سقوط ورقة التوت

2021.05.21 | 05:25 دمشق

غزة
+A
حجم الخط
-A

يبدو أنه حدث المرحلة والأمر الجلل الذي يمكن أن يمنح الأمل بعد حالة السبات المستمرة منذ عقود، إنه ذلك الحدث المحوري الذي يمكن أن يعمل على زعزعة الواقع المجحف المستقر وتغييره، ذلك الواقع المرير الذي صمت العالم أجمعه عن رسوخه وبقائه.

إن كلمة ثورة أو انتفاضة هي الشيء الوحيد القادر على بث الأمل في نفوس الشعوب التي تسلل إليها اليأس بسبب اشتداد الظلم، أو التي تعبت من انتظار تبدل الأحوال إلى الأفضل.

لكن ذلك قد يحمل خوفاً كبيراً أيضاً، ذلك أننا ندرك حجم الخسارات المتتالية التي قد تصيبنا.

لا يمكن للانتفاضة أن تكون حدثاً آنياً ينتهي بعد حين، حتى لو استمر ذلك الحين قرناً كاملاً، لأنها حدث يغير التاريخ، ذلك التاريخ الذي لا يمكن الإنكار فيه أو اللعب على تفاصيله لتزوير الحقائق، فالحقيقة الأكيدة التي لا يمكن لعاقل أو إنسان أن ينتابه الشك فيها، حقيقة أن إسرائيل كيان غاصب وأن أي محاولة للتسوية من أجل إحلال السلام أو تلميع صورتها إعلامياً وأخلاقياً لا يمكن أن تلغي هذه الحقيقة الثابتة.

شهدت المنصات الإلكترونية إثر اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة تصدراً لوسم القضية، واندفع المؤيدون لينشروا الوسوم الخاصة بالتضامن مع فلسطين، كذلك لاقت الأحداث الأخيرة تضامناً عالمياً ملفتاً، غير أن ذلك اقتصر على مبادرات شخصية في حين اكتفت ردود الفعل الرسمية بالصمت على أحسن تقدير.

على الصعيد العربي والإقليمي تبدو القضية غير ذات معنى بالنسبة إلى بعض الشعوب ممن لا تعنيهم مسألة الصراع الأزلي بين فلسطين والكيان الإسرائيلي سوى بالشعارات

أما على الصعيد العربي والإقليمي فتبدو القضية غير ذات معنى بالنسبة إلى بعض الشعوب ممن لا تعنيهم مسألة الصراع الأزلي بين فلسطين والكيان الإسرائيلي سوى بالشعارات، أو بالنسبة إلى الشعوب التي صافحت حكام السلطة الإسرائيلية وطبّعت العلاقات معهم.

بالرغم من التضامن الكبير والفخر لأن القضية الفلسطينية لم تنقض بالتقادم، إلا أننا ما زلنا نشعر بالعجز والخزي في أعماق أعماقنا بسبب انعدام حيلتنا بأن نقدم شيئاً ملموساً وذا قيمة أكبر.

وفي ظل عجزنا المتنامي والاعتراف بأن حلّ القضية وإعادة الحق ما يزال أمراً خارجاً عن سيطرتنا، يبدو لوهلة أن أي كلام أو تضامن في هذا الشأن لا طائل منه، مثلما قد يبدو أن المعركة لا طائل منها أيضاً، ذلك أنها محسومة لصالح الآلة العسكرية في الدرجة الأولى في ظلّ وجود دعم عالمي وصمت متواطئ في المحصلة.

يصبح الحق منقضياً في حال صمت صاحبه عن المطالبة به أو تناساه في وسط ازدحام مخاوفه على حياته ورغبته بالنجاة، غير أن ذلك لا يبدو أنه ينطبق على حالة القضية الفلسطينية بدليل تجدد المطالبة واستمرارها وعدم الاستكانة الشعبية للخوف.

لا يهمّ في ذلك أن يكتب التاريخ انتصارات تحسب لصالح طرف معين، إنما المهم ألا يعتقد العالم أنه استطاع ثني رغبتنا في استعادة حقوقنا.

يشهد العالم أجمع أن هذه الحرب المستمرة كانت بين طرفين غير متكافئين في القوة، ولكن الطرف الأقل قوة عسكرياً، كان هو الطرف الأقوى من ناحية إيمانه بقضيته بينما لا يمكنه مجاراة الطرف الآخر الذي يستمر باستعراض آلته العسكرية ضد مواطنين عزّل.

