فنون التّعذيب بالأوكسجين الأسديّ

2021.03.27 | 11:12 دمشق

15970376492031650468.jpg
+A
حجم الخط
-A

في خطابه الأخير لم يعمد السيد حسن نصر الله إلى اصطناع الحكمة وارتداء ثوب العارف بالأمور ومساراتها، بل عاد مباشرة إلى أصوله، وظهر على حقيقته العارية شبيحًا ميليشياويًّا حاقدًا ولا شيء آخر. الرّسالة الّتي تناقلها جمهوره لم تخرج عن تداول صورته مشيرًا إلى أعلى أنفه، مهدّدًا بالرّكون إلى العنف في توظيف مباشر للسّلاح.

ونظرًا لكون إشاراته تمثّل أمر عمليّات مباشر لسلطات تتهافت على السّعي من أجل التّفنن في تنفيذ فحواها ومضمونها، لم يجد وزير الصحة حمد حسن الّذي يقود حملة إعدام معلنة لعموم اللّبنانيّين من خلال تأخير منحهم لقاحات الكورونا، سوى ترجمة فحوى إشارات الغضب عبر استجرار أطنان ضئيلة من الأوكسجين من بشار الأسد.

أن يكون الأسد واهبًا للأوكسجين فهذا يعني مباشرة أن التّنفس لن يعود ممكنًّا في البلد

مصنّعو الأوكسجين في لبنان بادروا إلى نفي الحاجة إلى استقدامه، والتّأكيد على توفره بكميات أكثر من كافية، لذا فإن الحرص على استجلابه من عند الأسد لا يعدو كونه رسمًا لمعالم خريطة تعذيب جديدة للأمن، والسّياسة والصّحة.

أن يكون الأسد واهبًا للأوكسجين فهذا يعني مباشرة أن التّنفس لن يعود ممكنًّا في البلد، وأنّ السّلطة اللّبنانيّة تحرص على الانتقال إلى مرحلة قصوى من التّنكيل والتّصعيد في وجه الناس، استجابةً للإشارات الّتي أطلقها نصر الله في خطابه، والّتي أعاد فيها المطالبة بالتّوجّه شرقًا.

لا توجد مداخل ممكنة لولوج هذا الشّرق الّذي يدعو إلى التّوجّه إليه بعد استفحال المآزق الإيرانيّة في المنطقة ككل، إلا عبر بوابة الأسد بوصفه استثمارًا تحرص روسيا على الحفاظ عليه، وتاليًا يسعى حزب الله إلى أن يكون ملحقًا خاصًّا بالثّوابت الرّوسيّة في هذا الصّدد.

اللافت أن الروس بعد استدعائهم المباشر لحزب الله، لم يتعاملوا معه بوصفه شريكًا في الحرب السّوريّة، بل أعادوه إلى حدود لبنانيّة ضيّقة، وحرصوا على إجباره على التّحرك ضمنها.

كل الاستثمارات الميدانيّة الضّخمة وآلاف القتلى الّذين دفعهم ثمنًا للاعتراف به شريكًا في إنتاج النفوذ وتقاسمه في سوريا تقزمت إلى حدود الضّغط عليه في ملف تشكيل الحكومة، بعد أن اقتصرت حدود سطوته على منع تشكيلها فحسب، وظهر للعلن أنه ليس قادرًا على فرض تشكيلة على هواه.

إزاء تراكم الخسارات الإيرانيّة في المنطقة وفقدانها زمام المبادرة والقدرة على صناعة تصعيد فعّال، وبعد المأزق الّذي وجدت نفسها غارقة فيه بعد الإيعاز لربيبها الحوثي برفض مبادرة السّلام السّعوديّة في اليمن الّتي حظيت باجماع دوليّ، لم يعد أمامها سوى السّعي للتّخاطب مع المجتمع الدولي عبر بيروت المنكوبة بسيطرتها، من خلال وسيط مأزوم هو بشار الأسد.

طبيعة الاستثمار الذي يخفيه عنوان الهبة الأوكسجينيّة تقضي قبل كلّ شيء دفع الأمور إلى حالة قصوى من التّصعيد، وقد بدأت تباشير هذا النّزوع تتجلى في أكثر من ميدان.

