الغياب كحافز للحلم

2024.01.22 | 09:16 دمشق

آخر تحديث: 22.01.2024 | 09:57 دمشق

الغياب كحافز للحلم
+A
حجم الخط
-A

لا جديد للسوريين مع نهاية العام 2023، أو مع نهاية العام الثالث عشر على بداية ثورتهم ومطالباتهم بأبسط حقوق الحياة: الحرية والكرامة، كنقيض لحياة الذل التي فرضها نظام العائلة الأسدية منذ أكثر من خمسين عاماً ولا يزال. فالمأساة لا تزال مستمرة متمثلة ببقاء هذا النظام أولاً، ومحاولة التطبيع معه من أمثاله العرب، بعد أن حوّل البلد إلى "مسلخ بشري"، ومرتعاً للميليشيات الطائفية التي توزع كراهيتها في كل الاتجاهات، ناهيك عن تحويل سوريا إلى مركز لصناعة وتهريب المخدرات، وساحة للصراع والتنافس الإقليمي والدولي، أما السوريون الذي توزّعوا في كل بقاع الأرض، فحياتهم لا تهمّ، إذ غدوا كائنات زائدة عن اللزوم في كثير من الأماكن، وليس عليهم سوى اعتيادِ الغياب إلى أن يُعيدوا معنًى لحلمهم الذي انطلق عام 2011.

تمرّ السنون على السوريين بطريقة مختلفة عن غيرهم، وخصوصاً في الأعوام الأخيرة. فما يميز حياتهم دائماً هو الحنين إلى الماضي، ليس لأنه جميل، وإنما بسبب الخوف من المستقبل، فهم يدركون أن ما يعيشونه اللحظة تحت حكم الأسد وزبانيته يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ولن يؤدي سوى إلى الدمار، والتشريد، فطبيعة هذا النظام وتكوينه، إضافة إلى مصالحه وتوجهاته التي صنفت الناس إلى أعداء ما لم يكونوا مواطنين "شرفاء"، أي مخبرين، لن توصل إلا إلى تغييب الآخرين، أي "الأعداء"، وهم غالبية السوريين. والتغييب هذا يقتضي غير التهجير والنفي والاعتقال والتجويع والحصار، القتل المباشر وبالوسائل التي لا تقلق العالم المتحضر، الذي صنّف -كما يبدو من مواقفه طوال السنوات الثلاثة عشر- سوريا على أنها ملكيةٌ للأسد.

كثيرون يقولون إن الوطن هو ما يوفر لك العيش بحرية وكرامة، وهذا صحيح، لكن بالنسبة للسوريين هل تجذّر هذا المعنى في وجدانهم، أم إنه مجرد محاولة للنسيان واعتياد الغياب، والانشغال بأمور الحياة اليومية؟

ما بقي للسوريين بعد أعوامهم الثلاثة عشر الماضية، وهي الأعوام التي يمكن أن تؤرخ بداية حياتهم كمحاولة لأن يكونوا فاعلين فيها، رغم رفض القوى المتوحشة الدولية، الذي يتجلى بغياب المواقف الجدية لكبح ممارسات الأسد وإجباره على القبول بحل سياسي، هو الحزن الناتج عن استحالة العودة إلى البلد التي شردهم منها بقوة السلاح نظام الأسد، متوزعين على كل بقاع الأرض، فلا تكاد ترى عائلة واحدة كاملة مجتمعة في مكان واحد، صلتهم الوحيدة هي جهاز الهاتف "الذكي"، حيث يتبادلون عبره السلام والتحيات، يطمئنون بعضهم بعضاً، مدَّعين بأن حياتهم مريحة، رغم معرفتهم أنها غير ذلك، يجمعهم الحزن والحنين لبلدهم، مع أن ظروف معيشتهم في تلك البلدان أفضل، لكن تبقى سوريا بالنسبة إليهم هي الأجمل!

قد يستدعي هذا معنى جديداً للوطن، فكثيرون يقولون إن الوطن هو ما يوفر لك العيش بحرية وكرامة، وهذا صحيح، لكن بالنسبة للسوريين هل تجذّر هذا المعنى في وجدانهم، أم إنه مجرد محاولة للنسيان واعتياد الغياب، والانشغال بأمور الحياة اليومية؟ فحنين السوريين يشير إلى أن الوطن يتجاوز المكان وحتى ظروف العيش، رغم أهميتهما، إلى الوطن كذكريات، كمكان وزمان، وهو ما نراه يتكرر لديهم في أي بقعة من العالم عندما يقارنونها بمدينتهم، بحيّهم، فكثيرون يقارنون غازي عنتاب بمدينة حلب، قائلين إن عنتاب تشبه حلب، بل إنها حلب الصغرى. أما نمط الغذاء وثقافته فقد حملوها معهم ونشروها في معظم أماكن وجودهم، وفي كثير من الأحيان عرّفت سكان البلدان هذه بسوريا. وطن السوري ذكرياته، أكثر من ظروف العيش.

