مشهد الانتخابات الأميركية: سياسةٌ أم (صِناعة)؟

2020.09.11 | 00:49 دمشق

2020-09-09t211208z_130500721_rc27vi9y62yf_rtrmadp_3_usa-court-trump.jpg
+A
حجم الخط
-A

من خصوصيات أميركا، بثقافتها والمنظومات المُنبثقة منها، القدرةُ على تحويل كل فعاليةٍ من فعاليات الحياة إلى صناعةٍ مُحددة (Industry). والحقيقةُ أن ثمة إيجابياتٍ ممكنةٍ دائماً في تلك القدرة، منها التركيزُ والتخصصُ والتشجيع على الإبداع من خلال دفعِ الطاقة والحيوية البشرية إلى مُنتهاها، وماينتجُ عن ذلك من فعاليةٍ في أي حقلٍ معرفي أو عملي. رغم ذلك، تحمل العملية أيضاً محاذيرَ خطيرة، من أهمها مايمكن أن نُسميه تفريغ ذلك المجال من رُوحهِ وفحواه المعنوي، وتغليب الجانب المادي البحت على فعالياته بشكلٍ يغلبُ أن يكون في غاية القسوة.

 

خصوصية التاريخ الأميركي

يوم الإثنين الفائت، احتفل الأميركيون بعيد العمال الذي يُعتمدُ دوماً باعتباره الإثنين الأول في شهر أيلول من كل عام. تُظهر هذه الطريقة الشائعةُ عند الاحتفال بالأعياد، بحد ذاتها، مدى التركيز على أن تكون الحياة عمليةً في الثقافة الأميركية. فباستثناء يومي عيد الميلاد ورأس السنة الميلادية، تمَّ اعتمادُ غالبية الأعياد الأخرى المشهورة شعبياً في هذه البلاد بحيث تكون أول أو ثاني أو ثالث أو آخر يوم جمعة أو يوم اثنين من كل شهر، وذلك بغرض أن يُضاف اليوم إلى يومي نهاية الأسبوع، السبت والأحد، فتكونَ عطلةً طويلةً تسمح للعائلات والشباب بالسفر والترفيه. ويأتي مع هذا وذاك إنفاق المال بطبيعة الحال، وبطريقةٍ تسويقية مدروسة بدقة.

فبدءاً من يوم مارتن لوثر كينغ في الجمعة الثالثة من كانون الثاني، وانتهاءً بيوم كولومبوس، ثاني يوم إثنين في شهر تشرين الثاني، ومروراً بأمثلةٍ كيوم الرؤساء President Day في الإثنين الثالث من شباط، والجمعة الحزينة في شهر نيسان، ويوم الذكرى Memorial Day في آخر إثنين من أيار، إلى غيرها من الأعياد، تمَّ توزيع العطلات والأعياد سنوياً بشكلٍ مقصود، وبحيث تتحققُ الأهداف العملية الاجتماعية والاقتصادية المطلوبة على مدار العام، مع مايُصاحبها من عروض خاصة ومهرجانات تسويق وتخفيضات في الأسعار لكل شيءٍ يمكن أن يتخيل الإنسان إمكانية شرائه أو دفع تكاليفه بالمال.

من خصوصيات أميركا، بثقافتها والمنظومات المُنبثقة منها، القدرةُ على تحويل كل فعاليةٍ من فعاليات الحياة إلى صناعةٍ مُحددة

لاتوجدُ تواريخ مُقدّسة في أميركا، كما هو الحال مع كل شيٍ آخر تقريباً. وعمليًاً، لاتهتم ثقافة البلاد كثيراً بعمقٍ تاريخيٍ أو إرثٍ تقليدي في أي مجال، إلا حين يكون توظيف الأمر سياسياً أو اقتصادياً أو أيديولوجياً في مصلحة من يقوم بالأمر، بطبيعة الحال. والأصلُ في هذه الثقافة الزهدُ بالتقاليد العالمية، كما هو الحال مثلاً مع عيدي الأم والعمال، اللذين يُجمع العالم على تاريخٍ لهما يختلف عن التاريخ الأميركي.