مشاهد التّناحر في السوبر ماركات في سبيل الحصول على المنتجات الضروريّة المدعومة الّتي تتكرر في مناطق مختلفة، باتت سمة لا تخطئ في دلالتها على استفحال الخراب، وتحوّل الحياة اليوميّة للناس إلى نوع من التّعذيب المفتوح. الأمر نفسه ينطبق على الخزعبلات والتّخريجات الوهميّة الّتي يتم تسويقها بوصفها حلولًا لأزمة ارتفاع سعر الدّولار.

ولكنّ المشهد الّذي لا يمكن للخراب أن يكون كاملًا من دونه هو المشهد الأمنيّ، وقد بدأ العمل على تفجيره يتراكم بوسائل متعددة من اشتباكات محدودة في مناطق مختلطة طائفيًّا، إلى ظهورات متماديّة للسلاح في أكثر من منطقة بعناوين مختلفة.

يعني ذلك ربطًا مع رمزية استجلاب الأوكسجين الأسديّ أن إيران قرّرت عبر وكيلها المحليّ اللّبنانيّ أنّه لا استثمار ممكنًا في لبنان إلا من خلال الفوضى الشّاملة والمفتوحة، لأنها باتت على يقين أنّ أيّ انتظام للأمور فيه ولو بالحدود الدّنيا لن يصبّ في مصلحته على الإطلاق.

العناوين المطلبيّة والمعيشيّة ستتحوّل إلى همّ عام ينفجر في وجهه ويتغلغل بعنف في بيئته الحاضنة والمغلوبة على أمرها، ويساهم في تفكيك سيطرته عليها والقدرة على الزّج بها في معارك الدّفاع عن النفوذ الإيراني المتهاوي.

إنّه التّعذيب المؤسّس للزمن الّذي يعدنا نصر الله بإقامة مديدة فيه بربطنا بالأسد وأوكسجينه القاطع للأنفاس.

يُحاصَر الأسد حاليًّا بعقوبات قانون قيصر، ويحاول التّملّص منها بتحويل عيش السّوريّين إلى جحيم مفتوح

مرامي الربط الأوكسجينيّ بالأسد تجد تفسيرها الواضح في ما كشفه تقرير منظمة العفو الدّوليّة الصادر حديثًا والّذي يوثق حالات تعذيب منظّم تمارسها الأجهزة الأمنيّة اللبنانيّة الرّسميّة بحق السوريين المعارضين.

 يشير التقرير إلى استعمال السلطات لعنوان الإرهاب بغية شرعنة سلوكاتها، ومن اللافت أن العنوان نفسه يعاد توظيفه للتّعامل مع احتجاجات اللّبنانيّين.

يُحاصَر الأسد حاليًّا بعقوبات قانون قيصر، ويحاول التّملّص منها بتحويل عيش السّوريّين إلى جحيم مفتوح، في حين أن متنفّسه اللّبناني ما زال يؤمّن له القدرة على الصّمود على حساب تمويت اللّبنانيّين والسّوريّين، ويحاول مدعومًا من روسيا إجبار العالم على فك سيف قيصر عنه تحت عنوان إنساني.

يعني ذلك أن دفع الأمور إلى درجة الاستحالة القائمة على تحويل العيش في البلدين إلى تعذيب مؤسّس للتّفاوض والاعتراف بالنفوذ، هو العنوان العريض للمجزرة العريضة المشتركة.

ما حاول ساسة لبنان تسويقه من نأي ممكن بالنّفس عن المجزرة السّورية، في الوقت الّذي يشارك فيه الحزب الحاكم في صناعة مأساة شعبها، ليس سوى حيلة متقادمة تدل، ليس على عجز مقيم عن تركيب السّياسات فحسب، بل تنطوي على رغبة عميقة في دفن المجازر، وتحويل هذا الدفن إلى اقتصاد وسياسة وأمن وربما إلى فن.

لا أحد يشك في أنّ استحضار النّموذج الأسدي الآن هو محاولة لوصل منظومات التّعذيب وتجميعها والنّطق باسمها، وليست هذه الخطوة الفاقعة الرّمزيّة التي يُتوقع أن يتم استكمالها بخطوات أوسع وأكثر دلالة سوى بداية وقوع لبنان المباشر في مصير سوري.

من هنا نفهم أنّ الحروب المنفجرة في المنطقة ما زالت في مراحلها الأولى، وأنّها آيلة للاستمرار إلى أمد غير منظور.