ومتقوقعين، وقد تميل آذاننا لمن ينقل لنا الأخبار الباطلة أو ممن يعيش على الفتن، قد نظلم ونتحزب، أو نندفع ونتهور، قد تخيفنا الدولة العميقة "أو الشلة العميقة" في هذه المؤسسة أو تلك، من المهم أن ننتبه، ونحن نسير نحو قناعاتنا وطرقنا ألا نظلم، أو نضرب "الآخر الغائب أو المستغني" ضربة أقرب للطعنة التي لم يتوقعها من أمن ظهره لنا. خاصة أن "ذلك الغائب" لم يدر أنكَ كنت تنتظر اللحظة المناسبة لتوجه ضربتك الأخيرة، وما دريتَ أن ارتداداتها قد تكون أخيرة عليك أنت!

بدا الدكتور يوسف سلامة، في مواضع كثيرة من سلوكاته ذلك الأستاذ الذي لم يفارق مدرجات جامعة دمشق. وفي مواضع أخرى كأنه ذلك الطفل، ابن "السنتين" لم يخرج من فلسطين لاجئاً نحو سوريا ولا تزال تسكنه بحضورها الرمزي. غير أنه في حالات كثيرة كان رجلاً داهية، والداهية عند العرب: الرجل العاقل، جيّدُ الرأي، المتبصر بالأمور.