هذا الحنين الناتج عن استحالة العودة اليوم، لظروف عديدة، والمعاملة القاسية التي يلقاها السوريين في أكثر من مكان، يشكلان عامل توحيد للسوريين ودافعاً كبيراً نحو إعادة المعنى للحلم الذي انطلق عام 2011. صحيح أن السوريين يعيشون اليوم في حالة قصوى من اليأس، حالة تلتهم بنيرانها تفاصيلهم الصغيرة، لكن يمكن تحويلها إلى حافز يعيد الحلم، فما يقتل الشعوب وثوراتها ليس فظاعة العدو وقدرته على القتل فقط، وإنما غياب الدافع والحلم لدى الشعوب. وفي سوريا سعت ولا تزال أطراف عديدة إلى سلب السوريين حلمهم الذي قدّموا تضحيات كبرى في سبيله، وأول ما يستلزمه هذا الحلم هو التطبيع بين السوريين التواقين للحرية والكرامة والخروج من عباءة العمل بالوكالة، والتجمع ضمن أطر عمل مدنية وسياسية فعالة.

تعيش سوريا اليوم ظروفاً مرعبة، تهدد بقاءها بالكامل. فهناك بالفعل أربع مناطق مختلفة في مناهج التعليم وذات "جيوش" وشرطة وعُملة وحتى أعلام ورايات مختلفة، يحكم كلاً منها أمراء وزعماء ومخابرات، يعملون بالوكالة، والأهم من ذلك أن كل منطقة لها حدود ومعابر وجمارك، لكن جميعها من ورق لأنها قائمة بفضل الداعم الخارجي، لكن هذا الحال رغم هشاشته ينبغي ألا يدفع نحو الاستهانة بها، إذ يمكن أن يتحوّل إلى واقع، خاصة إذا استذكرنا أن هذه الكيانات التي كانت قائمة في المشرق العربي قد تم رسم الحدود فيما بينها من قبل جغرافيي ومخابرات القوى الاستعمارية (بريطانيا وفرنسا) قبل مئة عام، وليست نتاج تطور وصراع في البلدان ذاتها، وأن موقف الدول الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة المتربعة حتى اليوم على عرش الهيمنة الدولية، غير بعيد عن هذا التوجه: التشجيع على تكوين كيانات تحكمها بالقوة أقليات مذهبية أو إثنية، أي ألا تبقى سوريا موحّدة.

يختزن الغياب قوة كبرى عبر ما يخلقه من حنين إلى ماض ذهب، وإلى خلق مستقبل أفضل، وشرط امتلاك هذه القوة هو امتلاك لحظة الحاضر، كلحظة مستمرة للحلم بالتحرر

قد يبدو هذا الأمر ضرباً من الخيال، لكن تاريخ نشوء الكيانات وخاصة في منطقتنا يعتمد كثيراً على من يمتلك قوة الإخضاع للمنافسين، واعتراف الخارج به واحتوائه، والفائز لا يهمّه التاريخ والذكريات، وقبل كل شيء البشر، وهو ما نشهده اليوم، فرغم ادعاءات كثيرين من "حكام اللحظة" وخطابهم نحو سوريا موحدة، أيا كانت ديمقراطية أم إسلامية أم دكتاتورية، فإنهم يتصرفون كحكام لمناطق مختلفة ويرسّخون التباعد ويغذّون الكراهية والعداوات بخطاب أيديولوجي مقيت، وحتى لا يتحول هذا الأمر إلى واقع، يمكن للسوريين من خلال البحث عما يجمع بينهم، وخاصة الغياب والذكريات والحنين، وإعادة الحياة للحلم، فمن دون الأحلام الكبيرة تضيع الثورات والشعوب، وتبقى فريسة لقوى التوحش التي لا تتعامل مع القضية السورية سوى كورقة مصلحة يمكن أن تساوم عليها في أي وقت تقتضيه مصالحها، ومن جملة ما تقتضيه من أمور قد يكون ترسيخ الانقسام القائم، أو الاستمرار في تغييب السوريين عن بلدهم.

يختزن الغياب قوة كبرى عبر ما يخلقه من حنين إلى ماض ذهب، وإلى خلق مستقبل أفضل، وشرط امتلاك هذه القوة هو امتلاك لحظة الحاضر، كلحظة مستمرة للحلم بالتحرر، من دون الالتفات كثيراً إلى الظواهر القائمة، فهي طبيعية في تاريخ الثورات وعابرة، رغم سعيها مع رعاتها لقتل الحلم ومحو الذكريات التي لا تزال تشكل أكبر دافع للتحرر، وفي الوقت نفسه عائقاً أمام من يسعى للخلاص من هذا الحلم.