"مُتلازمة الموت المفاجئ" لعبة المعارضين المُفضَّلة

2024.02.22 | 07:51 دمشق

آخر تحديث: 22.02.2024 | 07:51 دمشق

"مُتلازمة الموت المفاجئ" لعبة المعارضين المُفضَّلة
+A
حجم الخط
-A

من العادات السيئة لمعارضي حكم بوتين في روسيا أنهم يموتون فجأة وبلا سبب. هكذا غالباً يقتلون أنفسهم انتحاراً أو يسقطون على الأرض دون سبب وجيه. مرة يقفزون من نوافذ الطبقات العليا للفنادق أو المستشفيات، وأخرى يموتون خلال مجرّد نزهة في الهواء الطلق. لا يوجد تفسير منطقي لتلك الأحداث سوى أنهم يقومون بتلك الألاعيب بهدف إحراج بوتين. يموتون ليستفيد الغرب والمعارضون الآخرون من الحدث، فيشنّون حملات مسعورة ضد الرئيس المنتخب، والذي سيعاد انتخابه الشهر القادم.

إثر وفاة ألكسي نافالني، المعارض الروسي الأبرز قبل أيام، وبعد توجيه الاتهام للنظام الروسي بقتله في السجن، خرجت ماريا زاخاروفا المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية لتقول "هناك في ردود الفعل الغربية شيء ما يكشف عن نفسه، لم يتم إجراء الفحص الطبي الشرعي بعد، مع ذلك نرى استنتاجات الغرب جاهزة". أحد المحللين على القناة التلفزيونية الروسية "سولوفييف لايف" الموالية لبوتين، كان أكثر وضوحاً من زاخاروفا فأكد "إن وفاة نافالني كانت مدبّرة من قبل وكالة المخابرات المركزية، وسوف يستخدمها الغرب كسلاح دعايةٍ ضد روسيا".

في شهر آب/أغسطس عام 2020، انهار نافالني خلال رحلة جوية، ولو لم يقم الطيار بمبادرة فردية، وهبط اضطرارياً في مطار مدينة  أومسك السيبيرية، لكان نافالني قد مات منذ ذلك الوقت

توفي (قُتل) يوم السادس عشر من الشهر الحالي شباط/فبراير 2024 المعارض الروسي نافالني في سجنه المعروف باسمIK-3  الواقع في الدائرة القطبية الشمالية. كان آخر ظهور له قبل يوم واحد من وفاته. بدا الرجل يضحك في أثناء وقوفه أمام أحد القضاة، ممازحاً القاضي وطالباً منه أن يقرضه من راتبه الضخم بعض النقود لأنه مفلس. قبل ذلك كان نافالني قد سُئل عن البرد في سجنه فتذكّر خلال ردّه على السؤال مشهداً من فيلم "The Revenant"، حيث يختبئ بطل الفيلم "ليوناردو دي كابريو" داخل جثة حصان تفادياً للصقيع، مضيفاً "لا أعتقد أن الأمر سينجح هنا. الحصان الميت سيتجمد خلال 15 دقيقة. نحن بحاجة إلى فيلٍ هنا. فيل ساخن أو مقليّ".

في شهر آب/أغسطس عام 2020، انهار نافالني خلال رحلة جوية، ولو لم يقم الطيار بمبادرة فردية، وهبط اضطرارياً في مطار مدينة  أومسك السيبيرية، لكان نافالني قد مات منذ ذلك الوقت. تحت ضغط دولي كبير، وافقت يومها الحكومة الروسية على نقله إلى ألمانيا للعلاج بمستشفى شاريتيه في العاصمة برلين. أكدت الاختبارات في ألمانيا "بشكل لا لَبس فيه" أنها كانت محاولة اغتيال باستخدام غاز الأعصاب "نوفيتشوك" الذي يعود إلى الحقبة السوفيتية. بطبيعة الحال رفض الكرملين "الادعاءات" بأن موسكو كانت وراء عملية التسمم. أحد العلماء الروس قال إن صحة نافالني ربما تدهورت بسبب اتباع نظام غذائي مجهد!

ستسافر والدة نافالني المتوفى عن عمر 47 عاماً، حيث "شعر بتوعك بعد نزهة يوم الجمعة، وفقد الوعي" بحسب مصلحة السجون، برفقة محاميه إلى السجن الذي يطلق عليه الروس اسم "الذئب القطبي"، لتسأل عن جثمان ابنها وتتقصّى عن سبب وفاته. أحد الأطباء أجابها بأنه مات نتيجة "متلازمة الموت المفاجئ" وهو مصطلح طبي غامض يشير إلى حالات وأسباب مختلفة قد تسبب السكتة القلبية. انتقلت الأم إلى المشرحة في مستشفى مدينة "سالخارد" المجاورة، حيث قيل لها أن جثمانه هناك. بالطبع لم يسمحوا لها برؤيته والسبب أنه كان يوم عطلة! حتى كتابة هذه السطور، أي بعد خمسة أيام من وفاته، لم تتسلم عائلته الجثمان بعد. ليودميلا نافالنايا ناشدت بوتين شخصياً "حلُّ المشكلة عندك وحدك .دعني أرى ابني. أطلب تسليمي جثمان أليكسي فوراً كي أتمكن من دفنه بطريقة إنسانية".