 

استطلاعات الرأي والفساد السياسي

تستمر الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية قُرابة سنتين، وفي حين تم إنفاق قرابة مليار دولار على الانتخابات الرئاسية السابقة، عامي 1015 و2016، تُفيد التقارير أنه تم إنفاق قرابة 1,3 مليار دولار حتى الآن في هذه الدورة الانتخابية، ويُتوقع أن يتجاوز الرقم ملياري دولار مع وصول يوم الانتخابات في أقل من شهرين. ذلك أن يوم عيد العمال، الإثنين الماضي، يُعتبر نقطة الانطلاق للمرحلة النهائية من رحلتها الطويلة. وتتضح المفارقة حين نعلم، مثلاً، أن فترة الانتخابات العامة في أقدم ديمقراطيةٍ في العالم، بريطانيا، لايجب أن تتجاوز، قانونياً، ستة أسابيع، من لحظة انطلاق الحملة إلى يوم الانتخابات!

هذا مثالٌ واحد على خصوصية الديمقراطية الأميركية، وعلى كيفية تحويل موسم الانتخابات إلى صناعةٍ تجارية ضخمة تستفيد منها بالدرجة الأولى المؤسسات الإعلامية، ومعها المُحللين وخبراء العلاقات العامة والإعلان والتسويق، ومعها شركاتهم، ومؤسسات استطلاع الرأي. فخلال خمسة أيامٍ فقط، تم الإعلان عن عشرات استطلاعات الرأي، سواء كانت على مستوى المُقاطعات أو الولايات أو على المستوى القومي، وبحيث دخلت العملية السياسية في دوامةٍ من الأرقام ستستمر في التصاعد خلال الأسابيع القادمة.

أما المفارقة الإضافية في هذه الدورة فتتعلق بما تكشَّفَ منذ أيام عن فضائح الفساد المتعددة في حملة الرئيس الانتخابية. فقد تبين من الأرقام التي تُنشر للعموم أن ترامب وحملته جمعَا من التبرعات منذ بداية الحملة مايفوق 1,3 مليار دولار، وأنه تم إنفاق أكثر من 800 مليون دولار منها فعلاً، الأمر الذي وضع حملةً انتخابيةً ثانيةً لرئيسٍ موجودٍ في البيت الأبيض وراءَ المرشح المنافس من حيث القوة المالية في هذه الفترة الحساسة، ولأول مرةٍ في التاريخ الأميركي.

وفي هبوطٍ عموديٍ، لايبدو له قاع، في ممارسة الفساد علَناً، أو ماسميناهُ بعملية (الإغراق) التي يقوم ترامب بدفع الساحة السياسية الأميركية في مَوجِها العارم، إن لجهة الخطاب أو التصرفات العملية، ظهرَ أن ترامب نفسه أنفقَ قرابة 21 مليون دولار، من أموال المتبرعين للحملة، على فريق المحامين الخاص الذي دافع عنه خلال المحاكمة التي قام بها مجلس النواب في العام الماضي وانتهت بعزله Impeachment في شهر كانون الأول الماضي، ولايزال يُدافع عنه في عدة محاكم فيدرالية بخصوص قضايا مرفوعة ضده. هذا فضلاً عن عمليات الاختلاس والسرقة التي قام بها غالبية قادة الحملة الانتخابية، وفي مقدمتهم مديرها السابق، براد براسكال، والذي تبين أنه اشترى يخوتاً ومنازل وسيارات فخمة، وكان كل مافعله ترامب أنه وضعه نائباً للمدير منذ أسابيع.

تبين من الأرقام التي تُنشر للعموم أن ترامب وحملته جمعَا من التبرعات منذ بداية الحملة مايفوق 1,3 مليار دولار، وأنه تم إنفاق أكثر من 800 مليون دولار منها فعلاً

ويظهر حجم الفساد ودلالاته حين نعلم أن التبرعات الهائلة للحملة لم تنتج فقط عن مساهماتٍ بالملايين من قبل كبار الأثرياء الأميركان وشركاتهم، وهو ماحصلَ فعلاً، وإنما أيضاً من ملايين البُسطاء من مؤيديه الذين دفع ويدفع كلٌ منهم عشرة دولارات أو أكثر من دخلهم المتواضع. تحدثنا سابقاً عن الملايين من هذه الشريحة، وأغلبهم من البيض الذين لايحملون شهادات جامعية، وترامب يحشرهم بشكلٍ متزايد في زاوية الخوف من خلال حملة الترهيب الضخمة التي باتت، بإجماع المراقبين، محور خطابهِ الانتخابي ضد المرشح الديمقراطي جو بايدن. رغم هذا، لاتزال هذه الممارسة تنطلي على الكثيرين، وحين يقوم المرء بزيارة موقع الحملة الانتخابية لترامب على شبكة الإنترنت، ويحاول الخروج من الموقع، فستظهر له على الفور رسالةٌ تطلب منه عدم المغادرة، مع صورةٍ لبايدن ومعه المرشحة لمنصب نائب الرئيس، كامالا هاريس، وفي الخلفية صورةٌ لمظاهرات عنيفة، مع عنوانٍ يقول: "انتظر! لايمكن لنا أن نسمح بأن يُدمِّرَ جو وكامالا أمتنا".

