طفل على حاشية طريق باب الهوى

2023.09.14 | 18:41 دمشق

طفل على حاشية طريق باب الهوى
+A
حجم الخط
-A

يكتظ الشمال السوري بتجمعات السكان على غير اتفاق ولا تنظيم، لا مدن في المنطقة هنا غير إدلب (المدينة)، وفي أريافها المتنوعة الأشكال والتضاريس تنتثر مئات المخيمات، حتى ليندر أن تخلو بقعة منها من تجمع خيام أو أبنية من دون أي تنظيم.
تربط بين القرى والمدن بعض وسائل النقل العامة والخاصة، لكن غالب الناس تشتغل بأجور يومية زهيدة جداً قد تساوي أجرة الطريق إلى العمل، وقد لا تساويها.

يجد السائر على الطرقات مئات ومئات من الناس على جنباتها، يلوِّحون لكل السيارات والدراجات النارية عسى أن تقف واحدة منها فتحملهم. تولِّد الأيام الشاقة، التي يُطوى فيها نكَدُ سعيِهم المالح في سبيل رزقهم، غريزةً غريبة عندهم في هذا الوقوف والتلويح، فيصبح لديهم حدسٌ ثاقب في تمييز السيارات التي تقف لهم، من التي لا تأبه بهم.

السيارات الفارهة (أغلبها سَانْتَفِيهْ وهي منتشرة بكثرة في المنطقة هنا) قلّما يعيرهم أصحابها انتباهاً، فتتعلق أبصارهم بسيارات نقل البضائع الصغيرة والمتوسطة وبالدراجات النارية، الأولى تحملهم في صناديقها الخلفية مع حمولتها، والدراجات النارية يشاركهم أصحابها قسوة الطريق في الصيف والشتاء، فيرأفون بهم ويحملونهم خلفهم.

بين بلدة (باريشا) وبلدة (كللي)، حيث أُدرِّسُ في مدرسة أحد المخيمات على طرفها، مسافة تصل إلى الأربعين كيلومتراً، تمتد الطرق منحدرةً وصاعدةً بين البلدتين، وتتنوع بين طرق فرعية قليلة القصد في السير، ورئيسية تعج بالسيارات. أقطع المسافة بينهما على دراجتي النارية أيام حصصي المدرسية.

ذلك اليوم أنهيت دروسي وانصرف طلابي بعد الظهر، قضيت بعض أشغالٍ لي، ثم دعاني صديقي أن أزوره في بيته، اعتذرت بأن ثيابي مخضبةٌ مكدّرةٌ بغبار المخيم ودخان المازوت المحروق من المركبات على طول الطريق، لكن اعتذاري لم ينفع، وصلت بيته بعد العصر وتمطَّى بنا المجلس إلى ما بعد العشاء، آذنت بالرحيل وانطلقت نحو بيتي.        

تأخر الوقت وبدأت حركة السيارات تنقطع، بلغتُ دوار سرمدا ودرت حوله لأتخذ طريق بيتي، على حاشية الطريق رأيت طفلاً يمدُّ جسمه ويرفع يديه بأقصى ما يستطيع ملوَّحًا لكل سيارة أو دراجة نارية تمر، حتى يكاد أن يقترب من منتصف الأوتستراد، وبكل ما يملك من ضعف الطفولة وخوفها من الليل، يحاول أن يريهم شدة تضرعه لأن يقف له أحد ويحمله إلى حيث يقترب من بيته قليلًا.

أوقفتني دراجتي النارية عنده وبخفةٍ ارتدفَ خلفي، ثم سارعت بالانطلاق تلسعني بزعيقها ورائي أبواق السيارات التي قطعت عليها مسيرها. مضيتُ والطفل مسافةً ابتعدَ بها عني ازدحامُ المركبات، وسَكَنت الأصوات شيئاً، وهدأ تنفس الصبي، بدا من ملابسه أنه يعمل في تصليح السيارات؛ سألني: (لوين طريقك)، أجبته: (إلى باريشا)؛ ارتجف جسمه خلفي وسمعت صوت الدمع في صوته اللاهث فرَحًا وهو يقول: (الحمد لله يا ربي، الحمد لله). 

أسرعَ الطريقُ صعودَهُ تحت دراجتي وخفتت الأنوار وأنا أبتعد عن أوتستراد باب الهوى، أحسست بالصبي ورائي ارتاحت جوارحه اطمئنانًا كأنه وُهب عالمَ سمسم ليعيش فيه بعدما سمع جوابي. بدت الفرحة في دموع الطفل تتسع عوالمَ من البشائر وصنوفاً من الأعطيات، كأنَّ قائلاً قال له: (سترجع يا صغيري إلى مدرستك غداً ويرتاح جسدك الصغير من العمل الشاق كلَّ يوم، ستصل إلى حيث تسكن فتجد بيتًا جميلًا بدل الخيمة التي تتكدس فيها مع أسرتك، ستعودون جميعًا إلى بلدتكم التي أخرجتكم الحرب منها....)؛ لكن تلك النشوة كلها ليست سوى أنَّ يومه المتعب انتهى بأن وَجَد سائراً يوصله إلى قرب بيته، فلن يضطر إلى أن يمارس عملية التلويح والاستجداء على جوانب الطرقات والمنعطفات مرتين أو ثلاثاً كما يفعل أغلب أيامه، ثم يُرغم أن يسير عدة كيلومترات على قدميه الصغيرتين في الصباح وفي المساء بعد أن ييئس من أن يقف له أحد، وينقطع مرور المركبات عن الطرقات الفرعية.

يا الله ... كم تقزَّمت أمانينا وتبدلت معايير الفرح في نفوسنا!!!
قال الجواهري مرةً لدجلة:
(يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا ... حتى لَأدنى طماحٍ غير مضمونِ)
وما نقول نحن عن الأماني والمطامح؟ ولمن نبوح بما تقاسي هذه الأرواح في الأجساد؟
لستَ وحدك أيها الصبي تبكي سروراً لأشياء لا يليق بها إلا البكاء قهراً، ولست وحدك من يلوح بيديه وباقي أعضائه استجداءً لكلِّ مارٍّ وعابر، جميع الشعب لا يفعلون إلا ذلك سائرَ أيامهم، بأشكالٍ وحركات متشابهة في الغاية وإن اختلفت في الأسلوب، يفعلونه ويجرعون القهر وهم واعون ذلك تمامًا، لكنها... غريزة الحياة فقط.

تقطع دراجتي الطريق الإسفلت، يشق ضوءها (الزينون) ظلامَ الجبال الكثيفَ أمامي، كذيل برق متواصل الضوء في الغيوم المتلبدة، كان يومي شاقَّاً لكنه لا يقارن بتعب الصبي نصف الغافي خلفي، ترددت في ذهني كلمة الطفل التي شهق بها فرحةً، إنها أول كلمة بدأ الله بها كلامه في كتابه: (الحمد لله)، أترى بسبب هذا تجري كلمة الحمد أولاً على ألسنتنا في مشاعر كثيرة ومواقف لا تحصى؟ يبدو ذلك...

أسكَنَ من نفسي هذا الخاطر قليلًا، مضيت مسرعًا في الطريق الذي يشقُّ سلسلة الجبال التي كانت حصوناً رومانية في زمنٍ قديم، رفعت بصري نحو النجوم قليلاً ورددت كلمة الصبي الممزوجة بالدمع مرة أخرى بين حنايا الجبال:
"لكَ الحمدُ مهما استطال البلاء ومهما استبدَّ الألم...
لك الحمد إن الرزايا عطاء ... وإن المصيبات بعض الكرم".