علاقات سوريا الإقليمية بين الأسدين الأب والابن.. لبنان نموذجاً

2021.10.05 | 05:57 دمشق

4c8825b6-024b-49db-9a6a-029c0723e1a3.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعل أحد أبرز أسباب بقاء النظام السوري على مدى عقود، هو قدرة حافظ الأسد على بناء شبكة معقدة من العلاقات القائمة على المصلحة والنفعية، إذ أجاد سياسة اللعب على التوازنات خاصة الإقليمية منها، وهو ما أورثه إلى بشار الأسد الذي ورث إضافة إلى السلطة في سوريا، تلك الشبكة المعقدة من العلاقات، ولعل أبرز خيوطها تلك التي تتشابك في لبنان، إذ يشكل لبنان ساحة للصراع الإقليمي سواء القائم على النفوذ في المنطقة أو ذلك القائم على التبعية الإثنية، فلبنان القائم على تركيبة سياسية ودينية وتوازنات داخلية مدعومة بقوى خارجية يحتاج إلى قدرة كبيرة من اللعب على أوتار التناقضات والمصالح فيه.

يقول ميشيل سورا في كتابه الدولة المتوحشة: تبيَّنَ لنا ما يعانيه التحليل في مواجهته للأزمة من ضعف حاد ومؤكد في تفهم الوضع ولا سيما عندما نضعه أمام وفرة الممارسات السياسية لسلطة تعرف تماماً كيف تستغل تباينات المجتمع واختلافاته بمهارة أقل ما يقال عنها إنها مذهلة، وكيف تلعب على جميع الثنائيات في وقت واحد من دون أن تمنح أي طرف السيطرة على الآخر أبداً، خشية أن يخلق ذلك حالة من اللا عودة، فلم يكن حافظ الأسد مهتماً إطلاقاً بتأسيس نظام حكم، من هنا تأتي صعوبة اقتلاعه من قبل معارضيه.

وبقدر ما استطاع حافظ الأسد الحفاظ على هذه الشبكة وعلاقات المصالح قائمة على مدى عقود، سواء مع الدول العربية وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية أو مع إيران والتي كانت علاقته معها تتصف بالندية في لبنان، لم يستطع بشار الأسد الإبقاء على هذه العلاقات بل وبسبب سوء إدارة الملف اللبناني عمل على تدميرها، إذ انحاز مبكراً إلى المحور الإيراني وتحولت علاقاته مع إيران من علاقات تحكمها النديّة والمصلحة المتبادلة، إلى علاقة تبعية انخرط بها النظام السوري بشكل مباشر في المحور الإيراني مما أفقد المنطقة توازناتها التي كانت قائمة عليها، ولعل اغتيال الحريري كان القشة التي قصمت ظهر هذه التوازنات، وبالرغم من محاولة السعودية إعادة النظام السوري إلى اللعبة مجدداً، إذ قامت بالضغط على الحريري الابن لإعادة الحرارة للعلاقات مع سوريا، فإن هذه المحاولات باءت بالفشل ولم تستطع الدول العربية، استعادة سوريا من الحضن الإيراني، لتأتي ثورات الربيع العربي والثورة السورية وتزيد من تبعية سوريا لإيران، بل وانخراط حزب الله بصورة أكبر بالشأن السوري، ما يعني حصول قطيعة بين الدول العربية المناوئة للمحور الإيراني والنظام السوري.

بل وتحولت هذه القطيعة إلى نوع من الصراع بين المحورين ازدادت حدته مع التدخل الأميركي في المنطقة، ولعل الأزمة السياسية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان حالياً هي أحد أبرز أشكال هذا الصراع، خاصة أن لبنان السياسي ذهب بعيداً كالنظام السوري بالتبعية للمحور الإيراني مبتعداً عن محيطه العربي، الأمر الذي قد يزيد من معاناة اللبنانيين وغموض مستقبل علاقات لبنان مع محيطه العربي والإقليمي والدولي.

بماذا يختلف تعامل الأسد الاب مع لبنان عن وريثه بشار؟

لقد وصل حافظ الأسد للسلطة في سوريا عن طريق انقلاب عسكري قادَه داخل الجيش وحزب البعث وسيطر من خلاله على مقاليد السلطة، إلا أن طريقه في الوصول إلى الحكم كان معبّداً بالصراعات والانقلابات التي بدأت بعد الانفصال مروراً بانقلاب 8 آذار 196‪3  وانقلاب 1966 وصولاً إلى الانقلاب الذي أطلق عليه "الحركة التصحيحية 197‪0" التي تسلّم حافظ الأسد من خلالها الحكم وأطبق يده على السلطة.

اعتمد خلال تلك الفترة على تحالف عدد من الضباط بما أطلق عليه اللجنة العسكرية التي اعتمدت في بداية تشكيلها على عدد محدود من الضباط يعودون في أصولهم إلى أقليات،  تحالف الأقليات هذا هو ما أوصل حافظ الأسد للحكم، لذلك قدّم نفسه في سوريا حامياً لها، وكانت هذه إحدى خطواته في السيطرة على المجتمع السوري، إذ عمل بعد سيطرته على الجيش والحزب على السيطرة على المجتمع السوري، وكان لا بد من ضمان تأييد جزء منه وتفكيك الجزء الآخر واختراقه وهذا ما حدث، حين ضمن ولاء الطائفة ومن ثم عمل على اختراق المجتمع السوري من خلال تكوين شبكة من العلاقات النفعية واستغلال تشابك العلاقات المجتمعية وتناحرها أو اختلافها، الأمر الذي سهّل له ضمان عدم وجود حراك مجتمعي معادٍ للسلطة.

