(الهاكرز) حين يقتحمون حياتنا!

2021.10.09 | 07:24 دمشق

1021599881_0_165_3172_1882_1000x541_80_0_0_ad1fdb8f5b74fec8c40e6e9dad97c160.jpg
+A
حجم الخط
-A

دخلت المصطلحات القادمة من عالم التقنية البرمجية والسوشيال ميديا حياتنا بقوة، وصارت جزءاً من معجمنا اليومي سواء بلغتها الأم "الإنكليزية" أو باللغة العربية، وما ساعد على انتشارها بلغتها الأم هو صعوبة التعريب، وبطء حركته، أمام سرعة إنتاج المصطلحات، ذات الطابع التقني، وكون تلك البرمجيات والتقنيات غالباً ما تُستَهلك بلغتها الأم، وكون مستعمليها من الشباب والتقنيّين لا تشغلهم قضية تعريبها، في ظل غزارة المعلومات وسرعة انتشارها، وصارت مصطلحات "تتويتة أو تغريدة" أو "بوست ومنشور" أو "أسمستُ" أو"وتّسْتُ" جزءاً من مفرداتنا اليومية.

تمكَّن عالم البرمجيات ومفرزاته من فرض سطوته علينا، أو بلغة أخرى تمكن من "تهكير" معظم تفاصيلنا، وهذا التهكير هو نوع من اتفاق رضائي قَبِلْنا به، أو سعينا إليه، أو فرضت جمالياته نفسها علينا، وحين توقف الفيس بوك والواتساب لساعات، قبل أيام، أصاب كثيراً منا شعور محبط، بل ظن كثيرون أن الحياة لا يمكن أن تستمر من دونهما، لأن الواتساب والفيس بوك وعموم عشائر الاتصال والسوشيال ميديا أبعد من كونها تسلية وتواصلاً، وغيابها عن حياتنا يعني غياب آلاف من البشر الذين يعنون لنا شيئاً ما، وغدا من الصعب أن تنحصر عوالمنا ويومياتنا في الأشخاص الذين نتشاطر معهم الحياة الواقعية فحسب. وأظن أن كثيراً منا في لحظة واقعية، لو خيّر أي رئيس سيختار مثلاً، ربما سيختار رئيس "دولة الفيس بوك العابرة للحدود" مفضلاً إياه على رئيس دولته التي يعيش فيها، لأسباب كثيرة أبرزها أن الحرية والخيارات التي أمنتها لنا تلك الجدران الزرقاء جعلت الحياة أجمل وأجدى، وقلّلتْ من لحظات الملل، وبدّدت كثيرا من مشاعر الوحدة السلبية بأقل كمّ ممكن من الإشراطات عكس الدولة الواقعية التي نعيش ضمن حدودها.

يُعرَّف "الهاكر" بالمفهوم التقني بأنه الشخص أو البرنامج الذي يختص باختراق الشبكات وما يتعلق بعالم الإنترنت والسوشيال ميديا

نبّه توقف الفيس بوك والإنترنت الأسبوع الماضي المهتمين نحو إمكانية وجود "هاكر" قام بالعملية، وسواء أكان موجوداً أو غير موجود على أرض الواقع، أو صدّقنا نحن سكان كوكب الفيس بوك ما أعلنته الشركة من أن الموضوع هو موضوع تعديلات تقنية أو لم نصدق، فإن احتمال أنها قد وظفته، أو قدمت له مبلغاً من المال، يبقى احتمالاً وارداً في ضوء تجارب الشركات الأخرى، وبالتأكيد لن تعلن شركة الفيس بوك عن ذلك لأنها تخاف على سمعتها وفقدان ثقة زبائنها.

يُعرَّف "الهاكر" بالمفهوم التقني بأنه الشخص أو البرنامج الذي يختص باختراق الشبكات وما يتعلق بعالم الإنترنت والسوشيال ميديا، وبعيداً عن المفاهيم السلبية للمصطلح، فإن المختصين والأبحاث المتعلقة بأمن الشبكات والمعلومات تفرق بين نوعيْن من الهاكرز: - "هاكر لأجل التهكير". – "الهاكر" الذي توظفه الشركات، كي يقوم بمحاولات اختراق، تكشف الخلل الذي تنطوي عليه تطبيقاتها وبرامجها قبل تسويقها للجمهور أو بعده.

