في قضية إسلام علوش: مع العدالة ضدّ الانتقام

2021.04.11 | 06:45 دمشق

338.jpg
+A
حجم الخط
-A

حَصَلتْ في بلدنا الصغير سوريا جريمة إبادة جماعية في السنين القليلة الماضية، راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، ولم تزل دروب الألم مفتوحة على كلّ الاحتمالات، فالمجرم ما يزال طليقاً، بل رئيساً قانونياً لسوريا، حسب المنظومة السياسية العالمية الجائرة.

وقد جرت في بلدنا أيضاً جريمة تطهير عرقي، والأصحّ أن نقول إنها ما تزال تجري، فهناك بضعة ملايين من السوريين - وكاتب المقال واحدٌ منهم - طُردوا من أحيائهم وبلداتهم بالقوة العسكرية، فهاموا في زوايا الكون، أو التجؤوا للمخيمات، داخل سوريا وخارجها.

 المجرم الدولي الذي ارتكب التطهير العرقي هو نفسه الذي ارتكب الإبادة، لكن في حين أنّه أنكر الثانية، فقد اعترف بالأولى بفجورٍ وساديّة، إذ أعلن بشار الأسد أن سوريا صارت "أكثر تجانساً،" ولو أكمل عبارته لقال: "بعد إنجاز الإبادة، وإتمام التطهير العرقي."!

معظم السوريين أصحاب الإحساس العالي، وخصوصاً من نجا منهم من الإبادة والتطهير العرقي، يباشرون الحياة اليومية بغُصّة ما كانوا يعرفونها قبل الحرب، وهذه الغُصّة تزداد قساوةً ومرارة ونحن نشاهد ما يكابده الناجون من هذه المأساة، سواء كان الناجون لاجئين في زوايا الكون، أم نازحين في مخيمات القهر داخل سوريا، أم من ذوي القتلى والمصابين والمفقودين.

 في سوريا الحبيبة اليوم كم من أمّ فقدت ابنها، وزوجةٍ فقدت زوجها، وأطفال صاروا بلا أب، وشابٍ أو فتاة طالتهما الإعاقة ففقدا قطعةً غالية من جسديهما، أو ذهبت عنهما نعمة من نعم الحواس كالسمع أو البصر بسبب آثار الحرب.

أنا ككلّ البشر يرعبني أنين المظلوم، أحزن لصيحات البائسين، وأبكي لأوجاع المكلومين

منذ ثلاثة أيام وأنا أحاور بهدوءٍ نازحاً من دمشق في إدلب محاولاً إقناعه ألا ينتحر حزناً على أسرته التي اضطرّ لمفارقتها رغماً عنه، وأتمنى أن أنجح في إنقاذه.  

أنا ككلّ البشر يرعبني أنين المظلوم، أحزن لصيحات البائسين، وأبكي لأوجاع المكلومين.

المكلومون في حالتنا أصنافٌ كثيرة، تأتي في مقدمتهم الأمهات، هل منّا من يجهل قلب الأم؟

هناك الأمّ التي تبكي على أبنائها الذين ماتوا، وهناك الأم التي تبكي على أبنائها الذين نجوا، ولكنهم جوعى بلا طعام، ومشرّدون بلا مأوى. ومن الأمهات من ينتظرن أبناءهن المغيّبين ولسان حالهنّ يقول، "أتراهم سلِموا؟ أم تراهم هلَكوا؟"

مسألة التغييب القسري هي بالواقع وجهٌ من وجوه الإبادة، التي ذكرناها أولاً، والمسؤول الأول عنها هو المجرم الدولي نفسه، أي نظام بشار الأسد، حتى وإن كان هناك شركاء في الجريمة أدلوا بدلوهم بها، سواء عبر شراكةٍ مفضوحة مع النظام، أو مستترة.

لنأخذ مثلاً جرائم القتل والتغييب والإبادات الجزئية التي ارتكبتها داعش. النظام شريكٌ أساسي بجرائم داعش ليس لأنه تواطأ معها سرّاً فحسب، بل لأن الدواعش مارسوا أنشطتهم الإجرامية على أرضٍ تخلى النظام الحاكم عن مسؤوليته في حمايتها، وانسحب منها تاركاً أهلها ضحايا الإرهاب والفوضى.

