حياة بائسة أو موت محتوم.. خيارات السوريين الوحيدة

2024.01.13 | 05:39 دمشق

حياة بائسة أو موت محتوم.. خيارات السوريين الوحيدة
+A
حجم الخط
-A

بين الرغبة في الحياة والموت المحدق والمحيط يسعى السوريون جاهدين للتمسك برمق حياة صغير أو حتى بخيط نجاة واهٍ، لكنهم يكونون مجبرين دوماً على الاختيار الصعب بينهما.

بمبالغ ضخمة لا يحلم بها السوريون ممن أُجبروا على البقاء في معتقل الأسد الابن، يفاوضهم الاحتلال الروسي اليوم على ما بقي من حيواتهم، فلا يرون بأساً في التضحية بها في مقابل أن تحيا عائلاتهم بشكل كريم حتى وإن كان الثمن ما بقي لهم من أيام.

في السنوات الأخيرة كان السوريون يواجهون موتاً مستمراً، لكن الأمر بدأ يأخذ منحىً تراجيدياً بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا ومحاولة روسيا استقطاب جنود للمشاركة في المعارك المحتدمة هناك، فشكلت على إثر احتياجها ذاك نقاط تجنيد للمتطوعين في سوريا بعد أن ضمنت ولاءهم _بحسب اعتقادها_ وأمنت تدريبهم على الأراضي السورية في الحرب التي افتعلتها هناك من أجل حماية نظام الحكم السوري.

لم يكن أمام السوريين خيارات كثيرة كانوا مضطرين إلى المفاضلة بين خيارات أفضلها يعد سيئاً أيضاً، وكانوا يرغبون في الخروج من المجزرة التي عاشوها في بلادهم وأن ينجحوا في تأمين حياة أفضل لذويهم، فذهبوا إلى الجبهات والمعارك غير آسفين على ما يخلفونه وراءهم.

الوسطاء لا يقلون استغلالاً عن الروس وغيرهم ممن يسرقون حيوات أبنائنا، لأنهم يغسلون أدمغتهم مستغلين سوء أوضاعهم

عمل في هذه الحلقة وسطاء اشتغلوا على تجنيد الشباب ممن عاشوا أوضاعاً مأساوية في سوريا أو ممن أصابهم اليأس من التغيير، وهؤلاء تحديداً وأعني هنا الوسطاء لا يقلون استغلالاً عن الروس وغيرهم ممن يسرقون حيوات أبنائنا، لأنهم يغسلون أدمغتهم مستغلين سوء أوضاعهم، ويروّجون لفكرة القتال في بلاد أخرى وكأنها رحلة استجمام تعود بعدها إلى بلادك معززاً مكرماً ثرياً، ويلعبون على أوتار الشباب السوري الحساسة مستغلين حلمهم بالهجرة وتغيير الأوضاع، فيكون القتال هو القشة التي تعلق بها السوريون هرباً من الموت غرقاً في المستنقع السوري الذي كان لروسيا اليد الأكبر في صناعته واستمراره.

وعلى خلاف ما تدعيه وسائل الإعلام الروسية بأن ما يحصل اليوم من تطوع الشباب السوريين للقتال إلى جانب روسيا على جبهاتها، ما هو إلا رد للدين ووفاء لما قدمته روسيا من فضل في تدخلها لصالح النظام السوري، وتذرعها بأنها لا تجد رادعاً من استمرار تدريبهم في قواعدها العسكرية التي وضعت يدها عليها في اللاذقية، كان الشباب السوري ضحية للعب السياسية والعسكرية بشكل أو بآخر مرة أخرى.

لا يختلف أحد على أن من يختار هذا العمل هو مرتزق وفقاً للمصطلح الذي يطلق على من يتقاضى أجراً مقابل أدائهم مهمات قتالية، لكن في سوريا، المجرمون الحقيقيون كثر وفي مقدمتهم بشار الأسد ونظامه الذي يتحمل وزر هؤلاء الشبان الذين قرروا أن يلقوا أنفسهم بالمحرقة بعد أن أوصلهم هو وحلفاؤه إلى هذا الأفق المسدود.

