نظرة في السياق العام للموقف الأميركي من الملف السوري

2024.05.08 | 06:26 دمشق

77777777777777777774245242
+A
حجم الخط
-A

في عام 2005 صدر كتاب لأستاذ العلوم السياسية الأميركي "والتر راسل ميد" يحمل عنوان "السياسة الخارجية الأميركية وكيف غيرت العالم". وفي هذا الكتاب اعتبر "ميد" أن السياسة الخارجية الأميركية منذ نشأة الولايات المتحدة وحتى تاريخ إصدار الكتاب امتازت بأربعة توجهات واضحة، ونسب كل توجه لرئيس أميركي صاحب رؤية متمايزة عن غيرها، وعرض كل واحدة منها مبرزا السمات الرئيسية لكل منها. وهذه التوجهات الأربعة كما يرى "ميد" هي:

1 - "الهاملتونية": نسبة للرئيس "ألكسندر هاملتون" الذي كان يرى أن التجارة هي القاطرة الأساسية للعلاقات الخارجية الأميركية، وكان يعتقد أن على الولايات المتحدة أن تكون إمبراطورية مترامية الأطراف مشغولة بتأمين مصالحها التجارية ومصالح شركاتها الكبرى التي ستكون العمود الفقري لاقتصادها. وكان لدى هاملتون تصوراً يقول إن العالم عندما تتشابك مصالحه التجارية سوف يصبح أقل رغبة في الحرب.

2 - "الويلسونية": نسبة للرئيس "وودرو ويلسون" الذي كان يعتقد أن المحرك الأساسي للسياسة الخارجية الأميركية يجب أن يكون نشر أميركا للقيم الرئيسية للولايات المتحدة وهي: قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ونشر اقتصاد السوق أو الرأسمالية. وللوصول إلى ذلك على الولايات المتحدة أن تقوي تحالفاتها مع الدول التي تعتنق مبادئها وأفكارها (وأميركا بهذه الحالة تحمي مصالحها) فهي كلما سعت إلى نشر هذه القيم بل وفرضها أحيانا على بعض الدول فسوف تصبح محاطة بدول مشابهة ومرحبة بأفكارها. وبالتالي لن تهددها.

3 - "الجيفرسونية": نسبة للرئيس الأميركي "توماس جيفرسون" الذي كان يخالف توجهات "هاملتون" و"ويلسون"، ويعتقد أن أميركا يجب أن تحترم خصوصيات الشعوب الأخرى، وأنه يجب على أميركا ألا تتدخل في مغامرات خارجية؛ فوظيفة الولايات المتحدة ليست أن تفرض الديمقراطية على الشعوب الأخرى، ولا أن تتبع مصالح شركاتها؛ ففرض الديمقراطية سيورطها في مشكلات ربما تهدد أمنها القومي، أما تتبع مصالح الشركات فهذا قد يقوض الديمقراطية في الداخل والخارج، فالشركات معنية بالربح، وهي قد تتورط في دعم أنظمة ديكتاتورية.

4 - "الجاكسونية": نسبة للرئيس الأميركي "أندرو جاكسون" الذي يرفض أفكار هاملتون وويلسون ويتفق جزئيا مع أفكار جيفيرسون فجاكسون يريد "الانعزال"؛ ليس من أجل احترام خصوصية الآخر، ولكن لأن أميركا غير معنية بالعالم الخارجي بالأساس، و"الجاكسونية" رفعت شعار "عش ودع الآخر يعش".

ويعتبر الهدف الأساسي لأفكار جاكسون هو رفاهية المواطن الأميركي بالدرجة الأولى، وعلاقته بالعالم الخارجي محدودة وهو لا يمانع في إقامة علاقات تجارية مع العالم إن كانت ستحقق نفعا مباشرا للمواطن الأميركي وليس للشركات ورجال الأعمال الأميركان. وكجزء من الفلسفة الجاكسونية: إن أميركا لا يجب أن يكون لديها حلفاء؛ لأن إقامة التحالفات قد يورط أميركا في صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل.

أفكار "ويلسون" و"هاملتون" هما اللتان تصدرتا المشهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن.

