الضحك في خدمة الطغيان

2021.10.09 | 07:24 دمشق

doraid-laham.jpg
+A
حجم الخط
-A

كل سلاح له حدان، وكذلك الضحك، والسوريون يقولون بعد كل ضحكة: "الله يعطينا خير ها الضحك" تعوذًا من الإفراط والإسراف في الفرح، فهم يدركون بميراثهم أن للضحك شرًا ضامرًا إن زاد، والشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وأحسب أن عصر النجم الممثل ولّى بعد ظهور القنوات الخاصة واستغنى الإنسان عن تلفزيون النظام الذي لم يكن يبثّ شيئًا إلا برضاه. قال الناقد الروسي ميخائيل باختين إن الضحك يدمر الطغيان، يقصد أن السخرية من الطغيان تدمّره، لكننا وجدنا أن الضحك يشدّ بنيان الطغيان، بل إن الطغيان استطاع أن يدمّر الثورات بالضحك منها، وقد عاش نظامان عربيان بدعامتيّ الخوف والضحك، وهما النظام المصري والنظام السوري، وعرفنا كثيرًا من الطرائف التي أنجت أصحابها، مثل ذلك الرجل الذي  تنبأ وادّعى أنه موسى بن عمران. فبلغ خبره الخليفة، فأحضره وقال له: من أنت؟ قال: أنا موسى بن عمران الكليم. قال (ساخرًا): وهذه عصاك التي صارت ثعبانًا! قال نعم. قال: فألقها من يدك ومُرها أن تصير ثعبانًا كما فعل موسى. قال: قل أنت "أنا ربكم الأعلى" كما قال فرعون حتى أُصيّر عصاي ثعبانًا كما فعل موسى. فضحك الخليفة منه واستظرفه. لقد كانت حيلة منه حتى يمثل بين يديه ويأكل من مائدته. الرجل كان جائعًا.

لم أقع مرة على دريد لحام يروي نكتة ظريفة حية تسعى على الشاشة، فكل نكاته الشهيرة كتبها له سحرة مثل نهاد قلعي أو محمد الماغوط وهو يؤديها أو يرويها

وهناك المئات من المتظاهرين على الخلفاء والثائرين على الأمراء نجوا من القتل لأنهم صدقوا، والأمثلة كثيرة. وقد شهدّتُ عشرات الاعترافات للناجين من معتقلات النظام السوري فداء، أو بعد قضاء أحقابٍ فيها، فلم أقع على رجل استُطرف مرة فنجا من العقوبة، فإما أن السجانين لا يتذوقون الطرفة، وإما أن المعتقلين يفقدون هبة الطرافة في السجون لشدة بطش النظام، ولم أقع مرة على دريد لحام يروي نكتة ظريفة حية تسعى على الشاشة، فكل نكاته الشهيرة كتبها له سحرة مثل نهاد قلعي أو محمد الماغوط وهو يؤديها أو يرويها.

بات السلطان في زماننا بغنى عن تهاريج المهرج، فكل المذيعين يهرّجون له، بل إنه نفسه غدا مهرجًا، والأمثلة ظاهرة في مثال رئيس مصر عبد الفتاح السيسي الذي خنق مصر، ورئيس تونس قيس سعيد الذي أكل الدستور، وبدرجة أقل مع بشار الأسد، وذلك لشدة بطشه، ويعزو العقاد سبب شيوع الفكاهة وغلبتها على الجد أن الجد تكليف ولا جديد فيه، وأن الفكاهة اختيارية، وبهذا المعنى وأمثاله قال أبو العلاء المعري الفيلسوف في بيت شهير: إنّ حُزْناً في ساعةِ المَوْتِ       أضْعَافُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ

 الحزن أصل والفرح طارئ، الجدّ شجرة والهزل ثمرة لا تحلو إلا بشمس الرضا والسعادة.

وتزعم نظريات ألمانية في منشأ الضحك أن مصدره هو العدوان والحرب، فالمنتصر يضحك ساعة النصر وزعم نيتشه أن الضحك تعبير عن الألم، وهو ما عبّر عنه أبو العلاء بقوله:

 فلا تحسبوا دمعي لوجدٍ وجدته

 فقد تدمع الأحداق من كثرة الضحكِ

 وللمتنبي بيت مشابه في تمثيل المعنى، يقول:

لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربًا ...

 فالطير يرقص مذبوحًا من الألم

  فالألم أحد مصادر الضحك، وليس كلها، وقد التبس الأمر على السيد نيشته.

