اللجوء وقطع الغيار والزواج التعاقدي

2023.03.25 | 06:13 دمشق

اللجوء وقطع الغيار والزواج التعاقدي
+A
حجم الخط
-A

لا تنفك مفاهيم الحياة الجديدة في المجتمعات الغربية تتغلغل في حياة اللاجئين السوريين، الذين ظن معظمهم أنهم خارج تلك التغييرات الوجودية، ها هم أولاً بأول يستسلمون لها ويغدون جزءاً منها، والسبب بسيط أن مسرح الزواج قد تغير، وبالتالي لا بد من تغير في أدوار الممثلين والإضاءة والموسيقا التصويرية.

يعدّ الزواج في البلدان الأم لمعظم اللاجئين، وخاصة السوريين، في جزء كبير منه شأناً اجتماعياً عائلياً أكثر من كونه شأناً فردياً، وبما أن هذا الحامل الاجتماعي لم يعد موجوداً فإن الاهتزاز كان من أهم سمات منظومة حياة اللاجئين الجديدة، وقد مست التغييرات منظومة الزواج اقتصادياً واجتماعياً ووجودياً مما جعله يرقص يمنة ويسرة ويبحث عن مصادر حياة جديدة، عبر عقود جديدة طوراً، أو من خلال محاولة إغلاق ثارات قديمة، أو إعلاء شأن سرديات متراكمة لدى كل طرف من مكوناته تضيع بين الصح والخطأ.

لا يمكن لزواج بني على قواعد اجتماعية أن يستمر صحيحاً معافى بغياب تلك القواعد، أو تغير أدوارها. فالأهل الذين كانوا مصدر قوته وملاذ طرفيه إنْ اختلفا؛ باتوا اليوم ينتظرون مساعدة ابنهم أو ابنتهم المادية مما يجعل صوتهما أعلى من صوت الأهل. وكذلك غاب الأهل عن التفاصيل فكثرت اليوميات المزعجة وأخذت تتراكم دون أن توجد حلولاً لها أولاً بأول مما أعطى الإمكانية لحدوث الانفجار التدميري.

تستمر الأسئلة حتى تحاصر الشخص لإيصاله إلى القرار المبتغى وهو تكسير قدسية العائلة لتغدو مرجعية الأفراد البلدية وقيم المجتمع الجديد الفردانية

من جانب آخر لا بد على مستوى البحث عن حلول من اللجوء إلى أصدقاء المجتمع الجديد أو منظماته وهيئاته، وأطبائه النفسيين الذين أزعجهم ما يعانيه أولئك القادمون الجدد، المتدثرون بالتضحية وأعبائها، في مجتمع لا توجد فيه هذه القيمة. أو إنْ وجدت فإنها ضعيفة الحضور، فأخذوا يسألون أولئك القادمين الجدد: لماذا تضحون؟ ما الهدف؟ لماذا لا تعبّرون عن وجعكم وتبتعدون عن مصدر الوجع إنْ كان يتمثل ها هنا في الزوج أو الزوجة؟ ما الذي تجنونه من العيش مع شريك لديك عليه الكثير من الملاحظات ولا أمل بالتغيير... وهكذا تستمر الأسئلة حتى تحاصر الشخص لإيصاله إلى القرار المبتغى وهو تكسير قدسية العائلة لتغدو مرجعية الأفراد البلدية وقيم المجتمع الجديد الفردانية في تقديم لما يمكن تسميته القيم المادية القائمة على مبدأ الإفادة والاستفادة وحسابات الربح والخسارة.

لا يستوعب الكثير من دعاة الانفصال الغربيين وهم يملؤون كل قرية، وكل حي، مفاهيم الزواج الشرقية أو بكلمة أدق لا يحترمونها ولا تشكل بالنسبة لهم قيمة مضافة، بل يرون أن الزواج حالة تعاقدية مثله مثل عقد الوظيفة مثل أي حالة تعاقدية أخرى، فإن لم يكن الطرفان مرتاحين فلم الاستمرار به؟ معظم أولئك المتطوعين ليسوا كارهين للاجئين أو لديهم موقف إيديولوجي منهم. الأمر مرده إلى أنهم يدافعون عن قيم مجتمعهم ويريدونه مجتمعاً آمناً من وجهة نظرهم، لذلك يقدمون خدمات "انفصالية" لكل من الطرفين. الزواج في عرفهم اتفاق طرفين ينتجان منتجاً هم الأطفال، وما دام هناك آليات رعاية للأطفال ومفاهيم واضحة في الحقوق والواجبات فلينفصل كل طرف عن الآخر، وليجد طرفاً جديداً آخر، لماذا القداسة ولماذا العائلة، المقدس الوحيد هو المريح وغير المزعج!

