مشهد الانتخابات الأميركية: المؤتمر الحزبي الجمهوري

2020.09.04 | 01:02 دمشق

2020-09-02t180942z_1776645598_rc2iqi9x8j67_rtrmadp_3_usa-trump.jpg
+A
حجم الخط
-A

كما هو عليه الحال في الإعلام الأميركي، وخاصةً صناعة الترفيه فيه، وربما في الحياة الأميركية بشكلٍ متصاعد، كان الأسبوع الماضي في الانتخابات الرئاسية الأميركية التمهيدية حافلاً بالمواضيع المثيرة: المال، المرأة، الجنس، العنف، النفوذ والقوة. وبما أن المرشح الجمهوري، والرئيس الحالي، دونالد ترامب أصبح مالىء الدنيا وشاغل الناس في أميركا هذه الأيام، كان طبيعياً أن تتمحور القضايا المتعلقة بتلك المواضيع حوله شخصياً لحدٍ كبير.

المؤتمر الحزبي الجمهوري: تجديد الثقة بالرئيس

لكن الحدث الرئيس كان يتمثل في انعقاد المؤتمر الحزبي الجمهوري حيث يتم، كما هو مُفترض، البحث في البرنامج الانتخابي للحزب، ثم يتم فيه تعداد أصوات المندوبين التي حاز عليها المُرشح من الولايات المختلفة خلال الانتخابات التمهيدية، ويتم إعلان المرشح لمنصب الرئيس ويَقبلهُ رسمياً، وأخيراً يقبل المرشح، ترامب هذه المرة، ترشيح الحزب رسمياً.

ولكن، كما هو عليه الحالُ في كثيرٍ من مجالات الحياة العامة في أميركا اليوم، انعقدَ المؤتمر بشكلٍ غريبٍ واستثنائيٍ لم يسبق له مثيل في التاريخ الأميركي، إن لجهة المضمون أو لأسلوب الإخراج. فمن ناحية، قررَ الجمهوريون، في سابقةٍ جديدة، عدم وضع برنامجٍ انتخابي للانتخابات الراهنة، مخالفين ماجرت عليه عادة الحزب كل أربع سنوات، منذ عام 1856 على الأقل، وقالوا إنهم سيعتمدون نفس البرنامج الذي فاز به ترامب عام 2016! استنكر كثيرٌ من المراقبين والمُحللين الموضوع، وقال المُعلق ريد إبستاين في صحيفة النيويوك تايمز أن البرنامج هو "في الحقيقة: أياً ما كان ما يريدهُ الرئيس أن يكون"، وهو الوصفُ الذي رددهُ العديد من المحللين أيضاً، بشكلٍ يُذكّر العرب والسوريين بانتخابات "تجديد الثقة" التي خَبِروها بشكلٍ متكرر في تاريخهم المُعاصر.

وجاءت طريقة إخراج المؤتمر بصورةٍ تؤكد درجة الاختراق الذي قامَ به ترامب في الحياة السياسية الأميركية، ومعها مدى سيطرته الكاملة على الحزب الجمهوري. ففي مُخالفةٍ واضحةٍ لقانون Hatch Act الفيدرالي الذي أُقرّ عام 1939، والذي يمنع السياسيين في السلطة التنفيذية من استخدام الممتلكات والأراضي الفدرالية لمصالحَ حزبية، قامت حملة ترامب باستعمال البيت الأبيض نفسه كموقعٍ رئيس من المواقع التي عُقدَ فيها المؤتمر. وتم تحديداً، القيام بعملية تجريفٍ واسعة لحديقة الزهور في البيت الأبيض تم فيها إزالة جميع الزهور التي زرعتها السيدات الأُوَل في أميركا على مدى عقود، بغرض إفساح الجال لأكثر من 1500 شخصية من مؤيديه لحضور الحفل الختامي للمؤتمر. وطبعاً مع مُخالفة كل قواعد الصحة المفروضة على كثيرٍ من المواطنين في زمن وباء كورونا، وبشكلٍ جعل المؤتمر في رأي خبراء الصحة "حدَثاً مُسبباً للعدوى بشكلٍ هائل".

