المعبر الأخير.. أم الاختبار الأخير

2021.07.05 | 06:21 دمشق

000_ii77g.jpg
+A
حجم الخط
-A

عشر سنوات من المذبحة السورية المستمرة والتخاذل الدولي والاكتفاء بالفرجة على مأساة العصر، أو بالمواقف الكلامية التي لم تكف السوريين ما تفتقت عنه ذهنية الإجرام الأسدي من شرور تجاه الشعب الذي طالب بالحرية.

وبعد مسلسل طويل من التنازلات والتخلي عن مبادئ القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، بل والتراجع عن ما ظن البشر أنهم حققوه معاً في سبيل الارتقاء الإنساني ومنع الإبادة والحد من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، يُقزّم المجتمع الدولي اليوم دوره في المأساة السورية ببذل الجهود لإبقاء آخر معبر للمساعدات الإنسانية عبر الحدود، بل يستعد لتقديم تنازلات سياسية للروس مقابل هذا الإنجاز الهزيل والتراجع الشنيع أمام التضخم الروسي على حساب قيم الحرية والعدالة وقواعد القانون الدولي الإنساني، فهل بقي أي معنى أو دور للأمم المتحدة ومجلس الأمن بعد؟ وهل المجتمع الدولي بهذا العجز أم أن مظهر العجز هو الخيار الذي تمرر من خلاله المصالح وتدفن بحجته المبادئ؟

يخيل لمن يتابع الموقف الروسي وكأن الحرص على سيادة سوريا (النظام) هو أهم مبدأ يجب أن يلتزم به المجتمع الدولي وهو المبدأ الذي في سبيله يمكن الإطاحة أو التغاضي عن كل شيء بما فيها الجرائم الفظيعة التي يرتكبها النظام تحت مظلة روسية وأحياناً كثيرة عبرها مباشرة، وطبعاً هذه السيادة ليست سوى ذريعة وغطاء لتدخلها واستيلائها على سوريا ثم للمساومة عليها في بازار النخاسة الدولية حيث تباع وتشترى حقوق الشعوب التي يطيح بها الحكام الفاشلون.

وأمام ادعاء مبدأ السيادة هذا تكون التضحية بالحاجات الإنسانية لملايين البشر أمراً مقبولاً للبعض ومطلوباً من قبل الروس الذين وإن كانوا يتحدثون بشكل موارب عن الاحتياجات الإنسانية إلا أنهم عملوا ويعملون على أن تكون الخطوة القادمة بعد إغلاق آخر المعابر هو استخدام الاحتياجات الإنسانية التي يريدون لها أن تدخل عن طريق النظام فقط لتركيع المناطق المحررة، وهم الذين فعلوا ذلك مع المناطق المحاصرة في السابق، حيث استخدم إدخال ومنع المساعدات الأممية إليها كسلاح في المعركة تماماً كما استخدمت براميل النظام المتفجرة وصواريخ الروس الفراغية والعنقودية.

لم تبادر الدول العظمى وباقي المجتمع الدولي إلى حرمان الروس من هذه الورقة باعتبارها باتت طرفاً أساسياً في الصراع وشريكاً في جرائم النظام حسب ميثاق الأمم المتحدة

وقبل الإجهاز على مسألة الاحتياجات الإنسانية، كان الروس قد أمّنوا الحماية للنظام من الإجراءات الجماعية في مجلس الأمن وأعاقوا كل محاولة لإدانته على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بالفيتو الذي أصبح أداة دول مجلس الأمن في حماية مصالحهم وعملائهم بدل أن يكون المجلس أداة الأمم المتحدة في الارتقاء بالإنسانية وبالقانون الدولي ونجح الروس في سد الطريق على تحويل جرائم النظام للمحكمة الجنائية الدولية وفشلت الإنسانية في فتحه، واستكانت لعبة المصالح لهذا الفشل.

لم تبادر الدول العظمى وباقي المجتمع الدولي إلى حرمان الروس من هذه الورقة باعتبارها باتت طرفاً أساسياً في الصراع وشريكاً في جرائم النظام حسب ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على أنه لا يحق للدول المعتبرة طرفاً في النزاع التصويت على مشاريع القرارات بل وجدت في الموقف الروسي شماعة وفرصة لتبرير الصمت أمام المذبحة الرهيبة.

كما أن الأصوات المطالبة بتفعيل الإجراءات الجماعية من قبيل الاتحاد من أجل السلام لمواجهة فشل مجلس الأمن في معالجة مذابح سوريا بقيت دون صدى. 

والمجتمع الدولي قبل ذلك أيضاً لم يفعل حتى قراره 2118 القاضي بمعاقبة مستخدمي السلاح الكيماوي في سوريا رغم أن تقارير كل من آلية التحقيق المشتركة التابعة لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة وكذلك فريق التحقيق وتقصي الهوية، قد أثبتت بشكل واضح تورط النظام في استخدام السلاح الكيميائي لمرات عديدة ضد المدنيين.

حتى احتمالات التدخل الدولي الأحادي أو المتحالف بعد تجاوز الخطوط الحمراء واستخدام السلاح الكيميائي المتكرر تم التراجع عنها في اللحظات الأخيرة كما قيل، لأسباب واهية.

وقبل ذلك أيضاً لم يستخدم المجتمع الدولي ممثلاً بالأمم المتحدة مبدأ الحماية الإنسانية الذي طوره بعد عار مذابح رواندا في مواجهة النظام الذي لم يفشل فقط في واجبه في حماية المدنيين بل إن قواته النظامية والميليشيات التابعة له هي المنخرطة في ارتكاب الجرائم الفظيعة ضد المدنيين.

