القراءات الأميركية للشرق الأوسط

2024.01.15 | 05:22 دمشق

القراءات الأميركية للشرق الأوسط
+A
حجم الخط
-A

مما لا شك فيه بأن التباين الظاهر بين إدارتي جو بادين في البيت الأبيض، وبنيامين نتنياهو في حكومة اليمين المتطرف في تل أبيب، بات ظاهراً للعيان، فالكراهية المتبادلة بين الطرفين لم تعد سراً، حتى أن الزيارات الدبلوماسية انقطعت فيما بينهما حتى اندلاع معركة السابع من أكتوبر بتداعياتها لتهدد الأمن القومي الأميركي وثوابته. لتعود الرعاية الأميركية إلى مساراتها المعتادة.

ومما لا شك فيه بأن نتنياهو منحاز علانية في صداقة شخصية ومسار سياسي علني إلى إدارة دونالد ترامب، وحزبه الجمهوري، فالخيارات السياسية التي طرحها ترامب في تفضيل مصالح إسرائيل على مصالح الدول التي تتداخل في صراع سياسي ووجودي معها كانت جائرة إذا صح القول، نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بضم إسرائيل لهضبة الجولان السورية، وإنكار حقوق الشعب الفلسطيني، ورفض منح عملية السلام الحياد الضروري لإتمامها. فيما يتعلق بدول الطوق الأساسية في القضية الفلسطينية.

إن الحرب المستعرة في غزة، جعلت نتنياهو راغباً في توسيع نطاقها الإقليمي في محاولة منه للهروب من مأزق مواجهة لحظة إيقاف النار

ولكن ما حصل بعد السابع من أكتوبر جعل الولايات المتحدة بإدارة بادين مضطرة لاستئناف الدعم اللامحدود لحكومة نتنياهو، لتفادي حصول أي خلل في توازناتها الدولية، هذا لا يعني أن التفاهمات عادت بين الرجلين، بايدن يعتقد بضرورة لجم إيران عبر الدبلوماسية، وعلى ضرورة إعادتها إلى المسار الدولي فيما يخص مشروعها النووي، بينما يحلم نتنياهو بضرب المشروع الإيراني بغطاء أميركي، كي يتوج فترة حكمه التي تشبه دكتاتوريات الدول العربية ودول إفريقيا.

إن الحرب المستعرة في غزة، جعلت نتنياهو راغباً في توسيع نطاقها الإقليمي في محاولة منه للهروب من مأزق مواجهة لحظة إيقاف النار، والاعتراف بفشله كحكومة لم تجلب لشعبها تلك الوعود بالاستقرار والأمان، بعد إنكارها لحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة. فكلما زادت ضغوط الدول الأوروبية وأميركا على دول المنطقة من أجل ضبط النفس وعدم توسيع فرجار المعارك إقليمياً، زاد نتنياهو من الضغط عبر عمليات اغتيال وتفجيرات استفزازية هدفها على حد قوله: (إيجاد حل شامل لمشكلة الشرق الأوسط). لكن المقاربة الإيرانية التي تخشى بدورها الانخراط في حرب مفتوحة مع الولايات المتحدة، تتبنى أفكار بايدن وطرحه بضرورة عدم توسيع المعارك، إيران ثبتت مبدأ وقف إطلاق النار بين سوريا وإسرائيل المعمول به منذ حرب تشرين 73، ولم يخرق و لا مرة واحدة طوال خمسين عاماً، وهي أيضاً تمسك بقوة بقيادات حزب الله، وتنصحهم بعدم الانخراط في معركة مفتوحة مع إسرائيل، وتبرأت علانية من انخراطها في معركة السابع من أكتوبر، لكنها ومن أجل السياق الشعبوي الجماهيري الذي تعرف استخدامه بمهارة شديدة، كانت مضطرة للسماح للحوثيين بالقيام بأعمال قرصنة في البحر الأحمر كي تقنع جمهورها بأنها تقوم بضغط ما على المجتمع الدولي من أجل وقف النار، وهي في ذات الوقت تسعى لبناء قنبلتها النووية التي ستحمي ثورتها الدينية إلى أمد طويل كما تتخيل.ولقد استلمت بقوة رسائل الوسطاء حول استهدافها من حاملات الطائرات في حال نشوب نزاع إقليمي أكبر من حرب غزة، لذلك تمارس طهران فيما يسمى بـ(حلف المقاومة) الصبر الاستراتيجي، الذي يرغب نتنياهو بتدميره قبل انتهاء الحرب وخروجه من السلطة، فهو يدرك بأن عدداً هائلاً من المحاكمات تنتظره حال انتهاء الحرب، لذلك يريد أن يقدم نفسه لجمهور اليمين المتدين في إسرائيل على أنه بطل استطاع (إنقاذ شعبه). إيران أُخطرت بقرار مجلس الأمن الذي تمت الموافقة عليه بالاجماع 2722، مع امتناع الصين وروسيا وليس رفضهما، القرار سيسمح باستخدام البند السابع (الذي يتيح استخدام القوة الدولية) ضد الحوثيين، روسيا والصين وافقتا، وبالطبع روسيا أخبرت إيران بضرورة التضحية بالحوثي في سبيل كسب أوراق أخرى وفق اتفاقيات دولية وبمعرفة أميركية. فالولايات المتحدة كانت قد أفرجت عن مليارات سبعة لصالح طهران قبل شهر كمكافأة لها على عدم تدخلها في حرب غزة، وها هي تستعد لتطبيق البند السابع ضد الحوثي في اليمن. ضمن ضربات مدروسة تهدف إلى تقليم حاد لأظافر الميليشيا الإيرانية في صنعاء.