ما زاد في سوريالية هذا الحدث أن جميع أفراد عائلة ترامب، ابتداءً من زوجته، وصولاً لابنته ووَلديه، ومروراً بأقارب آخرين، كانوا متحدثين أساسيين في كل ليلةٍ من ليالي المؤتمر الأربع. هذا فضلاً عن الإخراج التلفزيوني المدروس الذي أظهر خروج الرئيس وزوجته من البيت الأبيض باتجاه حديقة الزهور بشكلٍ يشبه المواكب المَلَكية، ثم إطلاق الألعاب النارية التي رسمت قوسَ قزحٍ من الألوان على شكلِ اسمه في سماء واشنطن العاصمة. الأمر الذي رسَّخَ المقولة التي يزداد الحديث عنها في هذا البلد عن رغبة الرئيس بتحويل أميركا إلى نوعٍ من أنواع المَلَكيّة أو الحُكم السلطوي، خاصةً وأنه شخصياً ألمح للموضوع بطرق مختلفة، كان آخرها قوله لجمهوره الذي كان يستمع لخطاب قبوله بترشيح الحزب الجمهوري: "بل قولوا اثنا عشر  عاماً إضافيا، لتحرقوا قلوبهم"، في حين كان الهتاف يقول: "أربع سنواتٍ إضافية" هي التي تسمحُ بها التقاليد السياسية الأميركية لبقاء الرئيس في منصبه.

أكثرُ من هذا، تمَّ خلال المؤتمر، في سابقةٍ أخرى لا مثيل لها، بثُّ مشهدٍ من داخل إحدى قاعات البيت الأبيض يشهدُ فيه الرئيس مراسم أداء قَسَم الحصول على الجنسية الأميركية لخمسة مهاجرين من خلفيات متنوعة، كان واضحاً التقصُّدُ في أن تكون من بلدان نامية، وأنه مشهدٌ دعائي بامتياز.

المفارقة أن ثلاثةً على الأقل من المهاجرين أكدوا لوسائل إعلام أميركية أنهم لم يكونوا يعلمونَ أبداً أن الحدث سيُعتبر من ضمن أحداث المؤتمر الجمهوري، وأنهم لم يكونوا يعرفون أصلاً أن الرئيس ترامب سيحضر المراسم. المفارقةُ الكبرى أن الوزير المكلف بوزارة الأمن الوطني، والذي قاد المراسم، ذكرَ بعد ذلك لشبكة إيه بي سي ABC أنه لم يكن يعرف أيضاً بأن الحدثَ سيُعرض كجزءٍ من المؤتمر الحزبي، وأن ما قيل له أن هناك حفل مراسم خاص في البيت الأبيض يرغب الرئيس في عقدهِ وحضوره، وأنه تم تصوير الحدث ورفعهُ على قناة اليوتيوب، "ومن هنا"، حسب تبرير الوزير، "يمكن لأي شخص أو جهة استعماله".

قد بلغ الأمر درجةً وصلت إلى اعتماد ترامب لمقولات منظمة QAnan المتطرفة التي تؤكد على أنه جاء كمبعوثٍ للعناية الإلهية ليُنقذ أميركا والعالم من عصابةٍ تحكم العالم تتألف من مُغتصبي الأطفال وتُجار الجنس

والحقيقة أن المشهد بأسره كان حلقةً أخرى من حلقات الفساد العَلني التي يُغرِقُ بها الرئيس ترامب المجتمع الأميركي، ومعه الثقافة السياسية للبلاد. "إنه فسادٌ على أعلى المستويات" يقول أوستن إيفرز، الرئيس التنفيذي لمنظمة (الرقابة الأميركية / American Oversight) المُستقلة غير الربحية، إحدى أكبر منظمات المجتمع المدني الأميركية المتخصصة بملاحقة الفساد الحكومي وإعلانه وبملاحقة الفاسدين ومحاكمتهم. في حين سماها أنتوني زورتشر، مراسل شبكة بي بي سي BBC البريطانية في أميركا، بـ "عملية تجميل عِرقية" في تحليلٍ مطولٍ له عن الحادثة. خاصةً وأن ترامب يُعتبر أكثر رؤساء أميركا عنصريةً ومُعاداةً للمهاجرين، سواء كان الأمر يتعلق بآرائه الشخصية، أو بسياسات الهجرة المتطرفة التي يُمرُّرها تدريجياً من خلال مراسيم رئاسية تنفيذية لا تتطلب موافقة الكونغرس.

