مطار دمشق.. نافذة لا تطل على الوطن

2022.06.13 | 06:46 دمشق

349.jpg
+A
حجم الخط
-A

لا يحظى مطار دمشق الدولي بمشاعر مختلطة لدى السوريين كما كل شعوب الأرض فهو لم يكن نافذتهم التي يهرعون إليها لاستنشاق هواء مغاير لنقص الأوكسجين في وطنهم المخنوق بالقمع والفقر، ولا بوابة عودتهم الشاعرية إليه والسجود شكراً على نعمة الرجوع إلى ترابه.. خارج هذه الصورة الرومنسية كانت حكاية المطار الأكثر ذعراً فلم يكن أكثر من حاجز أخير قد لا تنجو منه، ويتم فيه اقتيادك مرة أخرى إلى السجن أو المنع.

لكن حظ هذا البناء الحسن فقط في كونه يقع على امتداد الغوطة الشرقية قبل أن تتحول إلى مساحة حزن وموت، وكان الطريق إلى المطار أحد أهم الفسحات عندما يشتد حرّ صيف الشام، وهنا في هذه الفترة ستحظى بدعوات لسيران على طريق المطار حيث تفترش العائلات جنبات الطريق المغطاة بالأشجار، والوسيلة للوصول ستجدها في سيارة عابرة أو ميكرو باص أو (سوزوكي) كلها متراصة وبجانبها حلقات السوريين على بساطتهم وبينهم فاكهة صيف دمشق الشهيرة (جبسة) البطيخ البارد بفعل نسمة هواء لا أكثر.

صار على السوري أن يحصل على جواز سفر يدخل به بيوت جيران الوطن، وهكذا اصطفت الطوابير للحصول عليه، وافتراش الشوارع المحيطة بمبنى الهجرة والجوازات في البرامكة وركن الدين

سنوات الحرب عززت مشاعر السوريين تجاه مطارهم.. فمن الخشية والذعر كأقل ما يمكن من إحساس إلى معتقل بعيد لأولئك المحتجين الأوائل في الغوطة الذين اقتيدوا إلى فرع المطار فعاد بعضهم بأجساد زرقاء من شدة التعذيب، وتم اقتياد الخطرين منهم إلى دمشق حيث لا أمل بالعودة إلى البيت أو الحياة سوى بطاقة تعريف شخصية تفيد بموت المعتقل بجلطة قلبية.

في السنوات التي تلت المظاهرات، واندلع فيها صوت الرصاص والصواريخ، صار على السوري أن يحصل على جواز سفر يدخل به بيوت جيران الوطن، وهكذا اصطفت الطوابير للحصول عليه، وافترشت الشوارع المحيطة بمبنى الهجرة والجوازات في البرامكة وركن الدين، وبعضهم نام فيها أو في الحدائق الكبيرة بانتظار استلام وثيقة الخروج إلى الشتات المجهول.

الملايين ممن حصلوا على جوازات سفرهم الباهظة الثمن لم يجدوا مطارهم المحاصر، ولم يفكروا به فهو لم يكن أبداً بوابة نجاة لهم، واختاروا بوابات أقل كلفة وقسوة، وهكذا باتت الحدود البرية نوافذ هروب سريعة إلى لبنان وتركيا والأردن وبعضهم إلى مصر عبر العقبة بواسطة مركب بحري صغير، ومن ثم اختاروا منافيهم البعيدة إما لاجئون بواسطة أممية أو منتحرون بزوارق رمتهم في عرض البحر طعاماً للأسماك والماء المالح.. في حين أن مطار دمشق الدولي كان مغلقاً بالحصار والرصاص وسخط القلوب.

ثم استحال المطار إلى طريق بائس لتهريب المرتزقة والسلاح، والغرباء وحدهم من يعبرون تلك المساحة الفاصلة بين السوري ووطنه، وهذا ما عزز تلك المشاعر السابقة لديه.. ألم يكن هذا المكان قصياً عمن يريدون الخروج والعودة.. ألم يكن بيتاً بارداً لمن وصله ثم غادر منه معتقلاً أو مفلساً منفياً؟.

لا تسقط من الذاكرة حكاية وزير النقل مفيد عبد الكريم وصفقة خردة الطائرات التي احتفي بها كإنجاز وطني كلفت مئات الملايين من الدولارات كما تم ترويجه في نهاية حقبة الأسد الأب

من أجل كل ذلك لن تجد من ينتبه بكامل إحساسه لخروج الميناء الجوي من الخدمة.. ماذا يعني أن لا طائرات تخرج أو تعود إلى الشام؟.. ماذا يعني ذلك لكل من عرف الفزع والخوف من التفتيش والاعتقال في ذلك المبنى البعيد؟

أسطول بائس من الطائرات المتداعية والمستأجرة، وتندر السوريين عن خدمات الهوب هوب على متنها بمضيفاتها البعثيات.. وهنا لا تسقط من الذاكرة حكاية وزير النقل مفيد عبد الكريم وصفقة خردة الطائرات التي احتفي بها كإنجاز وطني كلفت مئات الملايين من الدولارات كما تم ترويجه في نهاية حقبة الأسد الأب.

عشر سنوات وأكثر مضت على هذا الشتات، والسوري من مطار لآخر يلتقط صورته الأخيرة من وطن مؤقت لسواه، ولكنه لا يمتلك في ملف هاتفه وذاكرته صورة واحدة لمطار دمشق.. سوى تلك التي حملها في عقله وقلبه عن نافذة لا تطل على الوطن.