يتجاهل أولئك المتطوعون الأبعاد الاجتماعية للزواج والآثار النفسية على الأطفال، يسعون إلى أن يتحول أولئك اللاجئون سريعاً إلى قيم المجتمع الجديد وعاداته وتقاليده، وأنه لا حل بالتخلص من كل هذه الأوجاع النفسية للقادمين الجديد سوى بتدمير منظوماتهم القديمة وعاداتهم ومفاهيمهم وجرّهم إلى قيم المجتمع الجديد الفردانية والتعاقدية.

من الطبيعي في هذا السياق أن تكون المرأة اللاجئة "زبوناً سهلاً" لأصحاب الخدمات الفردانية، وهم غالباً مجموعة من المتقاعدين الذين يملؤون أوقات فراغهم بحكايات اللاجئين الجديدة، حيث تشكل تلك الحكايات شهرزاد جديدة في حياتهم المملة والنمطية، إذ لا أحد يزورهم أو يهتم بهم، فأبناؤهم مشغولون عنهم ولديهم اكتفاء مادي، ومردّ كون المرأة زبوناً سهلاً لهم وجود مظالم متراكمة للمرأة، سواء أكانت واقعية أو شعورية، وكذلك يستغلون توقها لتحقيق ذاتها وهو توق مشروع وضروري، بخاصة أن نمط الحياة الجديدة يهيئ الإمكانية لذلك.

يحدثني أحد أولئك المتقاعدين في جلسة هادئة، يقول لي: نحن نعمل من خلال منظمات تهتم باللاجئين أو الخدمات الاجتماعية، نقوم بتأمين خدمات بسيطة للاجئ ونتغلغل في حياته أولاً بأول، لدينا معلومات سابقة وتصورات استشراقية حول علاقة المرأة بالرجل تصيب معنا بنسبة كبيرة، نشتغل عليها أولا بأول، مستغلين أن التغيير يأخذ وقتاً وفي إطار حرص أحد الطرفين على التغيير السريع وبطء الآخر في الاستجابة للتغيير أو كون حساباته مختلفة عن الآخر، تكمن منطقة عملنا في إذكاء نار الخلاف بينهما وتأجيجها لأن أول فرصة نجاح لنا كي نزرع قيم مجمعنا الجديد تكمن في تهديم تلك المنظومة وهي منظومة الزواج والعائلة التي هي أساساً لديها مشكلاتها، وبالتالي نكسّر لدى الجيل الثاني، وهو جيل الأطفال رمزية العائلة مما قد يسهم في زرع فكرة أن العائلة لا قيمة لها، فنضمن لجيل أحفادنا أن أولئك القادمين الجدد لن يشكلوا خطراً علينا!

أسأله: هل خططهم منظمة ولديهم جمعية أم أنهم "موساد اجتماعي"؟

يجيب دون حرج: نحن مؤثرون اجتماعيون، ليس لدينا خطط واضحة أو منظمة، لكن لدينا تفاهمات مبطنة وإيمان بقيم مجتمعنا وأهداف عامة، وقناعات أن من يأتي بهدف اللجوء إلى بلدنا عليه أن يتماهى مع قيم المجتمع الجديد كي لا يبدو ناشزاً أو نافراً أو مختلفاً، نريده أن يصبح "منا وفينا" لكن ليس ببقاء خصوصيته بل بفقدان خصوصيته!

