مشهد الانتخابات الأميركية.. المؤتمر الانتخابي الديمقراطي

2020.08.28 | 00:26 دمشق

2020-08-24t015159z_972364632_rc21ki9ne1e9_rtrmadp_3_usa-electon-biden-interview.jpg
+A
حجم الخط
-A

لماذا كامالا هاريس نائبةً للرئيس؟

بعد دراسة مستفيضة وحسابات معقدة للأرباح والخسائر في أوساط حملة بايدن جاء قرار اختيار هاريس لتكون الاسم الثاني على التذكرة المرشحة للرئاسة قبل بداية المؤتمر القومي للحزب الديمقراطي ببضعة أيام فقط. كان هذا دليلا على صعوبة تلك المهمة، خاصةً في هذه المرحلة من التاريخ الأميركي. فقد كان بايدن تعهّدَ منذ شهور بأن شريكته على التذكرة ستكون امرأةً بالتأكيد.

بعد هذا، اشتعلت الحرب الإعلامية، ومعها الدبلوماسية والسياسية، حول اسم المرشحة المُقبلة. وبعد اشتعال المظاهرات في شوارع أميركا بعد مقتل جورج فلويد الأميركي الأفريقي خنقاً من قِبلِ شرطيٍ أبيض يوم 25 أيار الفائت، والتي استمرت أسابيع طويلة، تصاعدَ الضغط النفسي والعملي على بايدن وفريقه لترشيح امرأةٍ من الأقليات، والأفضل أن تكون امرأةً ذات أصولٍ أفريقية.

وضع فريق بايدن قائمةً فيها أسماء قرابة عشرين امرأة، وكان في مقدمتهنّ المرشحة السابقة إليزابيث وارن Elizabith Warren التي كانت تمثل الصوت الليبرالي الأكثر اعتدالاً من المرشح بيتر ساندرز Peter Sanders الذي وُصمَ بأنه اشتراكي، ودُفع دفعاً لخسارة الانتخابات التمهيدية، حتى من قِبل منظومة الحزب الديمقراطي التي أيقنت باستحالة انتخابه رئيساً بسبب تلك الوصمة التي يتهربُ الناس منها، كما أنها مرضٌ مُعدٍ في هذه البلاد.

ورغم أن وارن كانت الأكثر تأهيلاً سياسياً مع تاريخها السياسي القوي من أيام إدارة أوباما، ورغم أنها كانت تتصدر استطلاعات الرأي للمرشحين لمنصب نائب الرئيس، إلا أن تجاوزها باتَ ضرورياً للحزب لتحقيق توازناتٍ نتحدث عنها بعد قليل. وكان معها أيضاً بضع نساءٍ متميزاتٍ سياسياً من العرق الأبيض مثلها، مثل حاكمة ولاية ميتشغان غريتشن ويتيمر Gretchen Whitmer، والتي حازت شعبيةً كبيرة في الولاية وفي البلاد بسبب حُسن سياساتها في التعامل الحاسم والسريع مع وباء كورونا المستجد في ولايةٍ حساسةٍ جداً انتخابياً.

رغم كل هذا، فرضت التوازنات السياسية المطلوبة نفسها في محاولةٍ لاستعادة ما باتَ يُسمّى تاريخياً (تحالفُ أوباما / The Obama Coalition) والذي جمعَ الشرائح الأربعة الضرورية للفوز في الانتخابات: الأقليات، وخاصةً الأميركان الأفارقة، والنساء، والشباب، والرجال البيض.

