عن الواقعية السياسية

2021.11.26 | 05:08 دمشق

562574image1.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل أسرف السوريون في امتطاء أحلامهم حتى سوّلت لهم أنفسهم الهائمة في آفاق الأماني ليطلقوا ثورتهم مطالبين بوطنٍ خالٍ من الطغاة والاستبداد؟ ألم يكن أجدى لهم نفعاً لو أنهم واظبوا على الركون إلى ما كانوا عليه قبل 2011؟ ألم يكونوا ينعمون بشتى أشكال العيش الرغيد ويحصلون على ما يقيتهم بكل سلاسة ويسر؟ ألا يعلمون أن سوريا هي من أبرز بلدان المواجهة مع الكيان الصهيوني، بل هي أحد مفاصل القوة العربية في مواجهة الإمبريالية وقوى الاستعمار؟ أما كان بإمكانهم مسايرة النظام الحاكم واتباع طرق أخرى أكثر ليونة وبراغماتية لتحقيق إصلاح تدريجي يحول دون هذه الحالة الراهنة من الدمار والخراب؟ هذه الأسئلة السالفة وكثير مما يشابهها أطلقها وما يزال يكررها جماعة ما يُسمى (كنا عايشين)، ولا حاجة لانتظار الأجوبة من أحد لأن كل سؤال من فصيل هذه الحزمة من الأسئلة يُضمِر جوابه في تضاعيفه، ولكن مجموعة الأجوبة المضمرة يمكن اختزالها بعبارة طالما رددها الجماعة: من ثار من السوريين في وجه النظام لم يكن واقعياً، وبالتالي غياب (الواقعية) هو ما أدى إلى الشطط في التفكير، ومن ثم ركوب المغامرة.

ألم تروا أن معظم دول العالم التي أنكرت على الأسد توحّشه وإجرامه بحق السوريين خلال السنوات الخمس الأولى من ثورتكم، قد عادوا وندموا على موقفهم المتسرّع، وهاهم اليوم ينعطفون لترميم ما اقترفوه من خطأ بحق الأسد؟

لقد صدرت ثلاثة قرارات أممية بخصوص القضية السورية (جنيف1 – 2118 – 2254) وجميعها تؤكد على حق السوريين في إيجاد حل سياسي لقضيتهم، يبدأ من حيث التراتبية بإنشاء هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحيات، ثم تتلوها مراحل أخرى، كالبحث في إيجاد دستور ومن ثم انتخابات محايدة تحت إشراف أممي.. إلخ، ولكن من جهة أخرى، متى كانت القرارات الأممية ضامناً للحقوق؟ وهل يجهل السوريون مصير قراري مجلس الأمن (242 – 338) بخصوص القضية الفلسطينية؟ وهل يغيب عن بال أحد أن تنفيذ قرارات الأمم المتحدة مرهون بتوافق الدول الخمس ذات العضوية الدائمة بمجلس الأمن؟ ألا يعلم السوريون أن أي قرار أممي بوجود الفيتو الروسي لا يعدو كونه حبراً على ورق؟ وما دام الروس هم من يمسكون بالملف السوري من بابه لمحرابه، وهم كذلك من حازوا على تفويض دولي بقتل السوريين، أليس من الأجدى في هذه الحال أن يختصر السوريون الطريق ويستجيبوا للمسعى الروسي الرامي إلى دفن القرارات الأممية المشار إليها، والالتزام بمسار (أستانا – سوتشي) الذي أفضى إلى اختزال القضية السورية بعمل اللجنة الدستورية، ربما يكون صحيحاً أن اللجنة الدستورية لن تكون أكثر من (طبخة بحص)، ولكن هل لديكم أيها (الشعبويون والعدميون) حلّاً آخر؟ هذا ما يقوله جماعة أستانا وسوتشي والدستورية، وهم جميعاً من روّاد (الواقعية السياسية).

دعْكَ من القيل والقال، وانظر إلى المآل، ألم ينتصر الأسد وحلفاؤه عسكرياً بعد عقد مضى من المواجهة ويستعيد السيطرة على معظم الجغرافية السورية، ألم يزل نظام الأسد هو المُعترف به دولياً في جميع المحافل الأممية؟ ألم تروا أن معظم دول العالم التي أنكرت على الأسد توحّشه وإجرامه بحق السوريين خلال السنوات الخمس الأولى من ثورتكم، قد عادوا وندموا على موقفهم المتسرّع، وهاهم اليوم ينعطفون لترميم ما اقترفوه من خطأ بحق الأسد؟ وهل على المجتمع الدولي أن يعطّل مصالحه وينتظركم مئة عام حتى تنتصروا على الأسد، ليتعرف بكم ويشعر بفداحة مأساتكم؟ وكما تخلّى العالم عن النظر من منظور عواطفه وقيمه، عليكم – أيها السوريون الثائرون – أن تهجروا مناظير أحلامكم وأمنياتكم، وتفتحوا أعينكم على ما هو واقع وماثل أمامكم من حقائق، هذا هو حال لسان جميع الأطراف العربية الزاحفة للتطبيع مع الأسد.