بعد ذلك كله يشعر النظام ومعه الروس والإيرانيون بأنهم في مأمن تام من أي عقاب أو مسائلة، الأمر الذي جعلهم يطمعون بالمزيد وهو القضاء على تجمع ملايين النازحين الفارين من مذبحة الأسد والروس التي تلاحقهم اليوم إلى إدلب، ولا فرق أن يكون هذا القضاء عبر البراميل والصواريخ أو عبر قطع المساعدات الإنسانية وتحويلها للنظام أولاً ليستفيد منها حتى يقف على ساقيه من جديد أو ليستخدمها في الحصار والمساومة كما سبق وأسلفنا.

نعم إن من سار منذ البداية في طريق التغاضي عن جرائم النظام والتسويف وخلق التبريرات للسكوت عن الجريمة المستمرة والاكتفاء بالتصريحات وتحميل الروس المسؤولية نظرياً وإعطائهم الضوء الأخضر عملياً لدعم النظام، يبدو مستعداً لتقزيم دور المجتمع الدولي في استجداء الروس لإبقاء المعبر الأخير مفتوحاً بل وهناك من يمهد لتقديم تنازلات أخرى للروس لقاء ذلك من قبيل تخفيف العقوبات عن النظام وفتح باب التطبيع معه.

من سخرية القدر أن هذا النظام يستفيد بحدود 90% من المساعدات الأممية كما تشير بعض التقديرات، لكن عينه على الـ 10 % المتبقية بغية السيطرة والتحكم بقوت ملايين النازحين من المساعدات الآتية عبر المعبر الأخير المتبقي معبر باب الهوى، وفي ظروف العقوبات والعزلة التي يعيشها النظام تعني هذه النسبة أن الأمم المتحدة هي التي تؤمن قدرته على البقاء والاستمرار وهنا لا نكون أمام مشهد العجز عن إيقاف جريمة العصر بل ودعم المجرم أيضاً عبر هذه الآليات العرجاء القاصرة.

يأتي هذا الموقف الروسي المتعنت بعد أن عطل النظام مسار العمل في اللجنة الدستورية، وبعد أن أجرى مسرحية الانتخابات الرئاسية ضارباً بعرض الحائط قرارات مجلس الأمن وعلى رأسها القرار 2254، وهو استمرار لنهج المبادرة الروسية وتحقيق النقاط والاستفراد بالشعب السوري أمام التخلي الدولي وسياسة الانكفاء لصالح الروس.

رغم كل سوداوية هذا المشهد يبقى هناك من يبحث عن أي إيجابية ويفكر بشكل رغبوي ويمني النفس بأن ثمة فرصة في حال استخدام الروس الفيتو وإغلاق هذا المعبر الأخير وأن الفرصة تتمثل في إقدام الدول (الصديقة) بالدعم الإنساني المباشر لمناطق المعارضة عبر تركيا وبذلك يفقد الروس ورقة المساعدات الدولية والمساومة السياسية عليها، لكن لعبة السياسة الدولية القائمة على التذاكي أحياناً والتغابي في كثير من الأحيان وطرح الشعارات الجوفاء دائماً لم تخدم قضيتنا يوماً، بل إنها شر لا بد منه لكن يجب أن لا نعول عليه، والثورة التي حولت أكثر الأنظمة دموية وأكثرها تمتعاً بالحماية نتيجة للأدوار الخدمية الحيوية التي يؤديها لصالح اللاعبين الدوليين ولـ "إسرائيل" على وجه التحديد، إلى مجرد غطاء مهترئ مقطع الأطراف يبذل الجميع الجهود لتثبيته في وجه رياح الثورة التي ربما يتواتر هبوبها فتشتد أو تهدأ لكنها لن تقف حتى تطيح به.

أي تطبيع مع النظام أو كسر لعزلته وتخفيف العقوبات عليه عار جديد يختم مسيرة التخلي عن المبادئ الإنسانية وما أنجزته البشرية

إن شعبنا الذي لم يبق لديه ما يخسره ودفع هذا الثمن الباهظ والذي دمرت مدنه وهُجّر وبيعت سيادته، لا يقبل بهذه المساومة على قوته ولا يقبل بتقديم أية تنازلات للروس للإبقاء على هذا الشريان، وإن أي تطبيع مع النظام أو كسر لعزلته وتخفيف العقوبات عليه عار جديد يختم مسيرة التخلي عن المبادئ الإنسانية وما أنجزته البشرية، وإجهاز على المؤسسات الدولية التي تردّى دورها وضعف إلى هذه الحدود بمحصلة الفشل في سوريا والاختبار اليوم هو أن يبقى شريان الحياة هذا ولا يكافأ النظام على جرائمه.

والمجتمع الدولي يعرف ما عليه أن يفعل عندما تقتضي المصالح التحرك، والغرب بالتحديد لا مصلحة له على المدى الطويل في ترك سوريا للروس والإيرانيين خاصة وأن مهمة تدمير سوريا على يد النظام وحفظ أمن "إسرائيل" ومصالحها قد تمت.

والشعب الذي قدم كل هذه التضحيات مستمر حتى الخلاص من النظام والاحتلال الذي جلبه لحمايته وإلى ذلك الحين ليس للسوريين إلا الله وعزيمتهم وصمودهم حتى نيل حريتهم.