دردشة مع ابن العم

2024.01.06 | 05:47 دمشق

رياض الترك
+A
حجم الخط
-A

كانت صدفة غير عادية جمعتني بمقعد واحد معه في الحافلة التي تقلنا من دمشق إلى حمص، كان قد خرج من سجنه الطويل حديثا، وكنت قد عرفت عنه قبلا معظم ما يعرفه رفاقه وأصدقاؤه، مما يسمح لي بإلقاء التساؤلات التي كانت مخزنة في ذاكرتي حوله. بادرته السؤال: والآن، ماذا تريد أن تفعل؟

أجاب: سأعود إلى الحزب وسأعمل على المساهمة في إعادة بنائه، (المقصود بالطبع حزب المكتب السياسي المنشق عن الحزب الشيوعي كما كان يُعرف آنئذ).

يبدو أن دهشة ما أوحت له باستغرابي، فأسرع بجملته المعهودة "مو هيك ولا أنا غلطان" أجبته: كنت أفترض أنك أصبحت أكبر من الحزب، لِم َتضيق على نفسك، ولماذا لا تكون مرشدا للسوريين جميعا وليس لحزب معين؟ بخاصة أن غالبية السوريين يحترمونك ويثقون بنقاء شخصيتك وصدقها، لكنهم قد لا يتطابقون معك بأفكار الحزب جميعها وعنوان "شيوعي" الذي لم تترك قيادته السابقة وممارساتها سمعة حسنة لدى الناس، ثم إن المرحلة اختلفت فقد انهار الاتحاد السوفييتي وحزبه ونظريته وابتعدت الأممية عن أحزابها.

في الدردشة لاحظت شدة تمسكه بالعمل الحزبي وحتى باسمه، وكاد صوته يرتفع حماساً حول الموضوع، فسارعت بتجاوزه، وسألته: كيف كنت تتغلب على ظروف المنفردة حتى حافظت على ذاكرتك وقدرتك الذهنية؟ أجاب: أول ما فعلت فصلت نفسي عن الخارج كليا، فلم أعد أفكر بأحد، وبدأت مشروع بناء خارطة سورية من خلال الحصا التي كانت تأتيني مع الشوربة التي يقدمونها للمعتقلين، راسما فيها الحدود والدول المجاورة وشكل السهول والبوادي والجبال التي تشكل سوريا.

سألته: وماذا استفدت من ذلك؟ قال: أحببت أن أدرس طبيعة سوريا وعلاقاتها الجغرافية وتوزع السكان واتفاقهم أو اختلافهم وفق معطيات البيئة، هناك أمور كثيرة يجب أن نعرفها بدقة حول سوريا لنستطيع العمل من أجل التغيير المنشود.. وأردف وفق طريقته "ولا أنا غلطان"، قلت مسرعة: في هذا وبرأيي أنت في الموقع الصحيح تماماً، ثم صمت لحظة أفكر في الماركسية التي قرأتها، وهززت رأسي كأنني أقول.. نعم هذه هي، يجب أن نعي الوقائع جيدا حتى نستطيع فهم العلاقات من أجل التغيير نحو التطور المنشود.

وقبل أن تنتهي الرحلة (وكانت مدتها ساعتين) تابعت الأسئلة: وكيف حققوا معك؟ وما هي التهم التي واجهوك بها؟ وهل لها علاقة بالإخوان المسلمين كما أشيع؟

أجابني مبتسماً: أبداً.. لم يسألوني أي سؤال حول ذلك، ولم يجر تحقيق جدي معي، ولم أقدم لمحاكمة طوال ثمانية عشر عاماً مدة احتجازي.

سألت بدهشة وفضول: ولماذا برأيك احتجزوك بمثل هذه القسوة إذن؟

مساهمتي في تشكيل التجمع الوطني الديموقراطي الذي جمع الأحزاب والشخصيات الديموقراطية كبنية معارضة لسلطة الأسد

أجاب: أعتقد أن المسألة لها علاقة بثلاثة أسباب: الأول: انشقاقي عن قيادة خالد بكداش الذي كان مقربا من الأسد، كما كان في حزبه السوري يتبع قيادة الحزب الشيوعي في موسكو، وقد كان ذلك الحزب يشهد بدء تمايزٍ يمهد لانشقاق عن القيادة حول سياسته وجمود أفكاره وعدم تطويرها، وكنت محسوبا على هذه المجموعة التي كانت القيادة الرسمية تعارضها بشدة، وبالطبع كانت تلك القيادة على علاقة وثيقة بالأسد.

أما الثاني فمعارضتي للنظام ورفضي مع رفاقي دخول الجبهة التي تمسرح الأسد بسببها بديموقراطية مزيفة، بينما قبل بكداش الدخول بها تلبية للتوجيه السوفييتي.

والثالث: مساهمتي في تشكيل التجمع الوطني الديموقراطي الذي جمع الأحزاب والشخصيات الديموقراطية كبنية معارضة لسلطة الأسد.

