في سؤال عن ماهيّة الدولة العميقة

2022.08.25 | 06:05 دمشق

ماهيّة الدولة العميقة
+A
حجم الخط
-A

في تغريدة له على تويتر، كتب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب قبل أسابيع، أنّه سينهي الدولة العميقة في حال فوزه ثانية في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وبالعودة للمصطلح نجد أنّه لم ينشأ إلا حديثاً في تسعينيات القرن الماضي وفي تركيا تحديداً، وقد كان أصحابه يشيرون إلى مجمل العمليات التي قام بها حرّاس الجمهورية العَلمانية التركية الحديثة، التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. وفي الحقيقة، لا يزال مفهوم الدولة العميقة غائماً وضبابياً عند الباحثين في حقول علم الاجتماع والسياسة.  وقد تطرّق باتريك أونيل لهذا المفهوم في دراسة مترجمة له منشورة في مجلة سياسات عربية عدد 85، بالقول: "من المهم النظر إلى العناصر المشتركة في إطار المفهوم قبل أن نتمكّن من المضيّ قدماً، فهي تتعلق بكثير من الأعراف غير الرسمية التي يعرفها هلمكي وليفيتسكي بكونها تلك القواعد المشتركة اجتماعياً، غير المكتوبة عادة، التي يتم إنشاؤها وتبليغها وتطبيقها خارج القنوات الرسمية."

وبالعودة للبلد الذي ظهر فيه المفهوم أوّل الأمر، نجد أنّه كان للحال المتردي الذي وصله الأتراك أواخر عهود الإمبراطورية العثمانية، أكبر الأثر في نشوء جمعيات سرية حاولت وقف انحدار الأمّة، وكانت جمعية الاتحاد والترقي القومية من أبرزها. وبسبب خسارات الإمبراطورية المتتالية أمام الدول الاستعمارية الحديثة مثل إنكلترا وفرنسا وإيطاليا وروسيا، وبسبب القيود التي فرضتها هذه الدول على حكومات السلاطين الأتراك المتعاقبة، خاصّة فيما يتعلّق بالأقليات القومية والدينية، فقد باتت الأجواء مناسبة لنموّ أفكار الأعداء المتربصين في الخارج، وأدواتهم المحليّة. ساعد هذا كلّه على إنشاء بيئة خصبة لنشوء وتطوّر الفكر الوصائي على الدولة والأمّة التي لم يكن في وسعها آنذاك المحافظة على رقعتها الجغرافية المتآكلة شيئاً فشيئاً.

بدأ تمظهُرُ الدولة العميقة في إيران بشكل واضح مع انتصار الملالي فيما يسمّى الثورة الإسلامية عام 1979، فبات هناك ما يُشبه الدولة داخل الدولة

وفي إيران ارتبطت هذه الفكرة بالهزائم الكبيرة للشخصية الإيرانية أمام الإمبراطورية الروسية بالأخص، فكثير من الأراضي تمّ اقتطاعها لتشكّل دولاً مستقلة بتشجيع روسي، مثل أفغانستان وأذربيجان وأجزاء من جورجيا. ترافق هذا كلّه مع الشعور الدائم بالتهديد من الغرب عموماً، باعتباره قد مثّل تحدياً حضارياً هائلاً أمام حضارة عريقة في التاريخ لكنها تعاني من التأقلم مع الحداثة. ثمّ تعزز الأمرُ من خلال الشعور بالاستلاب أمام الهيمنة الثقافية الأميركية الطاغية بعد الحرب العالمية الثانية بالأخص. شكّل ذلك كلّه حالة نفسية جمعية عند النخب الإيرانية، جعلها قادرة على تقبّل فكرة الوصاية على الأمّة الإيرانيّة، أو بمعنى آخر وجوب وجود حرّاس للقيم والمُثُل التي تشكّل جوهر الشعور الوطني، أي الأمّة / الدولة. ثمّ بدأ تمظهُرُ الدولة العميقة في إيران بشكل واضح مع انتصار الملالي فيما يسمّى الثورة الإسلامية عام 1979، فبات هناك ما يُشبه الدولة داخل الدولة. كان تشكيل قوات رديفة للجيش هي الحرس الثوري وقوات الباسيج، أمراً مهمّاً وخطوة متقدّمة في هذا الاتجاه، ثم بات الفضاء العام محكوماً بشكل أو بآخر بالعقلية الناتجة عن مزيج عجيب من الثيوقراطية والبيروقراطية والخوف من الآخر، وهذا هو جوهر الدولة العميقة هناك.