كان أوباما قد حصل على تأييد الشرائح الثلاثة الأولى مبكراً في أيامه، لكن ترشيح بايدن، نفسهُ، نائباً للرئيس، كان يهدف للوصول إلى أصوات الرجال البيض. أما اليوم، فقد ظهر، فعلاً، أن إعلان ترشيح السيناتورة الديمقراطية كامالا هاريسKamala Harris  اجتذب أصوات الملايين من الأقليات رجالاً ونساءً، فضلاً عن تبرعاتٍ بعشرات الملايين، مع زيادة عدد النساء من غير الأقليات واللاتي كان بايدن قد بدأ في قضمِ تأييدهن من الرئيس ترامب الذي اعتُبرت تصريحاته، ولا تزال، عن المرأة بشكلٍ عام مسيئةً، وخاصةً النساء البيض اللواتي يخاطبهن بصفة (زوجات الضواحي / Suburban Housewives)، وهو توصيف بعيدٌ عن (الصوابية السياسية) لم يعد مُحبباً ويوحي بثقافة الخمسينيات من القرن الماضي.

أما الشباب فإن استقطابهم بات يتصاعد مع تبني بايدن لبعض السياسات والخطط الاقتصادية والصحية والتعليمية لرموز اليسار الليبرالي في حزبه سواء كان هؤلاء مخضرمين مثل ساندرز ووارن، أو شباباً يبدون من نجوم المُستقبل الواعِدة مثل النائبة المتميزة عن نيويورك ألكساندرا أوكازيو كورتيز والمشهورة بالاسم المُختصر AOC. ويبقى الرجال البيض قسمين. فغالبية حملةِ الشهادات وسكان المدن منهم يقتربون من المرشح الديمقراطي أكثرَ فأكثر، أما من لا يحملون الشهادات وسُكان الأرياف فإنهم يظلون من قاعدة ترامب الصلبة التي لا يبدو أنها ستتزحرح مهما حصل في أميركا نتيجة سياسات الرئيس، وبغض النظر عن أي فضائح تتكشف عن ممارساته.

تم التركيز على شخصية بايدن، وتم بمهارة إعلاميةٍ ذكية رسمُ صورةٍ لبايدن المُتعاطف القريب من المواطنين بشكلٍ مفارقٍ تماماً عن صورة ترامب المتكبر والمغرور

وتُعتبر هاريس البالغة 49 عاما مُكمّلاً مثالياً في العمر لبايدن البالغ 77 عاماً، ومن ناحية الجندر لكونها امرأةً، ومن ناحية العرق لكونها تنحدر مباشرةً من أمٍ هندية وأبٍ من جامايكا هاجرا إلى أميركا في ستينيات القرن الماضي فقط. بل إن الحملة كسبت بهذا أيضاً تأييد ملايين الأميركان من أصلٍ آسيوي، أي أنها ضربت عصفورين بحجرٍ واحد. هذا علماً أن تاريخها مليء بنجاحات متميزة، إذ أصبحت أول مدعٍ عام لولاية كاليفورنيا، الأكبر في أميركا، كامرأة عموماً وكأميركية تنحدر من أصل أفريقي وآسيوي تحديداً، ثم انتُخبت عضوةً في مجلس الشيوخ الأميركي عام 2016 مع انتخاب ترامب رئيساً، لتكون مفارقة القدر في أن تُصبح لاعباً رئيساً في محاولة هزيمته بعد أربع سنوات.

والحقيقة التي ينبغي التأكيد عليها هنا هي أن الحديث ممكنٌ عن سلبيات أميركا في مختلف المجالات. رغم هذا، تبقى قصةُ نجاحٍ مثل هذه خاصةً بالتجربة الأميركية حصراً. إذ يبدو أقربَ للمستحيل التفكيرُ بأن ابن أو ابنة مُهاجِرين، خاصةً من دول العالم النامي، يمكن أن يصل لثاني أعلى موقعٍ سياسيٍ في أوروبا وغيرها، ومن الأرجح لمنصب الرئاسة بعدَ ذلك.