استغلت روسيا الموقف أبشع استغلال فضاعفت أجر من يقفون للقتال في الصفوف الأمامية عن أقرانهم ممن يقاتلون في الخلف، واستخدمتهم دروعاً بشرية ووعدتهم بأموال وجوازات سفر تمنحهم فيها فرصة للهرب من جحيم الحياة في البلاد، حتى إنها وعدتهم بتعويضات كبيرة في حال وفاتهم في المعركة وهو ما هوّن عليهم الموت لأنهم موعودون بمبلغ مالي كبير يحصل عليه ورثتهم في حال وفاتهم.

يدرك أغلب السوريين الذين يذهبون باتجاه أوكرانيا أو ليبيا أو أولئك الذين يقاتلون مع قوات وفصائل لا يؤمنون بقيمها، أن ما يفعلونه ليس سوى أداء لعمل لا يحبونه ولكنهم مجبرون على أدائهم لتحقيق أهداف أهم وأسمى، يعرفون أنهم دخلوا دائرة الحرب وأصبح الخروج منها شبه مستحيل، وعليهم إذا فقدوا الثقة في خلاصهم أن يمنحوا الخلاص لأبنائهم على أقل تقدير.

أصبحت المطارات التي وضعت القوات الروسية يدها عليها مخصصة لرحلات جوية خاصة لنقل المتعاقدين معهم، من أجل دعم عملياتهم العسكرية الخاصة في أوكرانيا وغيرها، وكانت القواعد العسكرية قد أصبحت مسبقاً مقار تدريب عسكرية لمجموعة فاغنر وأمثالها، ولم يكتفوا بذلك فقد حولوا مراكز التجنيد السورية إلى مواقع  لتجميع المقاتلين واستقطابهم.

ما زال نظام الأسد يستخدم البلاد وكأنها مزرعته الخاصة، فبعد أن غرر بالسوريين وجندهم للدفاع عن معركة استئثاره بالحكم، لم يشعر بالخجل وهو يجعلهم محلاً للتفاوض بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية التي تسبب بها من افتعاله معارك من أجل التشبث بالحكم.

يضطر السوريون اليوم إلى الانصياع إلى ظروف أصعب من أن يتحملوها استنفدت منهم قدرتهم على الصبر والاحتمال، وأرغمتهم على الدخول في مسارات ربما لم يكونوا ليقبلوا بها لو كانوا في ظروف طبيعية، شملت أوضاعاً اقتصادية واجتماعية وسياسية بائسة في عالم لم يشبع من بيع وشراء حريتهم في مقابل أثمان بخسة، واستمر بالتفاوض على قضيتهم ولعب الأوراق السياسية التي تفرغها من مضمونها وتجعل من موتهم ضرراً جانبياً لا بد من حدوثه ولا بأس في ذلك.

ما الذي يدفع السوريين للقتال في معارك لا تخصهم ولا تعنيهم سوى أنهم يهربون من واقع أليم ويجبرون على الاختيار بين موت وآخر؟

السؤال الجوهري هنا هل يذهب السوريون إلى تلك الجبهات مقتنعين بأجندة من يقاتلون إلى صفه؟ أم أنهم يذهبون لأسباب لا يعلمها سواهم وتخصهم وحدهم؟ ما الذي يدفع السوريين للقتال في معارك لا تخصهم ولا تعنيهم سوى أنهم يهربون من واقع أليم ويجبرون على الاختيار بين موت وآخر، موت محتم من دون طائل وآخر قد يضمن حياة كريمة لعائلاتهم وذويهم؟

لم تكن الحياة كريمة مع السوريين مثلما يستحقون فمن سجن البلاد الكبير في عهد الرئيس الأب، إلى شتات واغتراب في العقد الأخير، انتهاء بوضع اقتصادي مزرٍ وضعهم أمام خيارات غير عادلة، وهل من عدالة في العالم تجعل الإنسان يذهب إلى حتفه بقدميه؟ وهل يكون المترفون ممن لم يختبروا مثل تلك الخيارات سواء مع من أجبروا عليها؟

وحدهم السوريون ومن في حكمهم ممن اختبروا التجربة نفسها قادرون على الإجابة على مثل تلك الأسئلة وعلى العالم أن يكف عن إطلاق الأحكام وتصنيف البشر، والانتقال إلى تحقيق فعال العدالة من أجل أن تكون خيارات الشعوب أفضل وأكثر حرية.