بمحاذاة القدر الروسي

2022.09.01 | 07:30 دمشق

روسيا أوروبا
+A
حجم الخط
-A

يبدو أن قدرنا في المنطقة، وفي سوريا على نحو خاص، أن نهتم ونتابع الشأن والأخبار الروسية في كل مراحل عقودنا الأخيرة. فهي كانت حاضرة بقوة في تاريخنا منذ بدايات القرن الماضي، وللأسف حتى اليوم. مضت سنوات طويلة، منذ كان السوريون يردفون صفة الصديق، كلما ذكروا اسم الاتحاد السوفييتي. اليوم ينقسم السوريون بين من يعتبرون روسيا عدواً مبيناً، وبين من ما زالوا يطلقون عليها صفة الصديق أو الحليف، ولو بحذرٍ أحياناً.

روسيا إلى أين؟ لعله سؤالٌ يلحُّ على كل متابع للشأن السياسي الدولي. فلا يزال كثير ممن يحلمون بسقوط نظرية القطب الواحد، ينظرون إلى الكرملين، علّ شمساً ستشرق من هناك، طبعاً ليس على الطريقة السورية.

توحي الأخبار الواردة من دول الاتحاد الأوروبي المتأثر اقتصادياً من حرب أوكرانيا، بانتصار روسيّ ظاهري على الدول غير الصديقة، كما سمّاها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولكنّ تقييماً ينحصرُ في اللحظيِّ والراهن سيعطي حتماً مؤشرات غير كافية لتحديد المنتصر في هذه الحرب. حربٌ لم تكن بدايتها في شباط الماضي حين بدأ الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية، بل إنّ هذه الحرب وكما يرى الكثيرُ من المحللين، بدأت مع أحداث أوسيتيا الجنوبية، عام 2008، ثم امتدت آثارها إلى شبه جزيرة القرم 2014، وتخشى عدة أطراف من تصريحات روسية تؤكد أن أوكرانيا ليست الحلقة الأخيرة في حلم قيصر روسيا الجديد. كان حليف روسيا الشيشاني قديروف صريحاً في هذا الصدد، حين أكد في خطاب له أن بولندا هي التالية على القائمة.

بحسب معلومات نشرتها BBC فإن منشأةً روسيةً قريبة من الحدود مع فنلندا تحرقُ من الغاز يومياً، ما تقدر قيمته بعشرة ملايين دولار. ويؤكد خبراء آخرون في شركة ريستاد إنيرجي أن 4.34 ملايين متر مكعب من الغاز الروسي، يتمُّ حرقها يومياً في عدة منشآت أخرى.

بالتأكيد، لا ينظر الأوروبيون إلى لهيب الغاز الروسي المحترق برومانسية، فلهيب الأسعار بدأ بإحراق جيوب سكان أوروبا الغربية

بالتأكيد، لا ينظر الأوروبيون إلى لهيب الغاز الروسي المحترق برومانسية، فلهيب الأسعار بدأ بإحراق جيوب سكان أوروبا الغربية، وهناك من يتحدث عن احتمال تضعضع اقتصاداتها، إن استمرت الأمور على هذا المنوال.

على المستوى الشعبي، لم يظهر المواطنون الأوروبيون ردود فعل في الشارع ضد سياسات بلدانهم. فهم على الأغلب، لا يرون الأمر باعتباره نتيجة لتدخل دولهم في شأن روسي داخليّ، كما تزعم الدعاية الروسية، التي بلغت حدَّ إنكار وجود دولة وشعب تحت مسمى أوكرانيا. هذا ما قالته حرفياً المذيعة الروسية أولغا سكابييفا في برنامجها "60 دقيقة" الذي تبثه قناة روسية رسمية: "لا وجود لبلد اسمه أوكرانيا". ولا حاجة لإيراد ما يثبت أن كلام المذيعة في بلد كروسيا، يعبرُ عن مزاج وتوجهات ورؤية الكرملين.

لو كان هناك في نوايا روسيا، مجال للشبهة، لجاز الظنُّ بمراجعة محتملة قد تبادر لها أوروبا قريباً، بخصوص موقفها من السلوك الروسيّ، وبالتالي يبقى الأملُ مشروعاً في عودة الغاز إلى مجاريه، لكن ردة الفعل الأوروبية تنبئ بقطيعة اقتصادية طويلة الأمد، ولعله "فطام" دائم عن الثدي الروسي، "غاز بروم" إن صح مثل هذا التشبيه.

يظهر هذا في عدة إجراءات بدأتها أوروبا فعلياً، في طريقها للحصول على طاقتها اللازمة، بدايةً بإعادة الحياة لمشروع خط البلطيق الذي سيجلب الغاز النرويجي إلى بولندا عبر الدانمارك، أو توسعة الخط الإسباني وإضافة خطوط أخرى بجانبه، تستجرُّ الغاز من الجزائر ونيجيريا، واعتماد ألمانيا قراراً يحتّم الانتهاء من تجهيز ثلاث محطات للغاز المسال قبل 2026.

لا ريب بأنّ شعوب الاتحاد الأوروبي، ستدفع ثمناً مرتفعاً من رفاهيتها ومعدل نمو اقتصاداتها خلال السنوات القليلة القادمة، لكن أوروبا رأت في حرمانها من الغاز، وأخيراً حرقه على مرأى منها عملاً استغلالياً، نبهها إلى وجوب تحررها من الاحتكار الروسي.