ومن أجل إحكام السيطرة كان لا بد من تأمين العلاقات مع المحيط الجغرافي، إلا أن هذه العلاقات لم تكن كما يجب فبعد الصدام مع الأردن والتوتر على الحدود، كان استخدامه للقضية الفلسطينية كذريعة وضمانة لإبقاء تحالفاته وسيطرته في المنطقة، كما كان لاستخدامه القضية الفلسطينية كنوع من أشكال الدعم له، سبباً في الحصول على دعم عربي إذ تحاول الأنظمة العربية رفع الحرج عنها بسبب تقصيرها في دعم الفلسطينيين بدعم نظام الأسد الذي يتصدر مشهد دعم القضية الفلسطينية كجزء من أسباب بقائه. حاول كذلك نظام الأسد التدخل في العراق عبر دعم التيار المؤيد له داخل الحزب لكنه اصطدم بالقيادة العراقية مما تسبب بقطيعة دامت أكثر من عقدين من الزمن، كان لا بد من تأمين الخاصرة الرخوة لسوريا والمقصود هنا لبنان، لذلك دعم النظام السوري الصراع في لبنان إذ وجد فيه فرصة للدخول إلى لبنان واستغلال حالة الصراع والانقسام المجتمعي فيه، من خلال دعم فصائل ضد أخرى ودعم صراع بعض القوى اللبنانية مع القوى والفصائل الفلسطينية الموجودة على الأرض اللبنانية، هذا التدخل غذى الصراع الطائفي في لبنان حيث نقل النظام السوري تجربته في سوريا إلى لبنان من خلال استمالة بعض القوى اللبنانية ومن ثم السيطرة عليها من خلال دعمها الذي ازداد بعد التدخل المباشر لسوريا على الأرض اللبنانية لدعم تلك الفصائل، كما عمل على اختراق الأقليات اللبنانية وشق صفوفها ومن ثم تشكيل شبكات متحالفة فيما بينها من جهة وخاضعة لسيطرته من جهة أخرى، وقد تم له ذلك بعد دخول الجيش السوري ودعم تلك الفصائل، حيث نتج عن هذا التدخل عدد من المجازر خاصة بحق الفلسطينيين كما نتج عنه عدد كبير من الاغتيالات لشخصيات معارضة لتدخله، كذلك كان الوجود السوري ذريعة للتدخل الإسرائيلي في لبنان.

استطاع حافظ الأسد إدارة مفاتيح اللعبة في لبنان من خلال استخدام سياسة الترغيب والترهيب ومداورة المنافع بين القوى اللبنانية، وإدارة الصراع بينها والتي انتهت بسيطرة حزب الله أحد أبرز أطراف الصراع على المشهد العام في لبنان، وذلك بعد تنامي الدور الإيراني المتحالف مع النظام السوري في لبنان هذا التحالف القائم على أسس طائفية ومصلحية بين الطرفين.

لم يستطع بشار الأسد إدارة شبكة العلاقات سواء الإقليمية أو الداخلية في لبنان بالطريقة ذاتها التي كان يعمل بها والده، فوقع في كثير من الأخطاء خاصة بعد ازدياد التغوّل الإيراني وتحول العلاقة مع إيران إلى علاقة تبعية بعد أن كانت تتسم بالندية. تراكم هذه الأخطاء وسوء إدارة العلاقات من قبل النظام في سوريا بعد وصول بشار الأسد أدى إلى تراجع الدور السوري ومن ثم تحوّله إلى عبء على الأطراف الإقليمية والدولية، مما أدى بالنهاية إلى خروج سوريا من لبنان. لكن وعلى الرغم من هذا الخروج بقي تأثير النظام السوري واضحاَ من خلال حلفائه في لبنان وإن كان أيضاً تحول من سيطرة مطلقة إلى علاقة شبه ندّية خاصة بين الحزب والنظام السوري، لكن وبسبب انطلاق الثورة السورية وتراجع قوة النظام وسيطرته على الأرض السورية حاول التعويض في لبنان من خلال دعم المحور المؤيد له مما تسبب بازدياد الانقسام اللبناني اللبناني وحدّة الاستقطاب التي أوصلت التوافق في لبنان إلى طريق مسدود ينذر بانفجار يطيح بجميع التوافقات فيه.

تراجع الدور الإقليمي للنظام السوري وتراجع قوته وقدراته في إدارة الملفات وابتعاده عن محيطه العربي، والحصار الذي فرض عليه نتيجة فشل سياساته الخارجية، فسح المجال لتدخل إيراني واسع في سوريا حولّها من دولة ذات تأثير في محيطها الإقليمي إلى دولة خاضعة للسياسات الإيرانية ولا تستطيع الانفكاك عنها لأنها تستمد القدرة على بقائها من الوجود والتدخل الإيراني في سوريا ولبنان والعراق.