سوريا (الأسد) بين الجناس والتّجانس

2023.05.07 | 06:39 دمشق

سوريا (الأسد) بين الجناس والتّجانس
+A
حجم الخط
-A

حين تم اعتماد وترسيخ عبارة (سوريا الأسد) في الخطاب السياسي والإعلامي السوري، كان ذلك يعني كثيرا من الأمور الدالة على طبيعة تفكير النظام بالبلاد التي يحكمها. فلم يكتف هذا النظام بتسمية المنشآت الثقافية والاقتصادية والمشاريع التنموية باسم (الأسد)، لم يشبعه ذلك ليقنع نهمه السلطوي القائم على غريزة الامتلاك المريضة، فراح يسمي بلدا بأكمله باسمه. ليضع السوريين في معظمهم أمام حالة من المهانة والحطّ من قدر بلدٍ موغل في عراقته وحضاراته وثقافاته. وما ذلك إلا شكل فاجر من أشكال الاختزال والتقزيم للبلاد وأهلها.

وهذا تفريع طبيعيّ عن الفكرة المركزية لدى النظام وحوامله الطائفية والثقافية والسياسية، تلك الفكرة المتمحورة حول تتفيه مفهوم (الوطن) والوطنية، ودفعٌ لجمهور النظام إلى أن يتمثل عبارة (سوريا الأسد) وكأنها آية مقدسة تميز بين الوطني واللا وطني. مما يخرج نهائيا عن منطق أي تفكير سياسيّ حقيقيّ يمكن أن يحلم به المواطن السوري خاصة في شرائحه المثقفة والأدبية والفكرية التي تضمر موقفا رافضا للنظام حتى لو كان موقفا غير مصرّح به في تلك المرحلة. إنها إهانةٌ من الطراز الأول لكل وعي ثقافي وفلسفي يتأمل تاريخ سوريا الحضاريّ الذي كان دائما قائما على التعدد والتنوع. فليس هناك خطاب سياسي ثقافي في العالم كله يرتكب بحق بلاده مثل هذه الإهانة الفاقعة حين تختزل البلاد باسم رئيسها الحاكم.

إن المشترك بين حافظ وبشار هو (الأسد) المتسرب في ذهنية السوريين الذين لا يملكون وعيا سياسيا لضرورة انتخاب رئيس وتبديله بصورة طبيعية وسلمية

ولو راجعنا الآن تركيبة نشرات الأخبار والإعلام المكتوب لرأينا بسهولة كيف أن اسم حافظ الأسد صار (الأسد) بالتوازي مع سوريا الأسد. وحين مات حافظ لم تتغير نشرات الأخبار والإعلام المرئي والمسموع في لفظ اسم الرئيس ونقل أخباره وزياراته واستقبالاته، فظل الاسم (الرئيس الأسد) وكأن (الأسد) حالة مزمنة قائمة لا تتبدل بتبدّل الرؤساء والأحوال. لم يعد مهمّا في هذه اللحظة إلا تعميق مفهوم سوريا الأسد في لاوعي المشهد الجماهيريّ لدى فئات بسيطة وتفتقر للوعي والنضوج السياسي والحقوقيّ. إن المشترك بين حافظ وبشار هو (الأسد) المتسرب في ذهنية السوريين الذين لا يملكون وعيا سياسيا لضرورة انتخاب رئيس وتبديله بصورة طبيعية وسلمية. فنشؤوا على أن هناك ظاهرة طبيعية هي (سوريا الأسد).

لم يكن هذا التعبير عابرا ولا ارتجاليا، لكنه خلاصة للكيفية الاستبدادية التي تحكم بها سوريا حتى على صعيد إنجاز عبارات وكليشيهات تبدو للوهلة الأولى عاطفية ومرحلية.

مع اندلاع الانتفاضة السورية استعيد هذا الشعار (سوريا الأسد) بطريقة أكثر عدوانية وإجراما، مع اقترانه بعبارة جديدة هي (الأسد أو نحرق البلد)، وهي تنويع فاشيّ على العبارة الأولى لأن فيها هي الأخرى دمجا وتماهيا بين شخص الأسد والوطن. إن ما تخفيه عبارة (الأسد أو نحرق البلد) لم يكن سرا، بل هي في الواقع لا تخفي شيئا بقدر ما تعلن وتعلن وتعلن.

بين العبارتين تمددت حالة من القهر الوجداني والألم الوجودي لدى السوريين الرافضين لكلا العبارتين، لأنهما شكلتا جدارين لسجن مفتوح يمتد من أول البلاد حتى آخرها.

في ذلك الاختزال المريع، تكمن البذرة الأولى لمفهوم بشار الأسد حول (سوريا المتجانسة). حيث صار الهدف المعلن وبكل وقاحة هو التخلص من السوريين الذين لا يفيدون في صناعة سوريا المتجانسة القائمة على مفهوم سوريا الأسد. وكان أكثر من واضح أن ذلك إدانة وتخوين وتجريم لكل من خرج ضد النظام سواء حمل السلاح أم حمل وردة وشمعة وأغنية. فالخروج ضد النظام معادل للخيانة، وكل خائن لا يمكن أن يبني سوريا المتجانسة.

وما محاولات عدد من خادمي النظام من الإعلاميين والمثقفين لجعل مفهوم التجانس مقبولا ومنطقيا إلا نوع من الدجل والرياء وتشويه المعنى الخطير القابع في المفهوم. فنحن ندري كيف ينظر النظام لكل من يعارضه، بل ليس فقط لمن يعارضه وإنما لمن يكون من مواليه وأشدّ انصاره ثم يرتكب هفوة سطحية أو يخرج على الطاعة ولو قليلا، فإن النظام لن يرحمه بل ربما أرسله إلى رحمة الله.

