يوم 12 أيار/مايو الحالي، وخلال توجهه لحضور حفل إطلاق كتابه الأخير "لماذا لم يعتقلوك؟ ماذا سيحدث في النهاية؟"، الذي كان سيقام في معرض طهران للكتاب، اعتقلت السلطات الإيرانية المعارض الإصلاحي، الكاتب والأكاديمي المعروف صادق زيباكلام (76 سنة)! هل يبدو الخبر وكأنه طرفة؟ نعم هو كذلك وأكثر. إنها طرفة سوداء من النوع الذي لا يمكن أن تحدث سوى في دول الاستبداد. ما يذهب بالإحساس إلى درجة الاعتقاد بأن تلك السلطات رغم قسوتها، إلا أنها تمتلك بعضاً من حسِّ الدعابة، ما جعلها تعتقل الرجل في ذاك التوقيت بالذات.
شخصياً، لا أعرف عن مضمون الكتاب، ولكن من قراءة سيرة الرجل، أرى أنه يحاول في كتابه الإجابة على استفسارات وتساؤلات بعض منتقديه، وربما اتهامهم له بأنه ليس معارضاً حقيقياً، وإلا لما بقي خارج السجن، رغم شجاعته الاستثنائية في توصيف النظام. وهو، بانتقاده للسلطات الحاكمة، إنما يحاول تبييض صفحتها، لتبدو وكأنها ديموقراطية، بدليل أنها تسمح للآراء المخالفة أن تتواجد على الساحة.
هكذا اتهام ليس غريباً علينا في حالتنا السورية، فنحن إنما نفعل ذلك ضد المعارضين الذين ما زالوا في مناطق سيطرة قوات الأسد، ويدلون بآرائهم الواضحة والشجاعة في كثير من الأحيان، فنعتبرهم كما لو أنهم مسكوت عنهم من قبل السلطة، كنوع من التواطؤ. تبدو تلك الاتهامات محقّة أحياناً، لكنها غالباً ليست كذلك.
زيباكلام، وهو يحمل الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة برادفورد البريطانية، اعتقل على يد السافاك في حقبة الشاه عام 1974، وقضى في السجن أكثر من عامين بتهمة الدعاية لمجموعة "مجاهدي خلق". وكان مناصراً للثورة الإسلامية في بداياتها، وقد درّس في جامعة طهران وغيرها. لكن تحوّلات الرجل، أدّت إلى فصله من التدريس، ومنعه من إجراء أية مقابلات مع التلفزيون أو الراديو الحكومي، والتضييق على نشاطاته.
في السنوات الأخيرة، أصدرت السلطات القضائية ثلاثة أحكام ضد زيباكلام في قضايا مختلفة، جميعها جاءت على إثر تصريحات أدلى بها لوسائل إعلام دولية معادية، حسب تصنيفات السلطة الإيرانية. انتقد بها البرنامج النووي، وقضية الإجبار على حجاب النساء، إضافة إلى انتقاد النظام بطبيعة الحال، وهو ما يعرف (قانونياً) بالدعاية المعادية للحكومة، ونشر قضايا مخالفة للحقيقة (كاذبة)! كانت الأحكام، ومجموعها ثلاثة سنوات، مودعة لدى "قسم تنفيذ الأحكام"، حتى شاءت (المصادفة) أن ترتأي السلطات القضائية وجوب تنفيذها، يوم موعد إطلاق كتابه الأخير في المعرض.
اتهم بأنه يشوّه صورة إيران والنظام في الإعلام الفارسي المعادي، ويقدّم تحليلات مغايرة لتوجهات الدولة في الشؤون المحلية والدولية.
للطرافة، وبمناسبة الحديث عن معرض طهران الدولي الخامس والثلاثين للكتاب، الذي تقاطعه معظم دور النشر العالمية، فإن إدارة المعرض خصصت جناحاً مميزاً للحوثيين. كما نشرت لوحات إعلانية كبيرة تحثّ على ارتداء الحجاب، كانت إحداها تنقل اقتباساً مزيّفاً عن الروائي الروسي تولستوي "في الغرب، تمنح الحرية للمرأة، لأن الغرب ما زال يعتبر المرأة وسيلة للمتعة"!
