السوريون الروس

2022.10.19 | 07:25 دمشق

السوريون الروس
+A
حجم الخط
-A

في العام 2015 وكنت وقتئذ في دمشق ولم أخرج منها كأواخر الصحفيين المؤمنين بالتغيير بالرغم من كل الخراب الذي أحاط بالعاصمة وريفها، وكان المرور من أوتستراد المعضمية أو حرستا على سبيل المثال يعني أنك في موت شبه مؤكد، ومشاهد الموت والدمار تعلو فوق كل شيء، والمعارك تأكل رويداً رويداً محيط المدينة التي بقي منها طرق قليلة للوصول إليها من الريف حيث أقيم منذ عقود.. وفي تلك الفترة كان إعلان سقوط النظام مرتقباً في أي لحظة، في كل صباح، وأما العودة منها إلى البيت فكانت محفوفة بالمخاطر وتوفر المواصلات، وليس هذا فقط فليست كل الطرق في مدينتك الصغيرة آمنة للوصول إلى حيث تنام في العتمة وتمشي فيها كهدف صالح للقنص أو الخطف.

فرغت مقاهي العاصمة من كل الوجوه التي تعرف بعضها فكل من وجد طريقاً للخروج لم يتردد كهارب أو كباحث عن فرصة عمل أو معتقل أو شهيد، وتكاد تصعقك الفرحة عندما تجد من تعرفه من جيلك، وبعضهم تتمنى أنك لم تقابله عندما يصدمك بمواقفه البطولية بالرغم من كل هذا الواقع المخيف، وتسأل من أين يأتي هؤلاء بكل هذا الرياء والنفاق والأمل المريض، وبعضهم الآخر لن تجد بينه وبين القاتل في الشارع أي فارق يذكر نفس المصطلحات المضللة عن المؤامرة والعصابات والتكفيريين القادمين لاحتلال البيوت والأعراض.

أما قذائف الهاون فلا تكاد تتوقف عن السقوط العشوائي وكذلك أصوات الطائرات المغيرة على داريا والغوطة، والمدفعية التي تهز الأمكنة، وهنا ثمة موت عشوائي أو بالأحرى نجاة عشوائية

ما بقي من رواد المقهى عجائز لا يملكون أي أمل بالخروج ولا يريدون إلا أن يبقى مقهى الكمال مثالاً فاتحاً ذراعيه للعبة طاولة أو شطرنج وحتى ثرثرة عن ماضي البلاد القميء الذي بات جنة مسروقة، وأما قذائف الهاون فلا تكاد تتوقف عن السقوط العشوائي وكذلك أصوات الطائرات المغيرة على داريا والغوطة، والمدفعية التي تهز الأمكنة، وهنا ثمة موت عشوائي أو بالأحرى نجاة عشوائية، وفي لحظات توقف نرد الطاولة يفتح العجائز جرائدهم المنوعة والقليلة التي باتت تصدر في العاصمة أو تصل إليها، ودقائق قليلة من تقليب الصفحات تكفي للوصول إلى الكلمات المتقاطعة، وسوى ذلك جريدة الشيوعيين السوريين التي توزع يوم الأحد (قاسيون) ففيها ما يمكن قراءته عدا طبعاً تباشير التدخل الروسي الذي بات قريباً.

النقاشات الصاخبة تؤمن بضرورة التدخل لإنقاذ البلاد من خطر الأسلمة الأكيد الذي سيكون حتمياً لو انتصر هؤلاء الذين يحاصرون كل أبواب العاصمة ومداخلها، وأما أبناء هؤلاء وأنا أعرف أغلبهم ومنهم كثير من الأصدقاء فهم يعيشون في تركيا ولبنان والأردن وبعضهم في مصر منتظرين دهشة السقوط، وأما البقية من المتحزبين منهم فما زالوا يهتفون باسم السوفييت ويتغنون بعظمة البلشفية في حين يقبع رئيس تحرير جريدة قاسيون (جهاد محمد) في السجن ورئيس حزبه نائباً اقتصادياً في الحكومة رافضاً التوسط لإخراج -أهم عناصره الإعلامية- من السجن فتهمة جهاد كانت إيصال المساعدات الطبية إلى الغوطة الشرقية.

ما أعادني إلى هذه الفترة هو عودة هؤلاء السوريين الروس إلى نغمة التباهي بالقوة النووية الروسية والتشفي بطوابير الأوروبيين على محطات الوقود، وهم في أغلبهم يعيشون في تلك القارة البائسة

وفعلاً تدخل الروس بكل قوتهم وقلبوا المعادلة لكن المقاهي ما زالت فارغة من الوجوه التي تعرفها، وبقي العجائز على حماستهم البلشفية في حين غادر من بقي من الشبان إلى حيث يرون الحياة خارج هذا السجن الذي يحكمه الروسي والإيراني من دون أحلام.

ما أعادني إلى هذه الفترة هو عودة هؤلاء السوريين الروس إلى نغمة التباهي بالقوة النووية الروسية والتشفي بطوابير الأوروبيين على محطات الوقود، وهم في أغلبهم يعيشون في تلك القارة البائسة، والنظر إلى المخلص العظيم (بوتين) -بعين الكبرياء- الذي سيعيد إليهم اتحادهم السوفييتي المفقود، وأما عجائز المقهى الفارغ فربما مات منهم من مات، وجاع أغلبهم بانتظار الظفر الكبير، وأما البلاد فحرام على أهلها، وخراب مقيم.