عندما نسقط هذه الأفكار على أرض الواقع سنلاحظ أن أفكار "ويلسون" و"هاملتون" هما اللتان تصدرتا المشهد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. وبالنسبة لأفكار "جيفرسون" فقد اقتصرت على الناس المثاليين الرافضين للتدخل في الحروب، أما أفكار جاكسون فيمكن القول إنها اندثرت من السياسة الخارجية الأميركية وظلت كذلك حتى عام 2016 عندما جاء الرئيس ترامب الذي أحيا الأفكار الجاكسونية وتماهى معها لأبعد حد. والجاكسونيون (الانعزاليون) فئة موجودة في المجتمع الأميركي و"ولتر راسيل ميد" يعتقد أنها أكثر الفئات تأثيرا في المجتمع الأميركي.

ويعتقد "ميد" أيضا أن التيار الانعزالي هو تيار عابر للأحزاب؛ فهذه الفئة من الأميركيين تضم أطيافا من الديمقراطيين والجمهوريين، كما أن هذه الفئة لم تجد من يعبر عنها وهي أصبحت تتسع وتقوى خصوصا بعد الأزمات الاقتصادية، وآخر الأزمات التي حصلت في الولايات المتحدة كانت في 2008- 2009 وأدت إلى إفقار عدد كبير من الأميركيين.

"لا يمكن لأي قوة خارجية أن تهدد وجود الولايات المتحدة بشكل مباشر".

بعد الأزمة، جاء ترامب في هذه الأجواء وقرر أن يعبر عن هذه الفئة، وبالفعل عبر عنها في مفاجأة بدت صادمة لكل من لا يتابع التغيرات التي تحدث في المجتمع الأميركي.

عموما، تتمحور نظرة الانعزاليين حول حقيقة جغرافية بسيطة: ثمة خندقان مائيان هائلان يفصلان أميركا عن آسيا وأوروبا، ولا يمكن لأي قوة عظمى أن تقوم بعملية برمائية عبر المحيطين الأطلسي أو الهادي. وبالتالي لا يمكن لأي قوة خارجية أن تهدد وجود الولايات المتحدة بشكل مباشر. وعلاوة على ذلك؛ أصبحت الولايات المتحدة اليوم تتحصن بالإضافة إلى المحيطين العملاقين بآلاف الرؤوس النووية، وهي لا تواجه تهديدات في جوارها كونها قوة إقليمية مهيمنة على النصف الغربي من الكرة الأرضية.

المشكلة مع التوجه "الجاكسوني" أنه يختلف عن التوجهات الأخرى اختلافا حادا وجذريا؛ حتى يكاد أن يكون معبرا عن إيديولوجية مختلفة. وتكمن الخطورة المتمثلة بهذا التوجه أن أتباعه أصبحوا تيارا واضح الملامح علني المطالب، وهم أعطوا أصواتهم لترامب رغم الفضائح التي كانت تلاحقه، ورغم كل اللغط الذي أثير حول ترؤسه للإدارة الأميركية، وشكلت أصواتهم أعلى رقما من الأصوات حصل عليه رئيس أميركي – باستثناء "جو بايدن" – وهذا يعني أن أي إدارة أميركية مهما كان توجهها؛ ستكون مضطرة لمحاباة هذا التيار وغير قادرة على تجاهله.

يمكن فهم التقاعس الأميركي في نصرة الشعب السوري، سواء من خلال نقص الجدية في التعاطي مع قانون قيصر، أو من خلال تعطيل قانون مناهضة التطبيع، أو من خلال الإهمال المتعمد للملف السوري بالعموم.

إذن، في المدى المنظور؛ ستتأرجح الإدارات الأميركية بين الجاكسونية الخالصة، والهاملتونية أو الجيفرسونية الممزوجة بالجاكسونية. فيما سيبقى التوجه الويلسوني الداعم لحركات الشعوب الراغبة بالتخلص من الاستبداد مستبعدا من برامج الإدارات الأميركية القادمة. ضمن هذا السياق يمكن فهم التقاعس الأميركي في نصرة الشعب السوري، سواء من خلال نقص الجدية في التعاطي مع قانون قيصر، أو من خلال تعطيل قانون مناهضة التطبيع، أو من خلال الإهمال المتعمد للملف السوري بالعموم.

رغم ذلك، تتيح القوانين الأميركية المجال واسعا للفاعلين الراغبين بتحريك المياه الراكدة وخلق بيئة جديدة حيال ملف ما، والأمر يحتاج لإيمان وخبرة ورغبة، ولنا في أشقائنا الفلسطينيين أسوة حسنة. وهنا يجب أن نعلم أن هذا الحراك الضاغط على الكيان الصهيوني: المدني والسياسي والقانوني لم يأت من فراغ، وإنما هناك جهود جبارة تقف خلفه.