لم يكن نافالني الوحيد بين معارضي بوتين الذي يموت في ظروف غامضة (غامضة رغم أنها وقحة بوضوحها) فهناك قائمة طويلة تضم أسماء كثيرة من بينهم حلفاء لبوتين من الأوليغارش الروس الذين عارضوا حربه على أوكرانيا. لكن القصة لم تبدأ مع الحرب الأوكرانية فهناك سلسلة من الاغتيالات، كانت تتم بطرق عديدة منها التسميم وإطلاق النار.

في أحد مشافي لندن توفي ألكسندر ليتفيننكو عضو المخابرات السابق والمنشق لاحقاً. كان ذلك إثر خلط الشاي الذي تناوله بمادة البولونيوم المشعة في أحد الفنادق عام 2006. حدث ذلك بعد أن نشر الرجل كتابه "الجهاز الفيدرالي للأمن يفجر روسيا"، اتهم فيه أجهزة الأمن بتدبير تفجيرات وعدد من الهجمات الإرهابية في روسيا عام 1999، لتبرير حرب الشيشان وجلب بوتين إلى السلطة. قبل ذلك قُتل في تموز/يوليو الصحفي المعارض يوري شتشيكوتشين نتيجة تسمم غامض. رفضت السلطات الروسية تشريح الجثة، واختفت فيما بعد كافة التقارير الطبية عن حالته. قبل موته كان جلده ينفصل عن الجسم. أشارت فحوصات لعينات من جلده وصلت لندن إلى وجود معادن ثقيلة "الثاليوم" في جسمه، وهي المادة التي كانت المخابرات الروسية تستخدمها بكثرة.

زميلة شتشيكوتشين الصحفية آنا بوليتكوفسكايا كانت تعرضت عام 2004 لتسمم بكوب شاي على متن طائرة لكنها نجت، لتقتل بعد ذلك داخل مصعد منزلها بخمس رصاصات في الصدر يوم عيد ميلاد بوتين عام 2006. هناك عديدون ماتوا بذات الطرق منهم سيرجي يوشينكوف، وزير الإعلام الروسي السابق، أيضاً هناك محاولة قتل سيرغي سكريبال الجاسوس الروسي المزدوج وابنته يوليا، لكنّ الاثنين نجَوا من مادة "نوفيتشوك" التي وضعت كمادة لزجة على مقبض الباب في لندن، بينما توفيت البريطانية دون ستيرجس التي لمست نفس المادة السامة.

خلال الحرب الأوكرانية سيغير المعارضون الروس طريقة موتهم، وسيذهبون غالباً إلى القفز من النوافذ. في أيلول/سبتمبر عام 2022 مات رافيل ماغانوف الرئيس التنفيذي لشركة النفط الروسية "لوك اويل" إثر سقوطه من الطابق السادس في أحد مشافي موسكو، للمصادفة كانت شركته أول شركة تطالب بوقف الحرب في أوكرانيا. بينما فضّل بافيل أنتوف رجل الأعمال الروسي الذي انتقد حرب بوتين، القفز من نافذة فندق في الهند، بعد يوم واحد على احتفاله بعيد ميلاده الخامس والستين في الفندق. أما فلاديمير إيغوروف عضو حزب بوتين فقد قفز من نافذة منزله في بلدة توبولسك في سيبيريا الغربية وكان يبلغ من العمر 46 عاماً.

حركات الطيران من النوافذ لم تتوقف خلال فترة الحرب على أوكرانيا في أوساط معارضيها. سقطت كريستينا بايكوفا نائبة رئيس أحد البنوك الروسية من نافذة شقتها في الطابق الحادي عشر وهي بعمر 28 عاماً. قبلها بفترة قفزت مارينا يانكينا رئيسة قسم المخصصات المالية للمنطقة العسكرية الروسية الغربية من نافذة منزلها في الطابق السادس عشر بمدينة بطرسبورغ. طبعاً في كل تلك الحوادث سيوجَّه الاتهام إلى بوتين الذي يقوم بتصفية معارضيه جسدياً، بينما تتهم السلطات الروسية أعداءها بتلك الحوادث، وفي حالات قليلة تحيلها إلى أسباب نفسية عانى منها الضحايا.