ما ميَّز المعرض أكثر من أي شيء آخر، هو أنه تحول إلى ساحة معركة لحملة القمع المكثفة التي تشنها السلطات ضمن ما سُمّي "خطة نور" التي أُقرَّت في شهر نيسان/أبريل الماضي، لقمع النساء الرافضات للحجاب الإجباري، وتم تنفيذها في جميع أنحاء البلاد بتوجيه من المرشد الأعلى. فأثار الوجود الكثيف لحارسات الحجاب واستخدام الطائرات المسيرة المزودة بكاميرات للتعرف على المخالِفات، استياء زوّار المعرض. في تلك الأجواء لم أجد الجواب على سؤال خطر لي أن أوجهه إلى أحدث سجناء إيران: ما الذي أخذك إلى هناك يا رجل؟
خبر اعتقال زيباكلام، ورَدَ مع الكثير من الترحيب في الصحف التابعة للمرشد الأعلى والحرس الثوري، التي اتهمته بأنه يشوّه صورة إيران والنظام في الإعلام الفارسي المعادي، ويقدّم تحليلات مغايرة لتوجهات الدولة في الشؤون المحلية والدولية! بينما انتقدت الصحف الإصلاحية الخطوة، ورأت أن "سعة صدر السلطة لا ينبغي أن تضيق لدرجة إسكات أصوات الأساتذة".
وأشارت العديد من المواقف إلى زيباري كسجين سياسي في العهد الملكي، يعود إلى سجن الجمهورية الإسلامية، معتبرةً أن سجنه "يمكن أن يسبب الخوف بين المعارضين بشكل مؤقت، أما على المدى الطويل فإن لتأثير تكتيكات التخويف نتائج عكسية". إحدى الصحف أوردت الخبر تحت عنوان "الرواية غير الرسمية ممنوعة".
في الثامن من أيار/مايو الجاري، قبل أربعة أيام من اعتقال زيباكلام، أصدرت محكمة الثورة حكماً بالسجن ثماني سنوات على المخرج السينمائي الإيراني الشهير محمد رسولوف، إضافة إلى عقوبات أخرى شملت الجلد والغرامة ومصادرة الأموال، وانتقل القرار إلى قسم تنفيذ الأحكام. التهمة كالمعتاد "التواطؤ بقصد ارتكاب جرائم ضد أمن البلاد"، أما السبب الحقيقي فهي أفلامه التي حازت الجوائز الذهبية في العديد من المهرجانات، منها مهرجانا برلين وكان. في مهرجان برلين السينمائي الدولي، حصل على جائزة الدب الذهبي عن فيلمه "لا يوجد شر" خلال اعتقاله لشهور عديدة، من صيف عام 2022 إلى ربيع 2023.
"إذا كانت إيران الجغرافيا تتألم تحت وطأة استبدادكم الديني، فإن إيران الثقافة حيّة في ضمائر ملايين الإيرانيين الذين اضطروا إلى مغادرتها، للتخلص من ظلمكم وتوحّشكم. من الآن فصاعداً، سأعيش في إيران الثقافة، مع الإيرانيين الذين ينتظرون بصبر دفنكم مع نظامكم القمعي في مزبلة التاريخ".
كان رسولوف أكثر حظاً من زيباكلام، فقد أعلن يوم 13 الشهر الجاري، عن وصوله إلى أوروبا، بعد أن غادر بلده في رحلة شاقّة سيراً على الأقدام عبر الحدود الجبلية الوعرة، بسبب حرمانه من جواز السفر منذ عام 2017. وفي بيان شخصي مؤثر كتب رسولوف مخاطباً سلطات بلاده، وهو خطاب يصح توجيهه إلى أية سلطة ديكتاتورية: "إذا كانت إيران الجغرافيا تتألم تحت وطأة استبدادكم الديني، فإن إيران الثقافة حيّة في ضمائر ملايين الإيرانيين الذين اضطروا إلى مغادرتها، للتخلص من ظلمكم وتوحّشكم. من الآن فصاعداً، سأعيش في إيران الثقافة، مع الإيرانيين الذين ينتظرون بصبر دفنكم مع نظامكم القمعي في مزبلة التاريخ".
بالعودة إلى صادق زيباكلام، فقد أبطلت سلطات القمع، باعتقاله، جدوى سؤاله في عنوان الكتاب، ومعه أبطلت الداعي للإجابات والتفسيرات التي قدّمها المؤلف رداً على السؤال، لكنها بالتأكيد، لم تُبطل السؤال الآخر في العنوان الفرعي "ماذا يحدث في النهاية؟". في بيانه الخاص، قد يكون رسولوف قد قدّم أفضل إجابة ممكنة.