ومن هذا الباب قامت عائلة الصحفي الأميركي جيمس فولي الذي قتلته داعش في سوريا برفع دعوى قضائية في أميركا ضدّ النظام السوري، لأن تنظيم داعش الإرهابي ارتكب جريمة قتل الصحفي الأميركي على أرضٍ انسحب منها النظام وسلمها لداعش، وتخلّى عن مسؤوليته الدولية في حماية الساكنين عليها.

أريد أن أقول إننا نحن عندما نبكي على من مات أو تشرد أو اختفى، فإن العدالة هي الشيء الذي نحلم به ليل نهار. وأول العدالة وآخرها هي اقتلاع نظام الإبادة الحاكم في سوريا. فالمجرم في حالتنا واضح لأنه حرّ وطليق. وهو خطيرٌ جداً لأنه ما يزال قوياً ومسلّحاً ولم يغسل الدماء عن ثيابه بعد. فهو في وارد ارتكاب مزيد من الجرائم.

لو نجحنا يوماً في التخلص من النظام، وأقمنا محاكم العدل في بلادنا الجريحة، فإننا سنضيف إلى النظام ورجالاته قوائم من المتورطين في الجريمة، وسيكون من حق كل سوري الادعاء على من ظلمه أياً كان. وهكذا فقد تمتد تلك القوائم من المتهمين لتشمل فصائل مسلحة على طرفي النزاع، النظام والمعارضة. وفي الحالة الثانية هناك كثير من الانتهاكات التي ارتكبت، وخصوصاً على يد الفصائل الإسلامية.

بالنسبة لي شخصياً ولكثيرٍ من الناشطين والمعارضين العَلمانيين أمثالي نحلم أن نثير أمام المحاكم قضايا اختفاء وقتل الثوار الأوائل السلميّين على أيدي التنظيمات المتطرفة، وعلى رأس هؤلاء تأتي زميلتنا الثائرة الشابة رزان زيتونة التي اختفت ورفاقها الثلاثة في مدينة دوما قرب دمشق أواخر عام 2013.

في قضية رزان ورفاقها فقد حمّلنا المسؤولية منذ البداية لجيش الإسلام بحُكم أنه سلطة الأمر الواقع في دوما في تلك الفترة، وبحكم أننا سمعنا من أشخاصٍ عديدين كلاماً يوحي أن جيش الإسلام متورطٌ في العملية.

في الواقع لقد بدأتْ رحلة البحث عن رزان ورفاقها منذ مرحلةٍ مبكرة جداً، حيث أجريتُ شخصياً عدة لقاءاتٍ مع محمد علوش، الممثل السياسي لجيش الإسلام عام 2014. ثم تُوّجت اللقاءات بفرصة الحديث عن الموضوع مع قائد جيش الإسلام زهران علوش في إسطنبول أواسط عام 2015، حيث وعدني شخصياً - بعد أن انتهيت مع زميلٍ لي من إجراء لقاء صحفي معه - أن يكشف قريباً عن مصير رزان زيتونة ويريح قلوب أحبابها. لكن زهران قُتل، وقتل معه للأسف وعده لي بالمساعدة. وقد سمعت مؤخراً من مصدرٍ مقرّب للنظام (ولذلك فهو ليس محلّ ثقتي تماماً) بأن رزان زيتونة في قبضة النظام السوري، حصل عليها من جهاديي الغوطة مقابل صفقة تبادل.

وكان من الطبيعي أن أتعرف على طول الخط على إسلام علوش، وهو شاب متحمس في أواسط العشرينيات من العمر كان يؤدي خدمته الإلزامية يوم اندلاع الثورة في قاعدة عسكرية قرب دوما، فانشقّ عن النظام، وهرب إلى دوما حيث بحث عن زهران علوش الذي كان يومها قائد فصيلٍ صغير لا يتعدى عشرات المقاتلين، وانضم إليه وقدم له خبرةً عسكرية ساعدت زهران وجماعته في السيطرة على القاعدة التي كان يخدم بها إسلام، والاستيلاء على أسلحةٍ استخدموها لاحقاً في معاركهم ضد النظام.