تضع هذه الظاهرة أميركا، ونظامها السياسي، أمام مآزق عديدة قد يكون من أهمها، استراتيجياً، ازدياد حالة عدم الثقة بذلك النظام نفسه، وهي حالةٌ موجودةٌ من قبل في أوساط واسعة من شرائح المجتمع الأميركي، خاصةً في شريحة الطبقة المتوسطة المشغولة بحياتها اليومية وهمومها العملية، والطبقة الأقل دخلاً التي تعتبر العملية السياسية بأسرها رفاهيةً محصورةً في طبقة الأثرياء، لاجدوى من الاقتراب منها أصلاً. كان هذا هو الحال حين كان رئيسٌ مثقفٌ ذو شعبية ومن الأقلية السوداء، مثل أوباما، قابعاً في المكتب البيضاوي في البيت الأبيض، فكيف يكون الحال مع رئيسٍ يمثل أكثرَ مافي أميركا من تفاهةٍ وفسادٍ وسطحية؟ والمسألةُ أن هذا الزهد يصبُّ حالياً في مصلحة إعادة انتخاب ترامب من قِبلِ قاعدته، كما أنه، على المدى البعيد، سيُرسخ ثقافة الشعبوية والخطاب الأيديولوجي الديماغوجي الذي يُفقد أي ديمقراطية مُحتواها الحقيقي، ويقلبها عملياً إلى نظامٍ توتاليتاري شمولي، ولكن بإخراجٍ ينتمي نظرياً للديمقراطية.

يتضحُ هذا بدرجةٍ من الغرابة حين نرى كيف أن أعضاء الكونغرس من الجمهوريين كانوا، خلال السنوات الثلاثة والنصف الماضية، أقرب مايكونون إلى (أعضاء البرلمان السوري) في علاقتهم بالرئيس! ويسري الحالُ نفسه على حكام الولايات الجمهوريين وغيرهم من المسؤولين الذين أصبحوا بمثابة جوقة تصفيقٍ للرئيس وفريق دفاعٍ عنه وعن قراراته، مع إهمالٍ كامل لمسؤولياتهم الرقابية أو التشريعية أو التنفيذية. وإذا كان من الصعب عن القارئ العربي الذي لايتابع مُجريات الأحداث في أميركا عن قربٍ أن يتصور دلالات هذا العرض، فإن بالإمكان إحالَته إلى عشرات الكتب والدراسات والمقالات التي ظهرت منذ بداية ولاية ترامب، كثيرٌ منها بأقلام جمهوريين مُخضرمين، وتُحذر من انزلاق البلاد بعيداً عن الديمقراطية.

 

أرقامٌ وحقائق

تتشابه الأرقام الواردة في استطلاعات الرأي المُختلفة التي يمكن أن تُعطينا فكرةً عن واقع الحملة في هذه الأيام. ففي استطلاعٍ أخير مُشترَك، كما تغلبُ العادة، قامت به قناة NBC العملاقة مع المشرفين على استطلاع Marist Poll  العريق، يوم الأربعاء الماضي ظهرَ تقدم بايدن على المستوى القومي بتسع نقاط، حيث بلغت نسبة الذين يؤيدون انتخابه كرئيس 53٪ في حين ذكر 44٪ أنهم مع ترامب.

صحيحٌ أن المرشح الديمقراطي يسبق منذ أسابيع ترامب، إلا أن مثل هذه الأرقام تُعبّرُ في الواقع عن قوة ترامب في قاعدته الانتخابية الصلبة، خاصةً حين نأخذ بعين الاعتبار حجم وطبيعة الفضائح التي واجهتهُ، ويبدو أنه ينجو منها باستمرار مع المواطنين من تلك القاعدة، في حين أنه كان يُمكنُ لمثل تلك الفضائح أن تُطيحَ بأي رئيسٍ سابقٍ وهو في منصبه، ابتداءً. سيما وأن هذا حصل كما هو الحال مع الرئيس الجمهوري السابق ريتشارد نيكسون.