معظم المدارس اللغوية لعلم المصطلحات لا تكتفي بالطابع اللساني كشرط كافٍ لتبلور المصطلح واعتماده علمياً، إذ لا بدّ من البحث في المحتوى المعرفي للمصطلح، باستثناء المدرسة (السوفييتية) فهي وحدها التي ترى في الجانب اللساني ما يغني عن البعد المعرفي أو الفلسفي في المصطلح، أيّاً كان. ربما بناءً على هذا الفهم لمعنى (الواقعية السياسية)، أي مراعاة مدى تطابق اللفظ مع واقع الظاهرة – الحدث – دون البحث في السياقات الدالة والأسباب المُنتِجة له، يكون جميع السوريين الذين انتفضوا بوجه السلطة الأسدية هم غير واقعيين، فوجود نظام الأسد، ككيان ينعم بالأمن و الاستقرار، وكذلك كونه نظاماً ممانعاً ورأس حربة في مقارعة الصهاينة، وبالتالي لا تجوز مناهضته، هو أمر واقعي، وفقاً لجماعة (كنا عايشين)، أما حقيقة أن السوريين قد تحمّلوا جور وعسف هذا النظام أربعين عاماً وهو يسوسهم بالسوط والحذاء، قبل أن يثوروا عليه، فهو مما لا ينتمي إلى الواقع بشيء، بل إن وجود المؤامرة الكونية على الممانعة الأسدية تبدو أمراً شديد الواقعية، بدليل انحسارها التدريجي بعد انتصار الأسد، كما يرى الذين كانوا (عايشين).

لعل سيرورة الأحداث التي واكبت مسار أستانا منذ انطلاقته في مطلع العام 2017، وحتى انعقاد الجلسة السادسة للجنة الدستورية (18 – 10 – 2021)، وربما كان أبرزها: سيطرة قوات الأسد على جميع مناطق ما سُمّي بخفض التصعيد، وتهجير سكان تلك المناطق إلى شتات آخر، وعودة احتلال قوات النظام لسراقب ومعرة النعمان وكفرنبل وسواها من البلدات والقرى، والاستهداف المستمر لأرواح المدنيين في إدلب وشمال حماة والريف الغربي بحلب، إضافة إلى تهجير ما يزيد عن مئتي ألف مواطن سوري دفعةً واحدة في شباط 2020 لينتظروا التكرّم عليهم بخيام مهترئة، فضلاً عن تجاهل قضية مئات الآلاف من المعتقلين في سجون الأسد، لعل جميع هذه الأحداث تفتقر إلى (الواقعية) بل ربما يبدو الجهر بها ضرباً من البكائيات المعيبة، وذلك في مقابل (واقعية ناصعة) لدى كتيبة اللجنة الدستورية التي تصرّ على أن تبقى مرابطةً في ثغور جنيف، حاملةً أوجاع النازحين تحت إبط، وأنّات المعتقلين تحت الإبط الآخر، ومُبشّرةً بدستور جديد سوف يطيح برأس الأسد، وعلى السوريين ألّا يستعجلوا لرؤية هذا الدستور المنتظر، فهو سيأتي حتماً ولو بعد حين، وعلى قولة المقدم فيصل غانم لأحد سجناء تدمر: "البريء رح يطلع من السجن ولو بعد مئة عام".

لعله بات واضحاً أن القرائن الدالة على (واقعية الرؤية) سواء لدى من كان (عايشاً) أو لدى المعارضات الرسمية المحلية، أو لدى العرب الغيورين على إعادة تأهيل الأسدية السورية، إنما تكمن في التحقّق الحسّي المادي لما هو راهن، مجرّداً من أي حامل قيمي أو إنساني، ومُنتَزعاً من سياقه التاريخي والاجتماعي

لم يشأ أشقاؤنا العرب أن يمضوا بعيداً في الإفصاح عن (واقعيتهم) ويقولوا للسوريين: مصالحنا الأمنية – نحن كحكّام وأنظمة حكم – هي أهمّ بكثير من أرواحكم وكرامتكم أيها السوريون، ومتى كانت حرية الشعوب وكرامتها مبعث أمان واستقرار لدى أي حاكم عربي؟ ولئن كان صحيحاً أن بشار الأسد قد قصفكم بالكيماوي والبراميل المتفجرة، وذبح أطفالكم واغتصبت ميليشياته نساءكم، وزج مئات الآلاف منكم في السجون والمعتقلات، وتسبب في نزوح مليوني مواطن نحو مخيمات الشمال السوري، وهجّر عشرة ملايين إلى خارج سوريا، إلّا أن هذا كلّه يغدو شأناً نافلاً أمام حقيقة جدّ (واقعية)، هي حاجة الأمة إلى استعادة دور سوريا الأسد التي من دونها يكون الأمن القومي العربي هشاً واهناً، فهي، أي سوريا الأسد، صمام الأمان والدرع الواقي أمام أكبر خطرين على الأمة العربية وهما: إيران وإسرائيل.

لعله بات واضحاً أن القرائن الدالة على (واقعية الرؤية) سواء لدى من كان (عايشاً) أو لدى المعارضات الرسمية المحلية، أو لدى العرب الغيورين على إعادة تأهيل الأسدية السورية، إنما تكمن في التحقّق الحسّي المادي لما هو راهن، مجرّداً من أي حامل قيمي أو إنساني، ومُنتَزعاً من سياقه التاريخي والاجتماعي، وذلك في مقابل رؤية (لا واقعية) تختزل جميع أحلام وتطلعات وتصورات من آمنوا بحق السوريين في التحرر من الظلم والاستعباد، وربما بدت غير واقعية بالفعل، من جهة غياب تجلياتها المادية في الواقع، وانحسارها في الحيّز الأخلاقي من الضمائر والنفوس، ولكنّ الرهان على انبعاثها وتحوّلها إلى تجليّات واقعية حقيقية يبقى قائماً، بل حاجة شديدة الحضور والمشروعية.