العيش بحاستين فقط

2023.05.13 | 06:00 دمشق

العيش بحاستين فقط
+A
حجم الخط
-A

نعيش في مدافن زجاجية فولاذية، ونحيا في قماقم هواتفنا اللامعة، ونتبادل الكلام عبرها بالعلامات الملونة، و"مساحيق الهمس"، ورموز الإيموجي مثل شعوب الكهوف، ونتحايا تحياتٍ متقنة الصناعة، قشيبة، مصورة، وأحيانًا متحركة بآلات التطبيقات الكثيرة، مبذولة ورخيصة في المتاجر الإلكترونية، أو مأخوذة من سوق الخميس الإلكتروني، ومستعملة من بالة الرسائل المحولة، ترسل للأصدقاء مصحوبة بعواطف إنشائية فارهة وفاخرة، تتحدث عن الأشواق والتمنيات، ونتبادل كثيرًا من الأكاذيب، والصور المزورة، ليس آخرها صورة فازت بجائزة عالمية تبيّن أنها صورة صنعها الذكاء الصناعي المحتال.

 تؤلمنا ظهورنا من الجلوس على كراسي حلاقة العقل لا من ركوب الخيل، متحجرين أمام الشاشات الصغيرة المشعة.

 تؤلمنا رقابنا من التصلب، لا من رفع رؤوسنا عاليًا.

تحمر عيوننا المحرومة جفونها من توق العناقِ ورحمة الأطباق، من عنت النظر إلى سيول الصور والأفلام.

 عواطفنا من غير طعم

 مشاعرنا من ريح

 أشواقنا من غير لون، لا تلبث في الذاكرة، فلا يستقر فيها إلا ما خبرته الحواس الخمس، شمًا ولمسًا وملحًا وخبزًا وزيتونًا ونخلًا وحدائق غلبًا، فهي صور تبصر بالعين المحمرة المندهشة، سيل من الصور والأخبار يدفع سيولًا أخرى. والعين لا تشبع، فليس لها معدة ولا أمعاء.

جاهر أحد الأصدقاء "من خلال الواتساب" بما يجول في نفسه من استصغار للعواطف الإلكترونية المبذولة والرخيصة، فرفع شعارًا تحذيريًا على أسكفة مكان إقامته الإلكترونية: أرجو من الأصدقاء عدم إرسال رسائل محوّلة، تحت طائلة الحجر والمقاطعة

تضعف العاطفة في مخيمات الهواتف الإلكترونية، ومساكن وسائل التواصل. والأصدقاء عند كاتب السطور في حارة الواتساب "التحتاني"، حسب الظهور، من يطفو على السطح يناله نصيبٌ من التحية وحظٌّ من المعايدة، ومن يرسب في أسفل القائمة يغرق في غياهب الضياع ولجة الفقدان.

جاهر أحد الأصدقاء "من خلال الواتساب" بما يجول في نفسه من استصغار للعواطف الإلكترونية المبذولة والرخيصة، فرفع شعارًا تحذيريًا على أسكفة مكان إقامته الإلكترونية: أرجو من الأصدقاء عدم إرسال رسائل محوّلة، تحت طائلة الحجر والمقاطعة.

المنافرات الحقيقية والمناظرات العقلية في اليوتيوب مفقودة، والقنوات بمئات الملايين، والحوار السياسي معدوم ويحتاج إلى مؤتمرات يقص الرئيس شريطها الحريري، فمن شاء الرد قصف خصمه من جبهة صفحته أو قناته، فنحن في عصر بات لكل شخص جبهة بثٍّ تلفزيوني!

والعناوين أكثرها مثير مساق إلى أقصى الإثارة: خبر صادم، خبر عجيب، خبر من العيار الثقيل، النظام يترنح، أمسى شعار "مش ح تقدر تغمض عينيك" شعارًا كل قناة، فالجميع يريدون جباية المشاهدات، لا تنسَ الدعم، اعمل شير، دوس لايك.

لي صديق يرسل لي فيديوهات، لإقناعي بأن صاحب الفيديو يأتي بالبراهين والآيات العقلية على صدق حجته، فأرد عليه بأخرى مضادة، فلا هو يقتنع بالفيديوهات التي أرسلها، ولا أنا أقنع بها، ولا الليل سابق النهار، فقد تساوى الشحم والورم، البصر والعمى، الظلمات والنور.