على حسابها الشخصي في تويتر، في نيسان/أبريل الماضي، غردت رئيسة المفوضية الأوروبية أورزولا فون دير لاين: "إنّ إعلان غازبروم هو مسعى آخر من روسيا لابتزازنا بالغاز. نحن مستعدون لهذا السيناريو، ونقوم بإعداد رد الاتحاد الأوروبي المنسق، ويمكن للأوروبيين أن يثقوا في وقوفنا متكاتفين ومتضامنين مع الدول الأعضاء المتأثرة بالخطوة". وفي السياق ذاته أكدت السلطات التنفيذية في الاتحاد الأوروبي أن التكتل يمكنه الاستغناء تماماً عن الغاز الروسي قبل عام 2030.

وفي سبيل بحث روسيا عن أسواق بديلة لتصريف غازها واستيراد التكنولوجيا الضرورية، اتجهت بكليتها نحو الصين الحليف/الغول، لتنمو الواردات الصينية إلى السوق الروسية سريعاً، مما جعل التداول بالعملة الصينية أعلى من اليورو لأول مرة داخل بورصة موسكو. يرى محللون اقتصاديون أن بعض الاتفاقيات بين البلدين قد وُقعت وفق شروط صينية، لم تكن روسيا ستقبل بها حتما، لو أنّ الأمر حدث قبل عام من الآن.

لم تخف الصين تحفّظها من أي تعامل تجاري بين روسيا وخصوم الصين في مجال صناعة التكنولوجيا، وعلى رأسهم الهند وفيتنام، ولعل الصين كانت في غنى عن تحفظها هذا، فتوجهات الدولتين المذكورتين، يغلقُ الطريق تلقائياً أمام الاقتصاد الروسي المثخن بالعقوبات الأميركية والأوروبية المعدية.

في ظلّ هذه العزلة خسرت روسيا ميزة البدائل المتعددة، ووضعت بيضها كله في السلة الصينية المصابة أيضاً بلوثة التوسع الإمبراطوري. بالطبع، لن يفكر التنين الصيني بابتلاع فريسة بحجم الدب الروسيّ، لكنه مرتاحٌ حتماً في تحوله إلى حليفٍ أليف

في ظلّ هذه العزلة خسرت روسيا ميزة البدائل المتعددة، ووضعت بيضها كله في السلة الصينية المصابة أيضاً بلوثة التوسع الإمبراطوري. بالطبع، لن يفكر التنين الصيني بابتلاع فريسة بحجم الدب الروسيّ، لكنه مرتاحٌ حتماً في تحوله إلى حليفٍ أليف، تجبره عزلته على قضم مخالبه عند أي تنافس محتمل.

ولكي يكتمل مشهد الحصار، بدأت النار تصل الدول السوفييتية السابقة، والتي يعتبرها الكرملين حديقة خلفية له. في خطاب له أمام برلمان بلاده صرح الرئيس القيرغيزي جاباروف حول موقف بلاده من الحرب الدائرة في أوكرانيا: "نحن دولة صغيرة، تأثيرنا لن يكون كافياً لوقف الحرب، لذلك يجب أن نظل دولة محايدة".

ولا يختلف موقف كازاخستان عن سابقتها، حيث أعلن رئيسها الحياد أيضاً، مع استعداده للعب أي دور يفضي إلى السلام: "السلام السيئ خير من الحرب الجيدة، دون سلام لن تكون هناك تنمية. كازاخستان مستعدة لتقديم مساعيها إذا لزم الأمر". بعدها سيصرح نائبه سليمينوف، أن كازخستان لن تعترف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك. تنظر موسكو إلى موقف كازاخستان باعتباره خيانة موصوفة، ففي بداية العام أرسلت روسيا آلاف الجنود لمساعدة الحكومة في قمع الاحتجاجات الشعبية ضدها. ولن تغفر لها موقفها هذا، ولا استقبالها قبل فترة وفداً أميركياً، ومن ثم إرسالها مساعدات طبية لأوكرانيا.

الطريف داخلياً حول محاولتها إمساك العصا من المنتصف، أن الحكومة الكازاخية منعت المظاهرات ضد الحرب على أوكرانيا، مع حظرها لعرض حرف Z وهو رمزٌ لتأييد الحرب الروسية.

تجمع أوزبكستان مع روسيا معاهدة تعاون عسكري، وتعاون اقتصادي وثيق، ومع ذلك ذهبت هي أيضاً باتجاه عدم الاعتراف بدولتي الدونباس، وقبلها لم تعترف باحتلال روسيا لجزيرة القرم، رغم أنه وقبل سنوات قريبة، كان الشارع الأوزبكي يروي من باب السخرية، طُرفاً حول تبعية سلطات بلدهم للزعيم الروسي، مؤكدين أن كثيرا من مسؤوليهم أصابهم العرج مصادفةً مع عرج بوتين حين أصيبت ساقه.

مثل سوريا وربما أكثر، فإن جمهوريات آسيا الوسطى ترى القدر الروسي محاذياً لتاريخها على الدوام، فمن دون منافذ بحرية، ستبقى روسيا حاجة دائمة لتلك الدول، أما بالنسبة لنا فهي مجرد قدر سياسي، أورثتنا إياه الحرب الباردة.