وتعريف مصطلح "الهاكر" هو نوع من التعريفات السالبة، ذلك أن "الهاكر" يوظف خبراته أو قدراته ليأخذ مكانة من خلال السلبي، لكن هذا السلبي له مكانته ضمن عالم البرمجيات، وتُميِّزُ دراسات في علم اجتماع الأمن السيبراني بين "الكراكر" وهو المدمر السلبي، و"الهاكر" وهو الإيجابي الذي يحاول كشف الخلل في البرنامج.

الهاكرز شخصيات عابرة للقارات ولدى كثير منهم أخلاقيات ومبادئ، وهم يحاربون الملل ويؤمنون بالحرية، منهم المجند من قبل شركات، ومنهم الهاوي والمحترف، والأخلاقي واللاأخلاقي، والرمادي والأسود والأزرق.

اتسع استعمال مصطلح "الهاكر" سردياً، في محاولة تبادلية مع حقول الإنتاج، ذلك أن إحدى قيم الإنتاج الكبرى لرأس المال في القرن الحادي والعشرين هي شركات البرمجيات والتقنيات، لنأخذ أكبر الشركات في العالم ومنتجها المالي حالياً سنجد أن المتصدرة هي أربع: أمازون، آبل، غوغل، مايكروسوفت.

ونهض السؤال اليومي ثانية: كيف يمكن أن نحمي أنفسنا وأطفالنا من "الهاكرز" الذين يشبهون في عدد من أشكال حضورهم قطاع الطرق؟ خاصة أننا نقضي جزءاً طويلاً من حياتنا اليومية أمام شاشة الموبايل أو الكمبيوتر، ونمارس معظم تفاصيل حياتنا برفقتهما، ونأكل ونشرب وننام، وترافقنا أينما تحركنا؟ لِمَ لا نعطيها حقها من الخوف والحذر وكيف نظنُّ أننا بمأمن من اختراقاتها؟

وفي لحظة تبادل سردي ولغوي مع البرمجيات، يمكن توصيف كثير من البشر الذين نلتقيهم في حياتنا أنهم يعيشون كـ (هاكرز) تجدهم في تفاصيلك اليومية فجأة، تخجل منهم أحياناً، وتسايرهم تارة، مهمتهم الرئيسية اختراق خصوصيات الآخرين، أو الانشغال بالمعلومات المتعلقة بالآخرين وجمعها، لكي يكونوا محور حديث، أو مربط فرس، أو مدخل حلّ، منهم "الهاكرز الإيجابي" الذي يمكن أن يقوم بدور بنّاء، ومنهم من هو مهمته الرئيسية القيام بالسلبيات. يعود أمر الإفادة منهم أحياناً إلى طريقتنا في التعامل معهم، وردّة فعلنا عليهم، فالتعامل معهم بالطريقة التقليدية يحوّل عدداً منهم كائنات سلبية قد تؤذينا. وعلى العكس من الشعور الذي يصيبك حين تجد شخصاً فجأة في بيتك، لأنه يكون قد تجاوز الحدود ولم يستأذنك، فإن "الهاكر" البرامجي يتم الترحيب به من الشركات غالباً، بل يوجَّه الشكر له مثلما فعل "لينكد إن" مع الهاكر الهندي "إحراز أحمد" الذي يُسمَّى روبن هود، والسبب بسيط أن "الهاكر" التقني هو الذي نبّه الشركة لضرورة الأخذ بمزيد من الاحتياطات، كي تبعد الشركة الأذى عن زبائنها ولا تفقد مصداقيتها أمامهم.

يحدثني صديق، استجبتُ للتدخل في حل مشكلة عائلية بينه وبين زوجته، أنه كان يمشي وحيداً في عوالم اللجوء والوحدة والتوحد ليلاً، فوجد صبية حالتها كذلك، فاتفقا على أن "يهكرا" الوحدة والغربة عبر أحاديث ونقاشات لا تخلو من إعجاب أحياناً، لكن صديقي في لحظة تهكيرية "للوحدة والغربة السورية الممتدة أفقياً وعمودياً" وقع في شرّ تهكيره للغربة، إذ إن زوجته في لحظة حدس أنثوي لا يخطئ وقراءة تاريخية لثيمات الرجال، قد "هكرت موبايله"، وقامت بصنع عدد من "السكرينشوتات" لمحادثاته مع تلك الصبية، بعيداً عن سياقاتها اللغوية أو الفكرية أو النفسية، بل أشركت أطفاله بـ "التهكير" مما جعل صورته مهزوزة أمامهم، وأقنعتهم أنها لا يمكن أن تكمل حياتها مع أب خائن بمفهومها، وعلى الرغم من أن حياتها معه لم تكن في "سبات ونبات" كما يقول المثل قبل ما قام به من هروب سردي من حالات الوحدة واللجوء، إلا أنها لم تتردد في الانتقام منه بالـ "سكرينشوتات" لجُمل أو كلمات أو سرد، كتبه إبان حواره مع تلك الصبية، كي تكون صورته، فيما لو انفصلا، صورة الزوج الخائن أمام أطفاله.