في زمان الطفولة في مرابع الفيس بوك، نقلت رسمًا لخريطة عربية رسمها الرحالة المغربي الشريف الإدريسي، وإفرنجية تخيلها عقل الفرنجة في ذلك العصر، على صفحتي، وقد جعلتنا وسائل التواصل نسبح في بحر طام من حرية، نستعرض ألعابنا وأطعمتنا وثيابنا وزوجاتنا الجميلات، ثمة من كبر وعقل ورشد، لكن أكثر الناس ما زال مثل شادي عم يلعب عسكر، وقلت معجبًا من عبقرية الإدريسي: كأن صاحبها رسمها من قمر صناعي، لقربها من الحقيقة، ويقال إنه رسمها بعد تسع سنوات من الترحال، أما راسم خريطة العالم في أوروبا، فرسم خريطة العالم من خيال أسطوري على شكل وردة لوتس، لكن صاحبي لم يقتنع.

لم أر أحدًا في وسائل التواصل يقنع خصمه بحجته، فنحن في فقاعات فولاذية، ومتحزبون في عصر الثورة الإلكترونية، لا نحيد عن حصوننا العقلية والفكرية والعصبية قيد أنملة، الصداقات سهلة ومؤقتة، والعداوات على أشدِّها، وأكثر الناس علماء وفقهاء ومفتون، يعطس أحدهم، فيخرج من يقول: ما أجمل هذا الموال وأندى هذه العقيرة.

من يأكل على مائدة مفتوحة سيأكل من كل طعام لقمة غير متمتع بأي طعام، لقمة واحدة لا تصنع لذة، وحبيبات كثيرات لا تؤلف حبًا، وهكذا حالنا في موائد وسائل التواصل الحديثة، نلتقم من كل مائدة لقمة، ومن كل قضية خبرًا، ومن كل علم شذرة، فنظنُّ أننا أحطنا بكل شيء علمًا.

ذكر المؤرخون أن هوشي مينة عندما تحررت فيتنام، دخل إلى ثكنات الأميركيين المتقهقرين، ورأى آلاتهم قال: عرفت الآن لمَ هم أغبياء

نزع راشدون من أهل أوروبا، مؤخرًا، إلى الطعام البيولوجي، أي الصحي الحيوي، النزيه من السماد، الشبعان من الشمس، والنامي في حضن أمه الطبيعية لا في الأحواض الزجاجية، واتجهت مدارس في الغرب إلى تعليم أطفال كما الأوائل بالقلم والخط والحفظ بعيدًا عن الآلات وأجهزة التابلت، فقد نسي الجيل الجديد المهارات البشرية، فالإنسان المعاصر لا يحسن إجراء عملية حسابية بسيطة، ويفزع إلى استخدام الآلة التي لو فقدها ضاع، ونسي القلم.

تزمع ألمانيا التحول من العملة الورقية إلى العملة الرقمية، والعملة المعدنية والورقية لوحات وذكريات. أمس تعطل هاتفي الذي ادخرت عليه بطاقة السفر، فوقعت في الفخ.

ذكر المؤرخون أن هوشي مينة عندما تحررت فيتنام، دخل إلى ثكنات الأميركيين المتقهقرين، ورأى آلاتهم قال: عرفت الآن لمَ هم أغبياء.

وصلت قبل قليل وصية ميراثها، كتبتها طفلة من غزة، بخطها البريء وهي توصي بمالها المدّخر في حصالتها:

45 شيكلًا لصاحباتها وأصحابها وأهلها؛ هبة وثيتا ومنة وهاشم، وخالتو مريم وخالتو سارة.

 وبألعابي وجميع أغراضي: لزينة ومريم ومنة.

 وبثيابي لبنات عمي

 وبأحذية (4): للمساكين.

فتصدع قلبي من الفرح ثلاثاً: مرةً للقلم ولوحة الخط الندي الذي خطته أنامل الطفلة الغزيّة، ومرةً لشجاعة الطفلة وكرمها، ومرةً للبراءة والطفولة المفقودة.

وصية طفلة من غزة