يتمثّل الفكر الوصائي هذا بقناعةٍ مُطلقةٍ عند مجموعة من النخب السياسية والعسكرية والأمنية بوجود الأخطار المحدقة بالأمّة على الدوام، وبعجز الدولة الحديثة ومؤسساتها المنتخبة، أي بعجز الديمقراطية والليبرالية عن حماية الدستور والدولة والأمّة من الخيانات الداخلية والأطماع الخارجية. يبرّر هذا كلّه لتلك النُخب، التدخل من خارج القواعد المضبوطة أو الأطر المؤسسية الرسمية للدولة، وتحت راية الحفاظ على الأمن والاستقرار والوجود. يترافق ذلك أحياناً مع عمليات عنفٍ منظّم خارج سُلطة القضاء، وقد يكون العنف موجهاً ضدّ الفئات المشكوك بولائها، مثل الأقليات القومية أو الدينية أو العرقية، كما يوجّه أيضاً ضدّ المعارضة السياسية الداخلية.

توفّر هذه النُخبُ لذاتها، ومن خلال شبكة علاقاتها الواسعة والمتشابكة مراكز اقتصادية متقدّمة، فتتحالف أحياناً مع مجموعات الإجرام المنظمة، كما تسمح بعمليات إرهابٍ وترويعٍ في أحايين أخرى لتُبقي حال التوتر والتأهب المجتمعي، وقد تساهم في إعلان حالة الطوارئ في بعض الفترات لترفع قيود السلطات الدستورية من برلمان ومحكمة دستورية وقضاء عدلي. ولأنها مجموعات غير متجانسة من السياسيين والعسكريين والأمنيين وأصحاب رؤوس الأموال والأكاديميين ورجال الدين، فإنها لا تمتلك قيادة نظامية ذات تسلسل هرمي، بل هي مجرّد مجموعات تقاوم المؤسسات الدستورية عادة وتحاول تجاوزها، كما تقاوم التغيير السياسي والانتقال إلى الديمقراطية أو إلى أنظمة حكم تعتمد معايير الحكم الرشيد، فهذا يشكل أخطاراً محدقة بمصالح أعضائها.

هل يمكن الحديثُ في الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا مثلاً عن مفهوم الدولة العميقة كما هو الحال عليه في تركيا وإيران

يبقى مع ذلك هذا المصطلح غائماً وضبابياً إلى حدّ بعيد، خاصّة عندما يتمّ الحديث عن دولٍ عريقة في الديمقراطية، فيها مؤسسات الحكم راسخة، والدساتير سائدة، والقوانين مُطبّقة على الجميع، وتخضع لمعايير الحوكمة الرشيدة. فهل يمكن الحديثُ في الولايات المتحدة أو فرنسا أو بريطانيا أو ألمانيا مثلاً عن مفهوم الدولة العميقة كما هو الحال عليه في تركيا وإيران، وما المبرر لوجود هذه الدولة العميقة ما دام تشكّل هذه الأمم قد بات ناجزاً، وما دام كيان الدول هذه قويّاً ثابتاً؟ هل هو مصالح الشركات العابرة للقارات والمحيطات، أم هو نمط الحياة الاستهلاكي، أم هو شيء آخر؟

ربّما يسعفنا هنا مصطلح البيروقراطيّة المؤسسية لإيجاد تفسير لهذه المسألة. فمجموعة القواعد المشتركة اجتماعياً، غير المكتوبة عادة، التي يتم إنشاؤها وتبليغها وتطبيقها خارج القنوات الرسمية المذكورة أعلاه، هي ذاتها البيروقراطية الحكومية الإدارية الخاضعة من حيثُ المبدأ للقوانين والأنظمة، لكنها في الجوهر تشكّل منظومة غير مرئيّة من التعليمات والأوامر والبلاغات العائمة، التي تصلح لحماية مصالح النخب السياسية والمالية، والتي تتخلّق أحياناً بشكل مجموعات ضغط (Lobby) قادرة على تحقيق الربح المادي أو السيطرة السياسية أو الهيمنة الثقافيّة، أو ما يُطلق عليه عموماً تسمية الدولة العميقة.