 

العنصرية والتخويف والكذب: أوراق ترامب القوية

اتضح تماماً من مُجريات المؤتمر الحزبي الجمهوري أن حملة الرئيس باتت مقتنعةً بأن خطابها يجب أن يُركز على ما يُسمى بـ (قاعدة ترامب الصلبة) والتي تتراوح بين 30 -  35٪ في المجتمع الأميركي، وهي الشريحة التي تبدو في وارد دعمه والتصويت له بغض النظر عن كل الفضائح والمُشكلات التي تلاحق الرجل، وهي ليست قليلةً على الإطلاق.

فالذي يشاهد أحداث المؤتمر ويسمع الكلمات التي ألقيت فيه يستذكرُ فوراً مقولة وزير الدعاية النازي الشهير، جوزيف غوبلز، والتي يقول فيها: "اكذب، اكذب، حتى يصدَّقكَ الناس". من الممكن لبعض القراء في العالم العربي أن يروا مُبالغةً في هذا العرض، لأنه فِعلاً يستعصي على التصديق بعيداً عن المشاهدة والاستماع والمتابعة بشكلٍ شخصي. نحن بإزاء مشهدٍ لم يحدث لأميركا أن رأته، فضلاً عن أن تعيش فيه، من قبل. وإلى درجة أن المحللين الذين يمتلكون أدنى درجات الموضوعية في هذه البلاد لا يكفون عن تكرار حقيقة أنهم لا يُصدّقون ما تراهُ أعينهم وتسمعه آذانهم كل يوم.

منذ بضعة أيام، وعلى سبيل المثال، كتبت الصحفية مارغريت سوليفان في صحيفة الواشنطن بوست تقريراً بعنوان: "التحقق من أكاذيب ترامب أمرٌ أساسي. لكنها تبدو باضطراد عمليةً غير مُجدية"، تصف فيه ما يُصيب المتابعين لأكاذيب ترامب المستمرة من ضجرٍ هائل، خاصةً وأنهم يشعرون أن استمراء الكذب بهذه الدرجة هبط بمستوى الخطاب السياسي في البلاد إلى قعرٍ لا تبدو له نهاية، الأمر الذي أحدث تشويشاً كبيراً لدى المواطن الأميركي العادي، العازف بشكلٍ عام عن متابعة أخبار السياسة، والذي لا يثق ابتداءً بالساسة وأقوالهم. وهو ما يدفعه لمزيدٍ من الزهدِ في العملية السياسية التي يرى المراقبون أنها، بمسارها الراهن، تأخذ أميركا إلى الفوضى والمجهول.

يبقى هذا الواقع حتى عندما تضع شركة تويتر ملاحظات توضيحية على بعض تغريدات ترامب أو تُضطر لحذفها كلياً، كما حدث الأربعاء الفائت، واصفةً إياها بأنها "مضللة وغير صحيحة"، وحتى عندما تتخصص بعض الصحف العريقة، مثل نيويورك تايمز، بنشر تقارير دورية عن عدد أكاذيبه الذي تجاوز رقم 45  ألف كذبة علَنية منذ توليه الرئاسة.

لكن المُشكلة أن مؤيدي ترامب المذكورين يلاحقون مقولاته وتغريداته وتصريحاته في تويتر ومن خلال قناة فوكس نيوز اليمينية بشكلٍ كثيف، وهم ينظرون إلى حال أميركا والعالم بأسره من منظار تلك التغريدات والتصريحات.

من هنا، يأتي تركيز الرئيس وحملته الانتخابية، في هذه المرحلة، على استعمال ورقة الكذب لاستثمار ورقتين أخريين هما التخويف والعنصرية، لترسيخ شعبيته في أوساط قاعدته الانتخابية بأي شكلٍ من الأشكال.

وقد بلغ الأمر درجةً وصلت إلى اعتماد ترامب لمقولات منظمة QAnan المتطرفة التي تؤكد على أنه جاء كمبعوثٍ من العناية الإلهية ليُنقذ أميركا والعالم من عصابةٍ تحكم العالم تتألف من مُغتصبي الأطفال وتُجار الجنس، تتضمن بعض المشاهير والشخصيات العامة ومسؤولي الحكومة في أميركا، وتريد أن تتحكم نهائياً بالبلاد! ورغم أن شركة فيس بوك اضطُرت إلى أن تُلغي صفحات المنظمة وكل مؤيديها على موقعها الشهير، ورغم أن وكالة التحقيقات الفدرالية FBI صرّحت منذ الربيع الماضي بأن المنظمة تُشكلُ خطراً أمنياً محتملاً على المُجتمع الأميركي، إلا أن ترامب قال عندما طلبت منه مراسلة وكالة الأسوشيتد برس، جيل كولفن، رأيه في المنظمة خلال مؤتمرٍ صحفي: "ما أعرفه أنهم يُحبونني. ثم أريد أن أسألكِ: هل هناك ضيرٌ من هذا الوصف الذي يُطلقونه علي؟".