ويمكن فهم الظاهرة بشكلٍ أكبر حين نعرف ماهي مكونات قاعدة ترامب الانتخابية. فحسب الاستطلاع أعلاه، بلغت جاءت الشرائح الأربعة الأكثر تأييداً له وفق النسب التالية: 79٪ هم من البيض الإنجيليين، 69٪ من البيض الذين لايحملون شهادة جامعية أو متوسطة، 60٪ من الريفيين، و51٪ من الرجال.

صحيحٌ أن المرشح الديمقراطي يسبق منذ أسابيع ترامب، إلا أن مثل هذه الأرقام تُعبّرُ في الواقع عن قوة ترامب في قاعدته الانتخابية الصلبة

المفارقة الأخرى، والمفارقات في الانتخابات الأميركية كثيرة، أن نتيجتها تبدو متعلقة ببضعة ولايات متأرجحة هي التي ستُحدد الفائز، وتحديداً: ميتشيغان، ويسكونسن، أريزونا، كولورادو، أياوا، وفلوريدا. والأرجح أن يكون هذا في دوائر انتخابية مُحددة منها فاز بها ترامب في الانتخابات السابقة. أما الدوائر والولايات الأخرى فإن توجهها معروفٌ سلفاً بدرجةٍ كبيرة.

 

هل يمكن لصحافيٍ أن يُسقط ترامب بعد أن أسقط نيكسون؟

 منذ 48 عاماً، كان بوب وودورد صحافياً مثابراً، ولكن مغموراً، في الثلاثين من عمره، انتقل للعمل كمراسل لصحيفة الواشنطن بوست العريقة قبلها بسنتين. كلفته الصحيفة، مع زميله كاري بيرنستاين، بالتحقيق في ماكان يُعتقد بأنه جريمة سرقة عادية في مكاتب اللجنة القومية الديمقراطية المسؤولة عن الحملات الانتخابية للحزب الديمقراطي، والموجودة في مبنى واترغيت الشهير للمكاتب في العاصمة واشنطن. تابع الرجلان الخيوط التي وجداها بشكلٍ أكثر مهارةً من أجهزة الأمن. بعدها بسنتين، كان الرئيس الأميركي، الجمهوري، نيكسون قد استقال بسبب تحقيق الصحفيين، بعد أن تبين أنه هو الذي أمر بالعملية، وأنها كانت للحصول على وثائق تتضمن أسرار عمل اللجنة المذكورة، فيما أصبح بعد ذلك معروفاً بفضيحة واترغيت.

أصبح وودورد من أشهر الصحافيين الأميركيين، وحاز على جوائز عديدة، ووصل إلى منصب المحرر المساعد لصحيفة الواشنطن بوست، وكتب على مدى العقود الماضية أكثر من 15 كتاباً، وصلت 13 منها إلى أن تكون من الكتب الأكثر مبيعاً. كان ترامب من المُعجبين بوودورد، لكن الأخير نشر عام 2018 كتاباً عنه بعنوان (الخوف: ترامب في البيت الأبيض) بناءً على مقابلاتٍ مكثفة مع مساعديه السابقين وعددٍ من أصدقائه ومعارفه. كان الكتاب من أولى القنابل التي أُلقيت على إدارة ترامب بما احتوى عليه من روايات عن ممارسات الرئيس الأميركي الفاسدة، وعن طريقة تفكيره وعمله البعيدة عن كل تقاليد الرئاسة الأميركية.

حاول ترامب، الذي يُعجبُ بالشخصيات القوية، أن يستميل وودورد إليه بعد ذلك، فوجدها الصحافي المخضرم الداهية فرصةً ذهبية لكتابة كتابٍ آخر لم يكن في وارد كتابته قبل ذلك، وكانت النتيجة بمثابة تجربة نموذجية عن العلاقة بين الصحافة والسياسة في المنظومة الأميركية. كان ترامب واثقاً بقدرته على التقرب من الصحافي بناءً على تجربته في السيطرة على قناة فوكس نيوز المحافِظة من خلال تبادل المصالح، إلى درجةٍ باتت فيها بمثابة قناة تلفزيونية حكومية ناطقة باسم الرئاسة، يسميها المراقبون (قناة ترامب)، فضلاً عن بضعة صحف ومجلات مُحافظة أخرى في الولايات المتحدة. وهي معلوماتٌ أوردها المحامي والمُساعد الخاص السابق لترامب، مايكل كوهين، في كتابٍ آخر، صدر بدورهِ منذ يومين بعنوان (العاق: مذكرات. القصة الحقيقية للمحامي الخاص للرئيس دونالد ترامب).