لعل أسوأ ما يقوم به المرء هو أن يروي نكتة قديمة في عصر النكتة، لأن المستمع يصاب بخيبة أمل كبيرة وينكسر، والنكتة سريعة الشيوع، إن عصرنا عصر الهزائم والنكسات والجوع والفقر والخوف، وهو عصر عادل إمام الذي لُقّب بالزعيم، وصبغ ثلاثة عقود بصبغة النكتة، وكان قد اشترط  لزيارة  تونس أن يستقبله  رئيسها، فاستقبله الرئيس الباجي قايد السبسي، وشاهدناهما وهما يرويان نكتة قديمة من مسرحياته، وشهدنا نكاته في خطبة لعلي عبد الله صالح، ورواها رواية خاطئة، فلم يستطع لفظ جملة عادل إمام المصرية لفظها الصحيح،  فأضحك الشعب لله درّه، أما غوار الذي انتهى بموت شريكه حسني ومؤلف نصوصه، فقد أحبّ أن يثير الجمهور المصري بمناسبة تكريمه، ولم يكن متهمًا حتى ينجو من القتل، بل أراد أن ينال جائزة التصفيق، فروى نكتة قديمة للجمهور المصري الذي لا يعرف مسرحياته، فالجمهور المصري جمهور مكتفٍ بفنه، وكانت النكتة من مسرحية تعود إلى خمس وثلاثين سنة، فقال وهو يروي قصة عن حفيده الذي خاف من الرعد، وخاطب ربه معاتبًا عن سبب إخافته مع أنه يحبه، ثم قال دريد لحام بلسان يقطر حكمة وعلمًا: إنه يخاف من المخابرات أكثر من الله، والنكتة القديمة هي أنه لا يخاف سوى الله والمخابرات، وقد قدّم الله على المخابرات، فكانت الطرافة هي الجمع بين الذات العلية والمخابرات المفترية، وعطف على الدين ووعظنا قائلًا: إن الله محبة، وأنكر على الناس الذين يعلقون في مكاتبهم عبارة شائعة: وهي رأس الحكمة مخافة الله، ووجد صاحب الفتوحات غير المكية أن رأس الحكمة محبة الله. فنال بعض التصفيق من الحضور الذي جامل ضيفه، لكنه قول غريب من فنان يعرف أسماء الله الحسنى وبينها القهار والجبار وشديد العقاب وذو الطول، وليس من بين أسمائه اسم واحد هو الحب أو المحبة، وإن كان اسم الجلالة الرحمن أشرف من ألفاظ الحب وأعمّ، وأظن أنه قرأ في القرآن الكريم أو سمع آياته، التي أوردت التقوى نحو ثلاثمئة مرة، أما الحب فلم يذكر في القرآن سوى بضع مرات وفي سياق التقوى غالبا.

النكتة العربية دعمت الطغيان كثيرًا، خاصة في سوريا ومصر، كما انتهى الشيوخ ظرفاء وفنانين في فن الدعابة الواعظة، وتبادلوا أدوار لعبة الكراسي غير الموسيقية

وكانت وظيفة الفنان دريد لحام أن ينتقد السلطة أو حاشية السلطة فوق خشبة المسرح، ويلوم الشعب باقي أيام السنة مدافعًا عن السلطة، حتى يعتذر عما قاله في المسرحية مستغفرًا لذنوبه فوق المنصة، وخلاصة القول: إن الكوميدي العربي يجبن عن نقد السلطان ويجترئ على الخالق الديّان. وقد انتهى واعظًا، وإن النكتة العربية دعمت الطغيان كثيرًا، خاصة في سوريا ومصر، كما انتهى الشيوخ ظرفاء وفنانين في فن الدعابة الواعظة، وتبادلوا أدوار لعبة الكراسي غير الموسيقية.

 ورأيت لدريد لحام فيديو على اليوتيوب بعنوان خادع يقول: دريد لحام يعتذر من صديقه نهاد قلعي، وفيه سأل المذيع الذي كان يمسك بالمكروفون كأنه شوكة طعام وقد تخشبت يده، عن اعتذار ما يقدمه لأحد ما، فقال إنه يعتذر من نهاد قلعي، واجتهد فقال إنه لن يصفه بالمرحوم لأنه لم يمت، أما سبب اعتذاره منه فهو مقالبه التي آذاه فيها، فقد أسرف فيها أذى وضرًا، وهي من تأليف نهاد قلعي.

والضحك له عتبة، فإن تجاوزها انقلب إلى ضده وصار مسخرة.

 والعتبة قزاز والسلمّ نايلو نايلو.