المجزرة المُستدامة وصناعة "التجانس"

2022.09.29 | 04:52 دمشق

المجزرة المُستدامة وصناعة "التجانس"
+A
حجم الخط
-A

"ليس عاراً أن أقف هنا على منصة الإعدام..، لقد خدمت وطني الأم مثل آخرين قبلي". تلك كانت الكلمات الأخيرة للطبيب "كارل براندت" لحظة إعدامه في سجن لاندسبيرج، قبل أن يقطع أحد عناصر تنفيذ الإعدام خطبته، ويضع الكيس على رأسه الذي سيتدلى من الحلقة بعدها بثواني.

جرى هذا في الثاني من حزيران/يونيو عام 1948، بعد محاكمة ستعرف فيما بعد باسم "محاكمة الأطباء". محكمةٌ أميركية عُقدت ضمن محاكمات نورمبرغ الشهيرة في ألمانيا، إثر هزيمة النازية. وُجهت التهم إلى ثلاثة وعشرين طبيباً بالتورط في القتل الجماعي تحت ستار القتل الرحيم. أعدم منهم سبعة، وحكم على تسعة آخرين لمدد تتراوح بين عشرة سنوات والسجن مدى الحياة، فيما لم يتمكن الادعاء من إثبات التهم على البقية.

في أثناء التخطيط الأوّلي لبرنامج "القتل الرحيم" عام 1939، ناقش هتلر وطبيبه الخاص براندت أساليب قتل متعددة. سأله هتلر "ما هي الطريقة الأكثر إنسانية؟" اقترح براندت استخدام غاز أول أكسيد الكربون. وافق هتلر وأمره بالاتصال بأطباء آخرين، والبدء في تنسيق عمليات القتل الجماعي. تلك المجزرة ستعرف فيما بعد بعملية T4 (Aktion T4). جاء هذا الاسم الرمزي من العنوان الذي وجد فيه مكتب تنسيق البرنامج في برلين (Tiergartenstraße 4).

استهدف برنامج "القتل الرحيم" المرضى الذين يعانون من إعاقات عقلية وجسدية، ممن كانوا يعيشون في المؤسسات الصحية والخيرية، في ألمانيا أو في الأراضي التي ضمتها ألمانيا. يقدر المؤرخون أن البرنامج أودى بحياة نحو 300 ألف رجل وامرأة وطفل.

تخيل مخططو البرنامج مجتمعاً عرقياً نقياً ومنتجاً. فتبنوا استراتيجيات جذرية للقضاء على أولئك الذين لا يتناسبون مع رؤيتهم

بشكل سرّي، تم تعيين "خبراء طبيين" عملوا في فرق مكونة من ثلاثة أطباء، لتقييم استمارات المرضى، وعلى أساس قراراتهم، بدأ موظفو T4 بإبعاد المرضى المختارين لبرنامج "القتل الرحيم" من مؤسساتهم، وقتلهم بمختلف الوسائل، منها الحقن السامة والغاز والتجويع. كان الهدف الوصول إلى مجتمع العرق النظيف.

كان براندت من بين عديد من الأطباء الألمان، توصل إلى الاعتقاد بأن صحة المجتمع ككل يجب أن تكون لها الأسبقية على صحة أعضائه، بالنظر إلى المجتمع باعتباره كائناً حياً يجب علاجه، ويجب تخليصه من أكثر أعضائه ضعفاً وعجزاً، عبر إزالتها. لذلك يجب أن يطبَّق على مثل تلك المخلوقات التعيسة الموت الرحيم. تخيل مخططو البرنامج مجتمعاً عرقياً نقياً ومنتجاً. فتبنوا استراتيجيات جذرية للقضاء على أولئك الذين لا يتناسبون مع رؤيتهم. في كتابه "كفاحي"، ذكر هتلر أن "النظافة العرقية" ستظهر في يوم من الأيام "كعمل أعظم من أكثر الحروب انتصاراً في عصرنا البرجوازي الحالي".

مثّل برنامج القتل الرحيم (بروفا) ناجحة لسياسات الإبادة الجماعية في ألمانيا النازية. فالبنية المادية التي توفرت نتيجة البرنامج، بما فيها غرف الغاز الثابتة والمتنقلة على عربات والمحارق، سهَّلت تطوير البرنامج بعد عامين ليشمل القتل المنهجي للأعداء العرقيين المفترضين من اليهود والغجر، فيما سمّاه النازيون عملية "الحل النهائي"، الذي سيُعرف فيما بعد بالهولوكوست. ويهدف إلى الوصول لمجتمع متجانس.

كان برنامج "القتل الرحيم" حسب القائمين عليه، إجراءً جذرياً لتحسين النسل، واستعادة "السلامة العرقية" للأمة الألمانية. يهدف إلى القضاء على، ما اعتبره علماء تحسين النسل وأنصارهم، "حيوات لا تستحق الحياة". هؤلاء الأفراد الذين، بسبب إعاقاتهم النفسية أو العصبية أو الجسدية الشديدة، يمثلون عبئاً وراثياً ومالياً على المجتمع الألماني والدولة.