بل إن ثمة قضيةً هامةً تُميزُ هذا الخيار التاريخي، بتأكيد جميع المراقبين. ففي حين أن منصب نائب الرئيس تشريفيٌ في الغالبية العظمى من الإدارات الأميركية، إلا أن عُمر بايدن الذي سيكون، في حال انتخابه، أكبر رئيسٍ أميركي يتولى المنصب، وتأثير العمر في حركته ونشاطه العملي والفكري، سيجعل هاريس على بعد نبضة قلبٍ من الرئاسة كما يقولون في هذه البلاد. والواضحُ أنها ستحصل على صلاحياتٍ واسعة في كل المساحات التي سيكون للبيت الأبيض دورٌ فيها، وهي كثيرةٌ وكبيرة. هذا فضلاً عما يبدو حتمية وصولِها للرئاسة في حال عدم ترشيح بايدن نفسه لدورةٍ ثانية عام 2024، وهو الأرجح، حيث يكون قد تجاوز الثمانين.

 

المؤتمر الحزبي الديمقراطي

عقد الديمقراطيون مؤتمرهم الحزبي الذي تتم فيه مناقشة البرنامج الانتخابي للحزب ومُرشّحه، ويتم فيه تعداد أصوات المندوبين التي حازَها من الولايات المختلفة خلال الانتخابات التمهيدية، ثم يتم إعلان المرشح لمنصب نائب الرئيس ويَقبلهُ رسمياً، وأخيراً يقبل المرشح، بايدن هذه المرة، ترشيح الحزب رسمياً وسط احتفالاتٍ وحشودٍ ضخمة، ولكن في الأحوال العادية.

لكن أميركا بجبروتها وقوتها تُعاني، كما تُعاني أصغر دولةٍ في الأرض، من وباء كورونا المستجد وتَبعاته. بل ربما تعاني أكثر بسبب سوء إدارة الرئيس ترامب للأزمة، وحالة التخبط والفوضى العارمة السائدة اليوم في أميركا، وبشكلٍ غير مسبوقٍ في تاريخها على الإطلاق. من هنا، انعقد المؤتمر (افتراضياً) بحيث كانت الكلمات والأغاني والعروض المُقدمة كلها من خلال تقنيات ZOOM وأشباهها.

رغم هذا، نجح الديمقراطيون في استقطاب رؤساء سابقين وعدد كبير من أكبر الساسة والمشاهير في عالم الفن والثقافة للحديث عن ضرورة انتخاب بايدن، وأن هذا بات مسألة حياةٍ أو موت بالنسبة للتجربة الأميركية، كما أكدَ جميع المشاركين، ومنهم عددٌ لابأس به من الساسة الجمهوريين المعارضين لترامب، وعلى رأسهم وزير خارجية جورج بوش الابن، الجنرال كولن باول Collin Bowell.

كما تم التركيز على شخصية بايدن، وتم بمهارة إعلاميةٍ ذكية رسمُ صورةٍ لبايدن المُتعاطف القريب من المواطنين بشكلٍ مفارقٍ تماماً عن صورة ترامب المتكبر والمغرور الذي وُلدَ وفي فمه ملعقةٌ من ذهب. فقد انتُخب المرشح الديمقراطي عضوا في مجلس الشيوخ عام 1972 وهو لم يتجاوز الثلاثين من عمره حيث كان خامس أصغر عضو منتخب في تاريخ أميركا. لكنه واجهَ بعد فوزه بأيام وقبل أدائه القسم الدستورية لتجربة مريرة. حيث تعرضت عائلته لحادث مروري كبير ماتت فيه زوجته وابنته الصغيرة، في حين أصيب ولداه إصابات خطيرة.