كانت هذه الأسباب تعني، قاطعته ضاحكة: تلاته بواحد، ولذلك كان اعتقالك مصلحة لجمعهم، وتابعت على طريقته.. مو هيك ولا أنا غلطانة؟! ابتسم وهو يقول: تماما تماما.. إلا إذا كانت هناك أمور أخرى لا نعرفها.

كانت الحافلة قد وصلت حمص، تفارقنا تاركا في نفسي أثرا لا يُمحى، أحسست بهدوء الرجل الكبير وتواضعه واستعداده للاستماع للآخر، لكن كثيرا من التساؤلات القديمة والجديدة بقيت تحرك في صدري منتظرة لقاء آخر..

تتابعت لقاءاتي معه بعد ذلك، وغالبا كنا أنا وزوجي نقابله في معظم زياراته لحمص حيث تقطن عائلته، وكانت حوارات متعددة، شملت شرح مواقفه من إمكانية اسم جديد لحزبه والأفكار والسياسات الجديدة في القضايا الداخلية والخارجية، يتصدرها الابتعاد عن الفهم النظري الستاليني البعيد عن واقع وظروف مرحلة النضال ضد الاستبداد ومن أجل التنمية والديموقراطية.. والتي اتهم من أجلها بالتوجه الليبرالي والتنازل عن الماركسية، والاهتمام بقضية الوحدة العربية حتى لو كانت على شكل تنسيق بالقضايا العامة، (وفي هذا ألفت النظر إلى عدم دقة بعض من كتبوا حول هذا الموضوع عند ابن العم في فهم موقفه العربي، فهو لم يتخذه كإيديولوجيا، إنما كفضاء تشترك فيه الشعوب بكثير من الأمور التي تحقق مصالحها في التحرر والتنمية المستقلة) أما القضية الفلسطينية التي كانت إحدى عوامل انشقاقه، فقد أولاها اهتماما خاصا وطرحها بقوة مع الرفاق السوفييت.. محاولا مساعدة الثوار الفلسطينيين في تأمين حاجاتهم المختلفة، وفي أمور أخرى، لعل من لا يزال على قيد الحياة منهم متمتعا بذاكرته السليمة يتحدث خيرا مني عما قدم رياض الترك في هذا المجال لهم، ومن يعلم فقد تكون هذه المساعدة سببا إضافيا من أسباب اعتقاله الطويل.

بعد أن مات الديكتاتور وانتهت مملكة الصمت، كما قال، وبعد أن ألقى محاضرة في منتدى جمال الأتاسي اعترض فيها على توريث بشار، وطالبه بأسس الحكم الرشيد، تم اعتقاله مجددا لأقل من سنتين، ولم يفرج عنه إلا بطلب فرنسي قدمته منظمات حقوقية للرئيس شيراك كأمنية قبل زيارة بشار لفرنسا ودخوله الإليزيه.. استمر أبو هشام بعد الإفراج عنه بالعمل السياسي، لكن حزبه في هذه المرحلة أخذ معظم نشاطه، باذلا جهدا كبيرا في إعادة بنائه وتغيير اسمه إلى (حزب الشعب الديموقراطي..) والتعاون مع الرفاق والأصدقاء بوضع منهاج فكري وعملي له.. هناك الكثير الكثير مما حدث وقيل ولا يزال الكثير الكثير مما يكتب ويقال. حول تلك المرحلة.

الآن أصبحت المرحلة مرحلة النضال للتحرر الوطني إنها المعركة ضد الاحتلالات الأجنبية، إنهم هم من ثبتوا حكم بشار الأسد وإن استطعنا إخراجهم سيسقط تلقائيا

في آذار عام 2011 انطلق هدير الثورة وعلت أصوات الجماهير المطالبة بالحرية والكرامة، فانخرط فيها ابن العم ينتقل من شارع لشارع يلتقي شباب الحارات، يستمع إليهم بفرح غامر فهذا ما كان يناضل من أجله طوال عمره.

بعد وصوله إلى باريس، محبطا شاكيا قلة الرفاق، كان لا بد من زيارته والاستبشار بقدومه معافى، بعد السلام، بادرته السؤال وكأني لا أزال في أجواء الدردشة الأولى والآن يابن العم ما العمل؟

أجاب وكأنه كان قد قلب الأفكار: الآن أصبحت المرحلة مرحلة النضال للتحرر الوطني إنها المعركة ضد الاحتلالات الأجنبية، إنهم هم من ثبتوا حكم بشار الأسد وإن استطعنا إخراجهم سيسقط تلقائيا، ولذلك لا بد من جبهة وطنية عريضة تناضل لتحقيق ذلك الهدف.

ودعته وأنا أفكر.. من يدري.. فلربما فكرة نجدها اليوم بعيدة جدا وغريبة، قد تكون في قابل الأيام مناسبة وصحيحة، دائما الممارسة والنتائج هي الحكم.

وداعا ابن العم، أعلم أن لا يزال عندي وعند غيري كثير مما يؤلف أكثر من كتاب عنك.  

نم الآن مطمئنا إلى ما أفرزته تجربة الثورة وكوارثها ومآسيها من وعي عند الشباب السوري الذي سيترجم ذلك على المدى القريب أو البعيد نضالا يحقق ما حلمت وناضلت من أجله.