النظام العالمي في مصيدة "2728"

2024.03.31 | 05:18 دمشق

آخر تحديث: 31.03.2024 | 05:18 دمشق

 النظام العالمي في مصيدة "2728"
+A
حجم الخط
-A

مشكلة دول العالم هي سقوطها في مصيدة إنشاء منظمة أممية بعد الحرب العالمية الثانية لا تختلف كثيرا عن ذهنية عصبة الأمم التي دمرتها الحرب العالمية الأولى. المنتصر يفعل ما يريد والمنهزم يدفع الثمن في بنية ترسيم المصالح والنفوذ والأدوار منذ العام 1945 حتى اليوم دون أي تغيير أو تحديث حقيقي. جمعية عامة تضم حوالي 190 دولة تلزم بأن تكون قراراتها على شكل توصيات لا أكثر. بينما يتمتع مجلس الأمن الذي يضم 15 دولة بينها 5 دول دائمة العضوية وتحظى بحق نقض القرارات التي لا تعجبها، بحمل الصفة التنفيذية المدرجة في الفصلين السادس والسابع من الميثاق والتي تحدد صلاحياته ومهامه وشكل اتخاذ القرارات في مسار تسوية النزاعات وضمان السلم.

بعد ساعات فقط من صدور القرار فرطت الإدارة الأميركية بفرص الإشادة بخطوة امتناعها عن التصويت ضد القرار

اختبار جديد خاضه مجلس الأمن في مطلع الأسبوع المنصرم عكس مرة أخرى حجم الأزمة داخل مؤسسات الأمم المتحدة وأروقتها والحاجة إلى تحديث عاجل يحفظ الرمق الأخير من حياة المنظمة ومصداقيتها وقدرتها على حل النزاعات.

دعا القرار المؤقت حتى نهاية شهر رمضان لوقف فوري لإطلاق النار، لكنه حمل الدعوة بفتح الطريق أمام "هدنة دائمة ومستدامة". كما طالب بـ "الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن"، فضلا عن ضمان وصول المساعدات الإنسانية والطبية وغيرها من الاحتياجات الإنسانية.

بعد ساعات فقط من صدور القرار فرطت الإدارة الأميركية بفرص الإشادة بخطوة امتناعها عن التصويت ضد القرار الذي أعدته 10 دول تحت سقف المجلس وأيدته 14 دولة بعد أسابيع طويلة من محاولات وقف النار في قطاع غزة.

كنا نستعد للإشادة بالخطوة الأميركية وبتخلي واشنطن عن نهجها المعروف بتوفير الدعم والرعاية الأممية لإسرائيل، وضرورة إلزامها بقرار وقف النار وقتل المدنيين ووصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع، ففاجأتنا قيادات البيت الأبيض وهي تعلن أن القرار غير ملزم لأنه لم يتخذ تحت غطاء البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.

كنا نردد أن الموقف الأميركي أغضب تل أبيب التي ألغت زيارة وفد سياسي رفيع لأميركا بعد صدور القرار ومسارعة نتنياهو لوصف ما جرى بأنه بمثابة تراجع واضح من قبل واشنطن عن مواقفها السابقة، "ويمنح حماس فرصة الاستقواء بالضغوطات الدولية التي ستسمح لها بالموافقة على وقف إطلاق النار، بدون إطلاق سراح المختطفين". والآن تعلن واشنطن أن القرار لا يلزم إسرائيل مبررة ذلك بأنه يحمل عبارة "مطلوب وقف إطلاق النار" بدلاً من عبارة "يقرر ضرورة وقف إطلاق النار"، ومحولة الأمر إلى قرار لا يتجاوز البيانات الرئاسية الصادرة عن مجلس الأمن على شكل توصيات أو تمنيات.

هل قرار مجلس الأمن ملزم قانونياً؟ وماذا سيحدث إذا لم يتم تنفيذ القرار؟ وكيف سيتعامل مجلس الأمن والمجتمع الدولي لاحقا لإلزام إسرائيل بتنفيذه؟

البداية هي من الناحية القانونية أولا. لو أرادت أميركا فتح الطريق أمام تنفيذ القرار وليس الفرار من التزامات التنفيذ فهي تملك أكثر من مستند قانوني من أجل ذلك لكن ذلك هو آخر همها. يكفي العودة إلى المادة 24 من الميثاق التي تمنح مجلس الأمن الصلاحية المطلقة في قضايا حفظ السلم والأمن الدوليين، والمادة 25 التي تنص على التزام الدول بتنفيذ قرارات المجلس ذات الصلة. "يوافق أعضاء الأمم المتحدة على قبول قرارات مجلس الأمن وتنفيذها وفقاً لهذا الميثاق".