لذلك لم يكن التجانس المقصود إلا تشفّيا منحطّا ومن قمة النظام، بمواطنين كان لهم رأي معترض عليه. فهو لا يقبل إلا المتشابهين في ظل حكمه ليحققوا التجانس المنشود.

في البلاغة العربية هناك مصطلح (الجناس)، وهو إما جناس ناقص أو كامل، وفي الحالتين يعني الجناس وجود كلمتين (متشابهتين) متطابقتين في الحروف كلها أو بعضها. والجوهر في الجناس هو التشابه!

سياسيا وبالاعتماد على منطوق بشار الأسد فالجناس هو خلق رعايا متشابهين كليا أو جزئيا، وإذا كان التشابه كليا فهو المطلوب أكثر. لأن ما تعلنه سياسة الأسد منذ حركته الانقلابية التصحيحية أنه يريد الجميع متشابهين لينالوا ختم الوطنية. ومعروفة كوميديا الأسد المعروفة بالجبهة الوطنية التقدمية وما تعنيه من دلالات تصبّ في النهاية في خلق سوريين حتى لو كانوا من أحزاب أخرى، متشابهين متطابقين مع السيد حزب البعث. كنا نتندّر في سوريا سرّا بتعبير (أحزاب الجبهة الوطنية لصاحبها حزب البعث).

يريد تحقيق الجناس والتجانس، في لعبة بلاغية سلطويّة تسعى إلى الزج بكل رؤوس السوريين في مصنع واحدٍ يعيد إنتاجها لتكون ذات بنية متشابهة

لماذا يخاف الأسد من الاختلاف؟ إذا كان البلد الذي يحكمه هو في الأصل مبنيّا عبر التاريخ على الاختلاف والتعدد؟ لماذا كان يريد مسح الأقليات العرقية والثقافية ومسخها وجعلها متشابهة مع ثقافة حزب البعث القومجية؟ لماذا أهمل ثقافات وعادات وتقاليد كثير من المدن الصغيرة والأرياف المفقرة؟ وأصر في إعلامه على إظهار نموذج فنيّ واحد؟ لماذا لم يكن يظهر على الصعيد الفني مثلا إلا من ترضى عنه السلطة وفروع المخابرات؟ لماذا حاصر ثقافات الأقليات في الشمال السوريّ وسلط عليها نموذجا بعثيّا أحاديّ الجانب؟ لأنه باختصار يريد تحقيق الجناس والتجانس، في لعبة بلاغية سلطويّة تسعى إلى الزج بكل رؤوس السوريين في مصنع واحدٍ يعيد إنتاجها لتكون ذات بنية متشابهة. لأنه يريد سوريا موحّدة حسب فهمه القاصر لمفهوم الوحدة الوطنية. وهو الآخر تنويع على مفهوم التجانس وسوريا الأسد. فالوحدة الوطنية هي الوجه الآخر للجبهة الوطنية التقدمية، لا يمكن أن تكون لديك أفكار غير ما ينتجه العقل الأسديّ الخالي من العقل.

ما يلفت النظر ويثير الدهشة أن عبارة (الدولة المتجانسة) سبق أن أشارت إليه بالحرف الواحد الباحثة ماريا لويزا برنيري في كتابها (المدينة الفاضلة عبر التاريخ)! وذلك في سياق انتقادها الشجاع لجمهورية أفلاطون الذي بنى جمهوريته متأثرا بدولة إسبرطة التي احتلت مدينته (أثينا). وكانت فكرتها أن أفلاطون وكنوع من تماهي المهزوم مع المحتلّ القوي المنتصر فإنه شيّد مفهوم جمهوريته ليجعل مدينته الفاضلة قائمة على الفرز بين القويّ والضعيف، بين من له حقّ طبيعي ممنوح له بالحكم ومن ليس من حقه ذلك، وقالت في كتابها ((وقد وضع أفلاطون في مقابل روح الاستقلال والنزعة الفردية المتطرفة التي تميزت بها الحياة اليونانية، وضع تصوره عن دولة قوية متجانسة وقائمة على مبادئ تسلّطية)) ترجمة د. عبد الغفار مكاوي. وقد كانت فكرة أفلاطون قائمة على اختيار الأفراد الأكثر فائدة ونفعا للدولة وخدمتها، دون أي اعتبار للتمايزات الفردية ولا أي اعتبار لقضية الحريات التي اشتهرت بلاده بالحديث عنها وتحقيقها. معيار التجانس هنا هو الخضوع المطلق للدولة، والتسليم بأن من يحكم فله الحق الطبيعي في ذلك، وأن هناك من حرمته الطبيعة من إمكانية المشاركة في الحكم. نعتقد أن هذه بذرة أولى وخطيرة لفكرة الاستبداد والشمولية والمعنى القبيح لمفهوم التجانس الذي يتلذذ بشار الأسد وهو يستعرضه ويبشر به في موقف لا أخلاقي من مواطنين اعترضوا على حكمه وإرثه الأسديّ الباطل. فليس في بال هذا الرئيس الضحوك رؤية سياسية تتيح له ولو مجرد التفكير بأنه من الطبيعي أن يكون هناك أفراد في أي دولة ليس مطلوبا منهم التشابه والتجانس خاصة في ظل ظروف كارثية كان هو وأجهزته السبب في حصولها للسوريين (غير المتجانسين)، أي السوريين الذين رفضوا الاستمرار في الخضوع لنظامه.