ينبثق من هذا مقاربة تبعث على الانزعاج لكنها حقيقية، إذ لا يمكن أن نغض الطرف عن أن إسرائيل في حال مقارنتها ببعض الأنظمة العربية تحصد نقاطاً إيجابية لصالحها ذلك أنها حتى وإن استخدمت القوة فهي لا توجهها نحو مواطنيها.

في السياق ذاته تتناهى إلى سمعنا أصوات من الداخل السوري تضامنا مع القضية وخوفاً على الشعب الفلسطيني الأعزل، في الوقت الذي ما زالت أعداد كبيرة من الشعب السوري ترزح تحت عبء الآلة العسكرية الوطنية أو في مواجهة الأجهزة الأمنية.

يعتقد مؤيدو نظام الأسد أنهم يدينون أفعال الجيش الإسرائيلي ويرفضون وجه المقاربة بينه وبين النظام في سوريا، لأنهما على طرفي نقيض وأن ما فعله النظام ـ مهما كان قد فعله ـ كان من أجل حماية البلاد

يعتقد مؤيدو نظام الأسد أنهم يدينون أفعال الجيش الإسرائيلي ويرفضون وجه المقاربة بينه وبين النظام في سوريا، لأنهما على طرفي نقيض وأن ما فعله النظام ـ مهما كان قد فعله ـ كان من أجل حماية البلاد، غير أن الواقع يثبت أن النظام الذي وجه الآلة العسكرية واستنفذها نحو شعبه لم يحدث أن وجه سلاحه نحو حدود العدوّ.

تبدو المقاربة مجحفة ومؤلمة في آن واحد، ومخجلة ربما على الأكثر لأننا كشعوب نعيش تحت وطأة أنظمة لا تعبأ بمواطنيها ونضطر إلى الإقرار بأن سلطات الاحتلال تتمتع بأخلاقيات الحروب التي تفتقد إليها سلطاتنا الحاكمة التي لا توفر جهداً أو أسلوباً لإخضاع شعوبها.

ربما تختلف الإحداثيات الزمانية والمكانية، غير أن قضية البلاد العربية تبقى واحدة، فالثورة ضد الظلم والاستبداد حتمية تاريخية واستمرار النضال ضدها أيضاً، لكن من المعيب أن ننادي بالحرية لشعوب العالم فيما نستكثرها على شعوب بلادنا وننعت من يؤيدها بالخيانة والعمالة.

لم يعد يخفى على أحد أن العالم يكيل بمكيالين ويغضّ الطرف عن معاناة الشعوب فيما يصدر نفسه مدافعاً عن الحقوق والحريات، حتى أصبحت التجارة بالقضايا أمراً رائجاً وطبيعياً يمكن للأفراد أن يتعاملوا مع الأمور على أساسه أيضاً.

لكن الأمر الذي لا ريب فيه أن القضية الفلسطينية هي البوصلة الحقيقية للشعوب العربية، أو حتى الشعوب التي تُعلي شأن الإنسان وتقدس حقوقه، إلا أن ذلك قد لا ينطبق على الشعوب التي تقبل الاستبداد وتروج له وترحب باستخدام القوة تجاه من يعارض السلطة والحكام بالرأي أو بالفكر أو بالطموح السياسي.

سقطت ورقة التوت عن معظم سكان العالم وبات الشعب الفلسطيني على علم وثقة بأن العون لا يمكن أن يأتيه ممن لا خير يرجى منه لبلاده أو لإخوته في المواطنة

لقد سقطت ورقة التوت عن معظم سكان العالم وبات الشعب الفلسطيني على علم وثقة بأن العون لا يمكن أن يأتيه ممن لا خير يرجى منه لبلاده أو لإخوته في المواطنة، وباتت الشعوب المكلومة تعرف أنها تخوض معركتها وحدها وأن بقية النداءات لا تتعدى كونها شعارات وعناوين لنشرات إخبارية ليس إلا.

لم يعد الإنسان بوصفه كائنا عاقلا يحتمل مزيداً من النفاق، علاوة على أن العالم أصبح أكثر وقاحة في توضيح الاستقطابات العالمية إلى درجة لم يعد فيها مضطراً إلى إخفاء سوءته، أما فيما يخص الشعوب العربية فإن من يعتقد أن الأمر سيتغير أو أن الشعوب سوف تنتفض لنصرة القضية فإن ذلك بالنسبة إلى كثير من الشعوب التي عرفت معنى الخذلان أصبح ضرباً من ضروب الخيال ذلك أن "من يهن يسهل الهوان عليه/ ما لجرح بميت إيلام".