أصدر هتلر أمراً بإيقاف العملية عام 1941. جاء ذلك، إثر احتجاجات الرأي العام الألماني. احتجاجات قادتها الكنيسة الكاثوليكية، وتنطّح للمواجهة فيها أسقف "مونستر" كليمانس فون جالينوس. بحسب المؤرخين، كانت تلك أقوى حركة احتجاجية ضد أي سياسة منذ بداية الرايخ الثالث. طالب النازيون المحليون بإلقاء القبض على جالينوس، لكن الوزير "جوبلز" أخبر هتلر أن مثل هذا العمل من شأنه أن يقود إلى ثورة، فقرر هتلر الانتظار حتى ما بعد الحرب للانتقام. كتب "هنري فريدلاندر" المؤرخ اليهودي الناجي من معسكر "أوشفيتز"، أنه لم تكن انتقادات الكنيسة، بل فقدان السرية و"القلق الشعبي العام من الطريقة التي تم بها تنفيذ القتل الرحيم" هو ما أدى إلى تعليق عمليات القتل.

أجل توقفت العملية رسمياً، لكنها استمرت بشكل سري، وإن على نطاق أضيق، حتى نهاية الحرب عام 1945. جرت العادة أن يتم تسليم تقارير الوفاة لعائلات الضحايا، وغالباً سيكون السبب الإصابة بالتهاب رئوي. كان هناك العديد من المفارقات في تلك التقارير، مما يدخل الشك الذي يصل إلى درجة اليقين لدى تلك العائلات، بأن ذويهم قد قُتلوا. تسلمت إحدى العائلات تقريراً يفيد بأن سبب وفاة ابنها التهاب "الزائدة الدودية"، رغم أن الضحية كان قد خضع لاستئصال الزائدة قبل سنوات! أعرف أية مقارنات بدأت تدور الآن في أذهانكم.

في واحدة من كلماته المنقولة تلفزيونياً، سيسهب بشار الأسد بالحديث عن التجانس في المجتمع، الذي أفضت إليه مجازره المتنقلة على امتداد الجغرافيا السورية. على عكس الكثيرين، كنت أتساءل وأنا أستمع إليه: هل يصدّق نفسه؟ ولم أصل إلى جواب يقينيّ. شخصياً لم أستطع الجزم بالنفي. وبقيت أتساءل هل يمكن لتركيبته النفسية الخاصة، أن تجعله مقتنعاً بأنه محق فيما يقول. ليغدو شبيهاً لحالة "كارل براندت"، طبعاً مع فارق "الكاريزما" لصالح براندت الذي اعتبر أنه خدم بجرائمه وطنه الأم. لا جوابَ نهائياً لدي حتى اليوم. فهناك كثير من الأمثلة التي قدمها لنا التاريخ، عن قادة مجرمين مختلّين ارتكبوا الفظائع في حالة هوسٍ جعلتهم يعتقدون أنهم أبطال، وقد لبّوا نداء شريحة مهمة من الناس الذين هلّلوا لهم ولبطولاتهم.

حتى في حالة عملية القتل الرحيم النازية، سنجد أنها لم تأت عرضاً أو مخالفة تماماً لأخلاقيات تلك المرحلة. ففي بداية القرن العشرين، كانت فكرة تعقيم الأشخاص الذين يحملون ما يُعتبر عيباً وراثياً، وفي بعض الحالات أولئك الذين يظهرون ما يُعتقد أنه سلوك وراثي "غير اجتماعي"، فكرة محترمة في المجال الطبي، ولا يشير لها أي أحد على أنها تفتقد للأخلاق.

سوريون يعتقدون أن قتل المختلف مقبول بل ومطلوب بشدَّة، حين سيثير المختلفون القلاقل بهدف زعزعة الأبد السوري المنشود، والمُطوَّب طبعاً لعائلة الأسد

أقرت كندا والدنمارك وسويسرا والولايات المتحدة قوانين تسمح بالتعقيم القسري. وفي ألمانيا نصَّ "قانون الوقاية من نسل المصابين بأمراض وراثية" عام 1933 على التعقيم الإجباري للأشخاص الذين يعانون من حالات يُعتقد أنها وراثية، مثل الفصام والصرع، أو بعض أشكال الانحراف الاجتماعي كإدمان الكحول المزمن. وفيما سيبدو أنه طرفة مأساوية، عندما اشتكى راينهولد سوتر مستشار الكنيسة العليا لولاية فورتمبيرغ من جرائم القتل الجماعي عام 1940 أمام المستشار الوزاري النازي يوجين ستاهلي، باعتبار القتل يخالف الوصايا المسيحية، سيردّ الأخير بأن "الوصية الخامسة لا تقتل، ليست وصية من الله، بل اختراع يهودي".

كذلك في سوريا، لم تكن المجزرة المستمرة منذ أكثر من عقد، حدثاً خارج منطق تاريخ حكم الأسد الأب ومن بعده الابن. كانت هناك أرضية ذهنية مهيأة منذ الثمانينات لدى المؤسسة الأمنية، بل وحتى لدى قطاع لا يستهان به من السوريين. سوريون يعتقدون أن قتل المختلف مقبول بل ومطلوب بشدَّة، حين سيثير المختلفون القلاقل بهدف زعزعة الأبد السوري المنشود، والمُطوَّب طبعاً لعائلة الأسد.

يشير المؤرخون إلى أنه عام 1945، داخل عنبر الأطفال في مستشفى كاوفبورين-إيرزي الحكومي في بافاريا، قُتل الطفل "ريتشارد جين" وسُجِّل كآخر ضحايا برنامج T4. وبانتظار أن يشير مؤرخ معاصر إلى اسم آخر ضحية في مجزرة الأسد المستدامة. سيبقى اليقين الأكيد أن ذلك لا بدَّ سيحدث في يومٍ ما.  فلم يُعرف عن التاريخ ولا لمرة واحدة، أنه توقّف في أية حقبة، ليجعل منها نوعاً من الأبد.