بعض المعارضين الروس لحرب أوكرانيا، خصوصاً العاملين في حقل الطاقة، فضلوا الموت مع عائلاتهم. في شهر آذار/مارس تم العثور على الملياردير فاسيلي ميلنيكوف (منتحراً) وبجانبه جثة ابنيه وزوجته مقتولين طعناً. اتُهم الرجل بارتكاب جريمة ثلاثية وقتل عائلته، رغم أن الجيران أكدوا أن العائلة كانت مترابطة. في نسخة طبق الأصل عن سابقتها، وبعد نحو شهر، انتحر فلاديسلاف أفاييف الرئيس السابق لشركة "غازبروم بنك" بالرصاص، بعد قتل زوجته الحامل وابنته داخل منزلهم في موسكو. كانت تلك رواية الشرطة، رغم أن نائبه الذي فرَّ إلى أوكرانيا أكد أن زميله قد قُتل.

في التاسع عشر من نيسان/أبريل 2022، بعد يوم واحد من مقتل أفاييف، عُثر على الملياردير سيرغي بروتوسيني، المدير السابق لشركة نوفاتيك للغاز، ميتا هو وزوجته وابنته في منزل بمنتجع "يوريت دي مار" بإسبانيا، حيث كانوا يقضون إجازتهم. كان الرجل مشنوقاً على شجرة في الحديقة، بينما طُعنت زوجته وابنته حتى الموت. وبقيت الرواية ذاتها، قتلَ الرجل زوجته وابنته ثم انتحر.

آخرون اختاروا ميتات روائية. إيفان بيتشورين، 39 عاما، مدير شركة تنمية الشرق الأقصى والقطب الشمالي الروسية سقط في أيلول/سبتمبر 2022، من مركب شراعي في بحر اليابان، ولم يستطع السباحة لأنه كان مخموراً. ألكسندر سوبوتين، المسؤول التنفيذي السابق في مجموعة النفط لوك أويل ذهبَ في أيار/مايو 2022، مخموراً إلى ساحر يعمل بالعلاجات البديلة. شقَّ الأخير جلده وصب فيه سمّ الضفدع، فأصيب الرجل بنوبة قلبية مات على إثرها!

يبدو الأمر هنا وكأن هناك اتفاق لئيم غير معلن، بين الآلاف من معارضي الأسد المعتقلين في سجونه، على أن يموتوا جميعاً بمتلازمة الموت المفاجئ وبذبحات قلبية متنوعة

هل أطلتُ عليكم؟ للأمانة، كانت تلك عينات فقط من سلسلة طويلة مشابهة حدثت في روسيا بوتين. ولكن ألا تشاركونني الرأي أن المعارضين في منطقتنا يقومون بتلك الحركات والألعاب أيضاً، فيحدث أحياناً، أن تقوم إسرائيل بقتل من يرفضون الموت من تلقاء أنفسهم، قفزاً من النوافذ أو غيرها من الطرق. الهدف الإسرائيلي بالطبع هو إحراج الأسد وإلى حدٍّ ما حزب الله واتهامهم بالجرائم. نعم، حدث هذا دائماً في لبنان، وحدث بوتيرة كثيفة عام 2005. جميعكم تذكرون أن إسرائيل قتلت الكثير من معارضي الأسد في لبنان لتحرجه وتعرضه لهجوم دولي كاد يودي _لولا لطف الأقدار (لكم أن تسمّوا تلك الأقدار بما تشاؤون) _ للإطاحة به.

لم يبدأ الأمر فقط مع تفجير موكب الرئيس الحريري. بل كان سبقه اغتيال كمال جنبلاط وميشيل معوض وبشير الجميّل والمفتي حسن خالد وغيرهم. لكن يبقى الأدهى من كل ذلك، ما يحدث داخل السجون السورية منذ عام 2011. يبدو الأمر هنا وكأن هناك اتفاق لئيم غير معلن، بين الآلاف من معارضي الأسد المعتقلين في سجونه، على أن يموتوا جميعاً بمتلازمة الموت المفاجئ وبذبحات قلبية متنوعة، حسب التقارير الطبية الرسمية، ما أدّى إلى اتهام نظام الأسد، المُنتخب كنظام بوتين، بأنه قتلهم تحت التعذيب.

هل تجوز السخرية من الموت؟ بالقطع لا. الأمر هنا مجرد سخرية من زيف روايات القتلة. والهدف هو الاستمرار بوصفهم بأنهم مجرد قتلة صغار حصلوا على قوة السلطة بمصادفات تاريخية رديئة، ومعاودة فضحهم بمناسبةٍ أو بدونها، من أجل مستقبلٍ لا نعرف حتى الآن متى سيأتي. بعد يومين من وفاة نافالني، قالت أرملته يوليا نافالنايا، وهي خبيرة اقتصادية معروفة بين الروس بلقب "السيدة الأولى": "سأواصل النضال من أجل بلدنا. وأدعوكم للوقوف بجانبي. واصلوا النضال ولا تستسلموا. أنا لست خائفة، ولا ينبغي لكم أن تكونوا خائفين".