عند هذه النقطة هناك كثير مما يُقال بخصوص إن كنا نؤيد العمل العسكري أم لا، لكن بيت القصيد الذي سأركز عليه هنا هو دور إسلام علوش تحديداً. فقد كافأه زهران بإعطائه مناصب قيادية في جيش الإسلام رغم حداثة سنه، وكلّفه بقيادة قوات جيش الإسلام في شمالي سوريا، حيث أمضى إسلام نشاطه الثوري هناك معظم فترة الثورة، بما فيها الفترة التي اختفت فيها زميلتنا رزان ورفاقها.

تورط إسلام علوش في مهمة الناطق الرسمي باسم جيش الإسلام بعد أن غادر البلاد إلى تركيا. لقد كان الشابّ في موقع إشكالي وفي تنظيم إشكالي جداً، فمن طلب من العلاليش الثلاثة أصلاً تمثيل الإسلام في جيش؟ وهل الثورة في سوريا من أجل الأديان والقضية الدينية، أم لأجل العدل والحرية والكرامة؟

كما أن الممارسات القمعية المتطرفة لجيش الإسلام وغيره من الفصائل التي اتّبعت النهج الجهاديّ لم تترك لهم صاحباً، لا من الناشطين المعارضين، ولا من الأهالي. وهم بالفعل خليقون بالمحاكمة على كل ممارساتهم التي قاربت بفداحتها - من ناحية النوع وليس الكمّ - جرائم النظام.

آخر ما أفكر به كناشط تعلّم في مدرسة رزان زيتونة هو أن أستقوي بأجهزة البوليس الغربية لأطلق العنان لشهوات الانتقام ضد إسلام علوش

ويكفي جيش الإسلام تحديداً من الإجرام حقيقة اقتتاله مع فصيلٍ ثوري ثانٍ في الغوطة اسمه فيلق الرحمن، حيث سقط في المقتلة أكثر من خمسمئة شاب لأسباب غير مفهومة حتى اليوم. أتوق كما يتوق كثير من السوريين لمحاكمة جيش الإسلام على كل ذلك، وخصوصاً موضوع رزان، في محاكم سوريا، وطني، بعد إسقاط النظام.

 ولكن آخر ما أفكر به كناشط تعلّم في مدرسة رزان زيتونة هو أن أستقوي بأجهزة البوليس الغربية لأطلق العنان لشهوات الانتقام ضد إسلام علوش أو غيره من "صغار كسبة" المتورطين، بينما ما يزال عرش بشار الأسد قائماً على بركة الدم السورية.

 لماذا أفعل ذلك الآن؟ هل نجحتُ أصلاً في جلب بشار الأسد وأتباعه إلى العدالة حتى ألتفت إلى من هم على ضفة المعارضين للنظام، رغم اختلافي الشديد معهم؟ هل أتممتُ حقاً واجبي الثوري والإنساني في حماية شعبي؟ هل أضمن أن النظام لا يحضّر الآن لمذابح إبادة جديدة ضد ملايين النازحين المحشورين في بقعةٍ ضيقةٍ من الأرض في الشمال السوري؟

هل لو كانت رزان زيتونة معنا اليوم ستقبل أن نستقوي بالبوليس الفرنسي لنرضي غرائز الانتقام لدينا؟

هل كانت ستقبل أن يحقّق القاضي (كما تناهى لأسماعنا) مع إسلام علوش لأنه انشقّ عن النظام؟ أيُعقَلُ أن نتخيّل لثانية أن رزان زيتونة ستعتبر الانشقاق عن النظام جريمةً تستأهل التحقيق والمحاكمة؟

هل كانت أذن رزان ستطرب لسماع اسمها يتردد في محاكم فرنسا التي تحتضن رفعت الأسد كملك على عرشه منذ عشرات السنين؟ أم أنها كرمزٍ وطنيّ وثوري كانت ستفضّل الانتظار لسماع اسمها يدوي في قصر العدل في دمشق بعد سقوط النظام، وإنفاذ مبادئ العدالة الانتقالية؟

أنا متأكدٌ أن الجواب هو الثاني، إذ هتف بها ضميري الوطني والثوري، فقد عاهدنا رزان زيتونة على أن نقتفي أثرها على درب الحرية، وأن نعمل على جلب السلام والعدالة لبلدنا، ونترفع عن غريزة الانتقام، وخصوصاً ممّن لم تَثبت إدانته بعد.

فإن كانت رزان قد ماتت، فليحلّ السلام على روحها، وإن كانت على قيد الحياة، فلتغمر قلبها الحرية.