وبخطابٍ مُفعمٍ بالعنصرية، ترددُ دعايات ترامب التلفزيونية على سكان ضواحي المدن الأميركية، ذات الغالبية البيضاء، القول بأن انتخاب مُنافسهِ الديمقراطي جو بايدن سيكون المدخل لأن تقتحم عصابات القتلة من المُلونين والأقليات ضواحيهم، وتُلوثها بالجريمة والقاذورات. بل إن خطاب ترامب في ختام المؤتمر الجمهوري كان بمثابة هجومٍ شاملٍ على بايدن، وباستخدام أكاذيب تدحضُها الوقائع والأرقام والوثائق، يؤكد على أن أميركا ستخسر أمنها واقتصادها ونظامها السياسي بشكلٍ كامل، ولصالح اليساريين ومجرمي الأقليات، في حال وصول بايدن إلى البيت الأبيض.

من هنا، جاءت حادثة قتل شرطيٍ أبيض لرجلٍ أسود بسبع رصاصات في ظهرهِ بسبب الاشتباه به، وهو يهمُّ بركوب سيارته، وأمام أطفاله الثلاثة الصغار، في مدينة كينوشا بولاية ويسكانسون الحساسة انتخابياً، بمثابة الزيت الذي يُصبُّ على الاحتقان العرقي والسياسي والأيديولوجي الذي تُمر به الولايات المتحدة في هذه الفترة. لا سيما إذا ما أضفنا إلى ذلك تأثير أزمة وباء كورونا المُستجد المُشتعلة فيها، وتأثير الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد.

وكأن هذا الحادث لم يكن كافياً. شاهد الأميركان، وهم ينظرون إلى المظاهرات الصاخبة والعنيفة التي قامت بعد الحادثة، مقاطع من مختلف الزوايا صورها المتظاهرون بهواتفهم النقالة، وتُظهرُ فتىً أبيض من أنصار ترامب يبلغ السابعة عشرَ عاماً، مدججاً بالسلاح، جاء إلى مدينة كينوشا من ولاية إيلينوي المُجاورة، وقام بإطلاق النار على المتظاهرين، حيث قتل اثنين من الأميركان الأفارقة وجرحَ ثالثاً. غير أن الشرطة تجاهَلته، رغم أنه حاولَ تسليم نفسه مُبرراً جريمته بأنها لحماية الممتلكات العامة، ثم إنه عاد إلى منزل والديه وباتَ الليلة فيه، إلى أن تصاعدَ التوتر، مما اضطر الشرطة للقبض عليه، تمهيداً لمُحاكمته.

بالمقابل، كان الرجلُ الأسود الذي نجا بأعجوبةٍ من الموت مُقيداً بالأصفاد إلى سريره في المستشفى، رغم تأكيد الأطباء بأنه أصيب بشللٍ نصفي كامل نتيجة الرصاص!

وإذ يبدو عرضُ مثل هذه التفاصيل ضرورياً لتوضيح أبعاد صورة الخطر الذي تواجهه أميركا، فإن ترامب يبدو وكأنه قد نجحَ في إقناع مؤيديه بأن انتخابهُ هو بمثابة شأنٍ وجوديٍ بالنسبة للعرق الأبيض في أميركا. والواضح، بالتالي، من عشرات الأحداث والوقائع الأخرى التي لا يتسع هذا المقام حتى للإشارة إليها، بأن هذه البلاد أمام مفترق طرقٍ مصيريٍ وحساس ستتبدى ملامحه خلال الشهرين القادمين، وصولاً إلى يوم الانتخابات في 3 تشرين الثاني المُقبل، بصورةٍ أوضح، وإن كانت كل المؤشرات حتى الآن تدفع إلى التشاؤم.