حاول صديقي أن يقنعها كي تفرق بين "تهكير إيجابي" للحظات الغربة والوحدة والوحشة، و"تهكير سلبي" هدفه الأذى، غير أنها لم تقبل بهذا مطلقاً، بل استعملت مصطلحات قادمة من معجم قديم له علاقة بالخيانة وسواها، أخذ يشرح لها أن معاني الخيانة قد تغيرت، وأنه لا يمكن المقارنة هاهنا بين ما تدعوه هي بـ "الخيانة الديجيتالية" وأنه لم يرتكب أي درجة منها، مع ما يمكن مقارنته بـ "الخيانة الواقعية"، وأن اللغة اليوم والمفاهيم مختلفة كلياً!

لغة الإيموجي مُنتَجٌ متجددٌ كلما كنت شاباً كنتَ متابعاً لجديدها، على العكس من اللغة التقليدية، التوصيلية، التي تعتمد على الخبرة والتجربة

كان من الصعب علي أن أوفِّق بينهما، لأن  اللغتين مختلفتان تماماً، وطريقتا التفكير مختلفتان كذلك، حاولتُ أن أستشهد على سبيل المقايسة بلغة "الإيموجي" مثلاً واختلاف الدلالات، وأنه ضمن هذا العالم الافتراضي الذي نعيشه باتت لغة "الإيموجي" جزءاً رئيسياً من حياتنا، وغدت معرفة دلالتها ضرورة، كي لا تؤدي دلالات مختلفة عما أردنا أو اعتدنا، وكي لا يتولد لدينا سوء توظيف في استعمالها، مع الإقرار أن لغة الإيموجي مُنتَجٌ متجددٌ كلما كنت شاباً كنتَ متابعاً لجديدها، على العكس من اللغة التقليدية، التوصيلية، التي تعتمد على الخبرة والتجربة. وفي الوقت الذي كانت تشهد فيه طفولتنا استشارات منا نحن معشر الأطفال للأكبر سناً كي يشرحوا لنا دلالة مفردة ما أو جملة أو نص، صار الآباء والأمهات، اليوم، يستعينون بأطفالهم، ليحلّوا لهم لغز "إيموجي" مثلاً أو سوى ذلك!

قلتُ لزوجة صديقي في محاولتي التوفيقية على سبيل القياس: أزالت لغة "الإيموجي" قدسية كثير من الدلالات، فقلبُ الحب الأحمر مثلاً، الذي لم نستعمله سوى مرة واحدة في حياتنا ما قبل عصر "السوشيال ميديا" صار كثير منا يضعه كتعليق على أي صورة، أو جملة، أو نص يعجبنا، نضعه ونمضي نحو صورة أخرى، ويكاد لا يخطر ببالكَ، أو بال من وضعتَ له قلب الحب الإيموجي، أو من يتلصص عليك، أي دلالة من دلالاته القديمة.

وسط كل هذا الزخم من عالم السوشيال ميديا ولغته ومصطلحاته وسيطرته، جاء فوز الروائي التنزاني البريطاني عبد الرزاق غورنا ذي الجذور العربية، بجائزة نوبل، الذي نتشارك معه الكثير من أوجاع اللجوء والهجرة والفقر والظلم وتفاصيلها، عبر عدد محدود من الروايات، كتبها في نحو ربع قرن،  ليذكرنا أن الاستغراق في عالم البرمجة والهاكرز ولغة الإيموجي يجب ألا يصرفنا عن الحياة الواقعية، وأن الحياة فيها وجوه من المتعة والتميّز والخيارات وقراءة السرد الروائي، وعلينا أن نسارع لـ "تهكير" تلك اللحظات بالمفهوم الإيجابي للتهكير، قبل أن تستغرقنا موبايلاتنا وكمبيوتراتنا فنصرف معظم عمرنا، لاهثين نحو عالم من الأهداف البعيدة المدى، بحيث تبدو كأنها سراب يحسبه المهكِّر والمهكَّر ماء زُلالاً!