قرر الرجل على إثرها الاستقالة من منصبه حتى قبل أن يتسلّمه، وذلك للتفرغ لتأهيل ثم تربية ولديه. لكن قيادات الحزب الديمقراطي ضغطت عليه بسبب ما ظهر من مواهب ومؤهلات السياسي الشاب ليبقى في المنصب. وفعلا، نقلت شاشات التلفزة صورته وهو يؤدي القسم في المستشفى أمام أولاده المصابين. غير أن أحد الشروط التي اشترطها بايدن على نفسه وعلى حزبه للاستمرار في العمل السياسي تمثل في ألا ينقل أولاده إلى مدينة واشنطن العاصمة، بل أن يُبقيهم ويعيش هو معهم في المنزل الذي نشؤوا فيه، بحيث يأتي من هناك إلى مكتبه في واشنطن صباح كل يوم ويعود إليه في المساء قاطعاً كل يوم مسافة تتجاوز 400 كلم بالقطار.

العجيب أن الرجل لا يزال يقوم بهذا إلى اليوم، لكن هذه الممارسة أكسبته شعبية كبيرة لأنه يقول إنه ربما التقى في القطار بكل مواطن يمثله شخصيا خلال هذه الفترة الطويلة. هذا فضلا عن أن الموضوع مكّنه من أن يقول إنه ليس من (ساسة واشنطن)، وهي عبارة أصبحت بمثابة التهمة، وتُطلق على السياسيين الذين يعيشون في تلك المدينة ويعودون للولايات التي يمثلونها مرة أو اثنتين في الشهر.

ثم إن الرجل تزوج معلمة مدرسة متواضعة من ولايته بعد خمس سنوات من وفاة زوجته الأولى، وهو يعيش معها ومع الابنة التي أنجبتها منه إلى اليوم. لكنه أيضاً أصيب بفاجعةٍ أخرى عندما أصيب ابنه المتميز بو بايدن Bo Biden بالسرطان وتوفي عام 2015 عن ستة وأربعين عاماً. خاصةً أنه كان مدعياً عاماً صاعداً مفوهاً ومُحنكاً كان البعض يتوقع أن يُصبح خليفة أشهر رئيس أميركي شابٍ راحل هو جون كينيدي.

لكل هذا أطلق عليه البعض لقب Commander in Grief أي رئيس أركان الحزن تشبيهاً بلقب رئيس الأركان العامة Commander in Chief الذي يحصل عليه كل رئيس أميركي. 

من الطبيعي إذاً أن حملة بايدن أخذت في حسابها كل هذه العوامل. فالشعب الأميركي يتعاطف مع مثل تلك القصص المأساوية، ومع أصحابها الذين يتجاوزون المحن والصعوبات ويكملون حياتهم بعزيمة حتى يصلوا إلى النجاح.

ونحن إذ نُشير إلى هذه القضايا فهذا لتعريف القارئ العربي بطبيعة الثقافة السياسية الأميركية من جهة، وبآليات وهياكل الديمقراطية الأميركية من جهةٍ ثانية. ذلك أن الشعوب العربية كلها تبدو في مرحلة مخاضٍ سياسي واجتماعي وثقافي بحثاً عن النظام الديمقراطي الأنسب لها، وبما يُحقق تطلعاتها ويستجيب لحاجاتها الخاصة.

يجب أن نتذكر هنا أن النماذج الديمقراطية، حتى الغربية منها، مختلفةً إلى حدٍ كبير، بعكس الظن السائد أحياناً بأن هناك نموذجاً ديمقراطياً واحداً. ومع غلبة سُمعة وصيتِ النظام الأميركي كنتيجةٍ لتفوق أميركا العسكري والاقتصادي والتكنولوجي، بما يدعو البعض للاعتقاد بأنه (النموذج) بأل التعريف، فإن رصد الظاهرة التي نعالجها هنا بنوعٍ من الشمولية يمكن أن يصبح عاملاً في توسيع آفاق الفكر والثقافة السياسية عربياً، بما يُخرجنا من ثنائية التقليد الكامل أو الرفض المُطلق، ويساعدنا على استلهام كل التجارب البشرية لصياغةٍ نظام ديمقراطي معاصرٍ وحديث يُحقق طموحات العرب ويجيب عن أسئلتهم ويتعامل مع واقعهم المُعيّن.