بايدن من جهته لا يرغب في سنته الرئاسية الأخيرة بشن أية حروب قاسية قد تسبب دماراً كبيراً وخللاً في الميزان الاقتصادي العالمي، لذلك يسعى جاهداً لنقض سياسات الحزب الجمهوري ودونالد ترامب، عبر إكمال اتفاقيات ترسيم الحدود البرية مع حزب الله، ممثلاً عن لبنان، وعبر البحث بشكل جدي عن اليوم التالي لوقف الحرب في غزة، من خلال رسم خارطة طريق واضحة ترسم علاقة القطاع مع المنطقة بكاملها. تنتهي بإعلان قيام الدولة الفلسطينية. مستغلاً التضامن العالمي غير المسبوق مع القضية الفلسطينية، والتوافقات الدولية العابرة العامة في إعلان أنه لا حل في الشرق الأوسط إلا عبر مبدأ الدولتين.

تصطف إيران مع بايدن في خندق براغماتي واحد، ويصطف نتنياهو مع ترامب في خندق براغماتي آخر

من جهة أخرى ترامب يتوعد عبر سلسلة من الخطابات التحريضية، بأنه لن يسمح لإيران أن تبتز أميركا والعالم مجدداً، وبأنه سيسعى لحل جذري وحاسم فيما يخص الشرق الأوسط ولكن بطريقته، فإما الحسم العسكري أو الصفقات الكبرى، وهو يستغل ما تفعله طهران في تعطيل السفن التجارية في البحر الأحمر، للضغط على اللوبيات اليهودية في واشنطن، ولاقناعها بأن إدارة بادين ضعيفة وارتجالية، تعتمد على حلول هشة للمنطقة التي تحتاج إلى حسم عميق وأفكار جديدة لمشاكل قديمة.

وهكذا في ميدان السياسة تصطف إيران مع بايدن في خندق براغماتي واحد، ويصطف نتنياهو مع ترامب في خندق براغماتي آخر، في انتظار انتخابات رئاسية أميركية ستكون حاسمة، بينما يقف العرب والأوروبيون في منزلة وسطى في انتظار استقرار إقليمي يمنحهم الفرصة لإعادة البناء والاستثمار الاقتصادي.

الناطق باسم العمليات العسكرية الإسرائيلية تحدث عن توقعه لاستمرار المعارك طوال عام 2024، وبأن المرحلة الثالثة من المعارك قد بدأت عبر الانتقال إلى العمليات النوعية الخاصة، وهذا ما ترجم عملياً على الأرض عبر سلسلة من الاغتيالات القاسية التي كان هدفها تصفية قادة مما يسمى (حلف المقاومة) في دمشق والضاحية الجنوبية وحتى في بغداد، فهو يستغل معرفته بالالتزامات الإيرانية المقدمة عبر الوسطاء لإدارة بايدن بعدم التصعيد، ويرغب في اختبار الصبر الاستراتيجي لحكومة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي.

تبقى التناقضات الأساسية واضحة فيما بين حكومة اليمين في تل أبيب، وحكومة الديمقراطيين في واشنطن، محكومة باستراتيجيات التاريخ والجغرافيا والتوازنات الدولية، لكن مساحات الضغط المتبادلة بين الطرفين مفتوحة بشكل كبير، وقد تؤدي بتفاعلها مع حكومة اليمين المحافظ في طهران إلى تدمير المنطقة برمتها، إلا إن حصلت المعجزة بتوقف الحرب في غزة فوراً.