كان وودورد يعرف تماماً كيف يفكر ترامب، فأغراه بإجراء 18 مقابلة على مدى بضعة شهور، وأقنعه بأن يُسجل المقابلات المذكورة لعلمه بأن أول مايفعله ترامب هو تكذيب أي خبرٍ عنه لايُعجبهُ لأي سبب، الأمر الذي سَاعدهُ على تجاوز كثيرٍ من الفضائح التي أثيرت حوله على مدى سنوات.

وقعَ ترامب في الفخ وهو يعتقد أنه يُحقق إنجازاً، وأعلن وودورد، يوم الأربعاء الماضي، في تغريدةٍ له عن صدور الكتاب يوم 15 أيلول الحالي، فيما يُعتبر، من ناحية، واحدةً من أنجح عمليات التسويق لكتاب في لحظةٍ مفصلية من التاريخ السياسي الأميركي، ومن ناحيةٍ أخرى، مأزقاً من أكبر المآزق التي يمكن أن تواجهها إدارة ترامب. وفيما يُشبه عملية هجومٍ استباقية، سرّب الصحافي في نفس اليوم بضع دقائق مُسجّلة بصوت الرئيس تتعلق بمقاطع هامة من الكتاب تتعلق بأكثر القضايا حساسيةً في السباق الانتخابي.

ففيما يتعلق بفيروس كورونا الذي كان ترامب يُصر على تصغير تأثيره منذ بداية العام، ظهر مقطعٌ بتاريخ 8 شباط يؤكد فيه الرئيس للصحافي أن الفيروس خطيرٌ جداً، وأنه يتقصد عملية التصغير المذكورة وسيبقى يستعملها كاستراتيجية في التعامل مع الموضوع. وفي غضون ساعةٍ بدأت الضجة تتصاعد في أميركا بخصوص هذه المعلومات. فقد مات أكثر من 190 ألف أميركي نتيجة الإصابة بالفيروس خلال سبعة شهور، وتجاوز عدد المصابين به 5 ملايين أميركي. وهذه أرقام ثمة إجماعٌ على أنها كان يمكن أن تكون أقل بكثير، ومعها الانهيار الاقتصادي، والأزمة الاجتماعية والأمنية المتصاعدة، فقط لو أن الرئيس صرح علَناً بما ذكرهُ سراً للصحافي.

فوق هذا، تداولت وسائل الإعلام تصريحاتٍ لوزير دفاع ترامب السابق، الجنرال جيمس ماتيس، وَرَدَت في كتاب وودورد، وصف فيها الرئيس بأنه "خطِر" و"غير مؤهل للرئاسة" و"ليس لديه أي بوصلة أخلاقية". في حين قال دان كوتس، المدير السابق لمكتب أجهزة الأمن الأميركية، في إدارة ترامب، للصحافي أن مديره السابق "لايعرف الفرق بين الحقيقة والكذب". أما المسؤول عن مكافحة وباء كورونا الدكتور الشهير ذو المصداقية الكبيرة في أميركا، أنتوني فاوتشي، فقد وصف الرئيس بأن "درجة قدرته على الانتباه تكاد تكون سلبيةً" وبأن "هدفه الوحيد [في الحياة الآن] هو إعادةُ انتخابه".

هل ينجو ترامب من هذه الأزمة كما نجا من كل الأزمات السابقة؟ يبدو الاحتمال وارداً، رغم وجود مؤشرات أولية على أن المنظومة العسكرية والأمنية، ومعها قطاعٌ متزايدٌ من المحافظين المثقفين يبدون في وارد حسم الموقف منه سلبياً. وإذ يبقى الموقف مفتوحاً على كل الاحتمالات، يبدو الجرحُ غائراً في عُمقِ المنظومة الأميركية، حين تتحول القضايا الكبرى إلى تجارةٍ أو صناعةٍ شخصيةٍ رابحة. وهو ماعَبَّرَ عنه تساؤل مذيعة قناة إن بي سي التي يصعدُ نجمها، جوي ريد، حين قالت لأحد المحللين في معرض مناقشة كتاب وودورد على برنامجها المشهور: "ولماذا لم يُقدّم بوب وودورد تلك المعلومات الخطيرة للشعب الأميركي يوم عرِفَها بدلَ أن ينتظر إلى الآن؟" في إشارةٍ إلى ماكان يُمكن أن يكون لذلك من تأثير، على الأقل في مجال إنقاذ أرواح عشرات الآلاف. ابتسمَ الصحافي الذي قال إنه صديق الصحافي المُخضرم، وقال إنه "لايعرف ماذا يمكن أن تكون الإجابةُ على مثل هذا السؤال"!