مهام وصلاحيات مجلس الأمن واضحة وهي محددة في ميثاق الأمم المتحدة خصوصا في البندين السادس والسابع من خلال حوالي 20 مادة تشمل تقديم التوصيات في حالات معينة لكنها لا تغفل الدعوة لتنفيذ قراراته الملزمة لجميع الأطراف المعنية. ما فات واشنطن هو أن القرار سيقوي يد محكمة العدل الدولية في ملف مقاضاة إسرائيل بخصوص جرائمها في غزة وهو سيشكل مركز ثقل في قرارات محكمة لاهاي.

في الشق السياسي سيتسبب الموقف الأميركي بإضعاف ثقل ودور مجلس الأمن الدولي أكثر مما هو ضعيف ويتركه تحت المساءلة الدائمة. واشنطن ستغرد بعد الآن خارج السرب الأممي المبعثر والمشتت أساساً. ستظهر بمن يحاول التواجد أمام المنصة الدولية لعرقلة عمل مجلس الأمن وتهميش دوره وإثبات منطق القوة والمصالح الواجب مناقشته وبحثه خارج مؤسسات الأمم المتحدة. المشهد يوحي أن هناك مناورة أميركية ملعوبة باحتراف: تظهر واشنطن أنها رضخت للضغوطات الإقليمية والدولية التي تتعرض لها بسبب مواقفها في موضوع الحرب الإسرائيلية على غزة، ثم تعلن أنها ملتزمة بقرار لا يلزم إسرائيل ببنوده ومواده.

هل هدف واشنطن من خلال الإقدام على خطوة بهذا الاتجاه هو فتح الطريق أمام مقايضات وصفقات سياسية مع دول المنطقة عبر تحرك سياسي دبلوماسي يقود إلى دعم مقترح إنشاء قوة حفظ سلام دولية في غزة وتحديد شكل تركيبة هذه الوحدات ومهامها؟ أم العمل على إخراج حماس من المشهد وإنقاذ إسرائيل من ورطتها الإقليمية والدولية؟ أم الحصول على فرصة استرداد ما فقدته من نفوذ في المنطقة عبر الإشراف على خطة متعددة الأهداف من هذا النوع؟

الخطوة الأميركية تتركنا أيضا أمام تساؤل هل كان هناك تفاهمات أميركية إسرائيلية مسبقة حول ما ستفعله وتقوله واشنطن؟ وهل هدف واشنطن الأساسي عبر تسهيل صدور مثل هذا القرار هو فتح الطريق أمام خطوات سياسية وأمنية تريد الوصول إليها في مسألة إرسال قوات حفظ سلام إلى المنطقة أو توفير الغطاء الأمني والعسكري والدعم السياسي لخطة بناء الجسر التمويني الأميركي نحو القطاع؟ امتحان أميركا الحقيقي هو ليس في تجاهل مضمون القرار وضرورة تنفيذه، بل هل ستذهب باتجاه عرقلة قرار جديد يدعو لتنفيذ بنود القرار 2827 أم لا؟

القرار 2728 كان من الممكن أن يتحول إلى فرصة لتسريع التسوية والحلحلة في الملف الفلسطيني، لكن الإدارة الأميركية خدعت الجميع

فشلت الكثير من محاولات مجلس الأمن الدولي في الوصول إلى تفاهمات تلزم طرفي النزاع في قطاع غزة بوقف إطلاق النار وتبني هدنة أمنية تتحول إلى هدنة دائمة. القرار 2728 كان من الممكن أن يتحول إلى فرصة لتسريع التسوية والحلحلة في الملف الفلسطيني، لكن الإدارة الأميركية خدعت الجميع وهي تعلن حياديتها خلال التصويت ثم تسارع للقول بعدم إلزامية القرار بعد قبوله بساعات من قبل مجلس الأمن.

صحيح أن الوصول إلى نتائج عبر مجلس الأمن يتطلب دائماً التوافقات السياسية المسبقة بين الدول الفاعلة، ودون ذلك من الصعب اتخاذ قرارات ملزمة في ملفات الكثير من الخلافات الإقليمية. لكن الدول الأعضاء بمقدورها الدعوة لعقد اجتماع جديد للمجلس لبحث سبل إلزام الأطراف بالتنفيذ والتلويح بالعقوبات على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف.

حجة واشنطن هي أن القرار لم يتطرق إلى مسألة تهديد الأمن والسلم الدوليين، كما هو وارد في الفصل السابع من الميثاق. لكن فرحان حق، نائب المتحدث باسم الأمم المتحدة يقول إن التنفيذ "هو مسألة إرادة دولية في نهاية المطاف". وهذا يكفي لحسم كل النقاشات القانونية والسياسية والعودة إلى نقطة البداية: من يقرر هو ليس مؤسسات إقليمية أو دولية يهمها حماية التوازنات والدفاع عن مصالح الضعيف في مواجهة القوي، بل حراك أسياد لعبة مضى عليها 8 عقود وإلزامنا بالرضوخ لما يقولونه ويريدونه حول تجاهل كل المتغيرات والتحولات السياسية والأمنية والاقتصادية في العالم وحق الدول الصاعدة في التواجد أمام طاولة اتخاذ القرارات في مجلس الأمن الدولي.