لا بد من لحظة مرض أو معاناة أو شكوى يمر بها اللاجئ في حياته الجديدة، وقتها نقترح الحلول اللازمة ولعل أبرزها تعريفنا للزواج وفق قيم المجتمع الجديد

وفي سياق إجابته عن الصعوبات التي يعانون منها يشير إلى أن هناك عدداً من العوائل تتسم بالانغلاق ولا تسمح لنا بالدخول حتى على مستوى مساعدتها في تفاصيل يومياتها. أما من يسمح لنا بالدخول إلى دائرة أفراده فلا بد من تحقيق النجاح إنْ عاجلاً أو آجلاً لسبب بسيط أن حياة اللاجئ تتسم بالتغيير في ضوء معاناته أو معاناة عائلته في بلده الأم، ونحن جاهزون لزيادة دورنا متى ما أتيح لنا ذلك، ولا نستعجل إحداث التغيير لأنه قادم لا محالة، لا بد من لحظة مرض أو معاناة أو شكوى يمر بها اللاجئ في حياته الجديدة، وقتها نقترح الحلول اللازمة ولعل أبرزها تعريفنا للزواج وفق قيم المجتمع الجديد: الزواج حالة تعاقدية اتفاقية رضائية بين طرفين. فإنْ فقدت منه الحالة الرضائية الاتفاقية، لماذا على طرفيْه أن يظلما بعضهما بالبقاء معاً. إننا بتجريدنا الزواج من مفاهيمه القادمة من البلد الأم من مثل التعاضد والرحمة والسكينة والطمأنينة والعشرة والإنجاب وقيم العائلة الشرفية التقليدية والتركيز على جانبه التعاقدي الرضائي يمكننا من تكسر رمزيته وبالتالي سيؤمن الطرفان بأن تدمير تلك البنية أفضل من بقائها منهكة متعبة للطرفين!

خضتُ معه في نقاش طويل؛ فرد عليّ قائلاً: سأختصر لك الموضوع بطريقة أخرى:

حين تتعطل سيارة أحدكم يأخذها إلى الميكانيكي المختص ويصرف وقتاً طويلاً عليها لإصلاحها، وربما ينجح وربما تتعطل مرة أخرى، وهكذا يدخل في دوامة التصليح.. لذلك نجد في بلدانكم الأم الكثير من السيارات المعطلة على الطرقات الخارجية، في حين يندر جداً جداً أن تجد ذلك على الطرق الهولندية.

فالميكانيكي الهولندي يرمي كل قطعة معطلة جانباً ويضع بدلاً منها قطعة جديدة أو ينصحك بتبديل المحرك أو رمي السيارة وشراء سيارة جديدة، ولا يضيع وقته بالتصليح ويوفر عليك نقودك في تصليح ما لا فائدة من تصليحه، أو ما لديه إمكانية عالية للتعطّل مرة أخرى!

يمكنك أن تطبّق، على سبيل المقارنة، ما نقوم به في مفهوم تصليح السارات وسواها على مفهوم الزواج، لا تضع وقتك في التصليح بل اصرف وقتك في شيء آخر مفيد، إذ يمكن لمعامل صهر الحديد أن تقوم بصهر سيارة الزواج ثانية، ويمكن لطرفيه أن يكونا سعيدين بعيداً عن بعضهما!

يتابع: أعلم أن علماء علم الاجتماع سيعقّدون كلامي ويطرحون نظريات عن المتغيرات والثوابت والمؤسسات والبنى الاجتماعية وسلم القيم والمجتمع الأبوي التراتبي والتعاقدي الفرداني الذي يتسم بقسوة القلب، لكن ألمه أقل، وهو مثله مثل مفهوم الموت الرحيم الذي يختاره كثير من الهولنديين طريقة لإنهاء حياتهم إنْ قرر الأطباء أن أعطال محركات الجسم لم تعد قابلة للإصلاح.

 وقد يكون شبيهاً لاختيار كثير منهم في مرحلة ما بعد الموت الحرق في الفرن بدلاً من الدفن التقليدي، فإن مات الجسد لا مشكلة ما يتعرض له، فالرمزية لا قيمة لها، الموضوع لا يتجاوز أن محركاً قد تعطل وانتهى دوره، فإن أرسلته إلى المحرقة أو دفنته في الأرض النهاية واحدة، لذلك كلا الأمرين ممنوعان في ثقافتكم السورية: الحرق والموت الرحيم، تفضلون المعاناة على النهاية، والاحتفاظ بالذكريات والوفاء لها مع الألم الشديد على النهايات الرحيمة!