الشمال السوري.. بين الحلم والواقع

2023.12.25 | 06:16 دمشق

آخر تحديث: 25.12.2023 | 06:16 دمشق

الشمال السوري.. بين الحلم والواقع
+A
حجم الخط
-A

في الطريق بين جرابلس، البلدة الصغيرة التي تقع غرب الفرات، التي تحولت اليوم إلى معبر يضجّ بالحركة بالاتجاهين بين تركيا وسوريا، سواء للبشر أو البضائع، ومدينة اعزاز التي توسعت بشكل مخيف من ناحية البناء على حساب الأراضي الزراعية، والتي أصبحت مدينة مكتظة بالبشر والآليات، كما أنها المدينة الأقرب لمعبر باب السلامة الحدودي مع تركيا الذي غزت أطرافه المخيمات، على هذا الطريق، يمكنك مشاهدة ورصد كثير من آلام السوريين، كما يمكن أن ترصد الخيبة والآسى في عيونهم التي تعوم فيها قصص البدايات التي مضى عليها اثنا عشر عاماً، والحال الذي يعيشونه اليوم، وما يحلمون به غداً.

أول ما يلفت الانتباه، عند وصولك لمحطة سفر جرابلس، هو ما يُطلَق عليهم "المرحّلين"، وهم الشباب الذين دخلوا تركيا بشكل غير "نظامي"، أو سُجّلت بحقّهم مخالفات معينة أو لا يملكون بطاقة الحماية المؤقتة "كيملك"، حيث تقوم السلطات التركية ضمن حملاتها لضبط الهجرة غير "الشرعية" بترحيلهم للشمال السوري، فهؤلاء تبدأ حكايتهم من لحظة الوصول إلى المعبر، حيث يتم التأكد من شخصياتهم وتسليمهم إيصالاً من دون صورة، يدوّن عليه الاسم والمنطقة بحسب ما يقدّمها "المرحَّل"، تليها دخولهم إلى "الكراجات"، حيث يرفض سائقو السيارات نقلهم لأسباب مختلفة، فعدا أن بعضهم لا يملك حتى أجرة الطريق، يتلقون معاملة قاسية على الطريق الممتلئ بالحواجز، فهم موضع شبهة من تلك الحواجز، حيث تدعي تلك الحواجز أنها تقوم بالتأكد من شخصيتهم التي لا يملكون من وثيقة إثبات لها سوى الاسم المدون على الإيصال، وهذا ما يجعله مثار شبهة، ويطيل زمن الطريق.

هل يستحق السوريون مثل هذا التعامل بعد كل ما حلّ بهم من اعتقال وقتل وتهجير، وكل ما قدّموه من تضحيات؟ هل هذه مآلات الحلم الذي خرجنا من أجله؟ بالطبع، تبقى أسئلة بلا إجابات تعتصر القلوب ألماً

يتكرر هذا الفعل طوال الطريق الذي لا يتجاوز (80) كيلومتراً بين المدينتين، إذ تتكرر العملية عند كل حاجز، وما أكثرها (15) حاجزاً، مع بعض الاختلافات بين حاجز وآخر تبعاً للأشخاص أو للفصيل الذي يتبعون إليه، ناهيك عن المطبّات الصناعية على هذه الطريق التي تتجاوز عدد الحواجز بأضعاف، حيث تبلغ (103) مطبات، مما يجعل من هذا السفر عملاً مرهقاً ويستغرق نحو (4) ساعات. بالطبع تترك تلك التصرفات انطباعات مختلفة بين المسافرين، سواء أكانوا من المرحلين أو من الزائرين، وأكثر تلك الانطباعات ليست إيجابية، وكثير منها يعبر عنه بالتحسّر، متسائلين هل يستحق السوريون مثل هذا التعامل بعد كل ما حلّ بهم من اعتقال وقتل وتهجير، وكل ما قدّموه من تضحيات؟ هل هذه مآلات الحلم الذي خرجنا من أجله؟ بالطبع، تبقى أسئلة بلا إجابات تعتصر القلوب ألماً.

ما يلفت الانتباه في هذا الطريق، المدارس الخاصة التي انتشرت بشكل كبير، حتى في القرى الممتدة على طرفي الطريق، أما عند وصولك إلى المدن والبلدات، وخاصة الكبيرة منها مثل اعزاز، فسترى الأمر عادياً، حيث أصبحت إحدى المشاريع الاستثمارية، مثل المطاعم ومحال بيع الهواتف، إذ يتجاوز عددها في مدينة اعزاز العشرات، ناهيك عن المعاهد (دورات التقوية) كما يطلقون عليها، وكلها مدفوعة الأجر بالطبع، ولدى الحديث مع بعض الطلبة أو أوليائهم عن السبب وراء انتشار هذه المدارس، يأتيك الجواب مكثفاً لكنه يلخّص الحال: التعليم في المدارس العامة يتناسب مع مقدار ما يتلقونه من راتب! هذا مع اختلاف في المناهج والامتحانات ونظام العمل (الدوام)، ناهيك عن النقص الكبير في المدرسين المختصين.

يشكل التعليم أحد أهم الركائز الأساسية في نهضة أي بلد، لكن في الشمال حاله مأساوي، فعدا الظروف التي تمنع الاعتراف به، يعاني قطاع التعليم من تعدد الجهات المشرفة، رغم أنها تتبع في النهاية لجهة واحدة، وزارة الإدارة المحلية، وهي المجالس المحلية المعينة التي تشرف بدورها على مكتب تربوي أطلقوا عليه تسمية أكبر، وهي مديرية التربية. يتقاضى المعلمون راتباً أو أجراً شهرياً -فعدا ظروف تحصيله المرهقة عبر مكتب البريد (ptt)، وتلك قصة أخرى- لا يكفي هذا الراتب البالغ (2000) ليرة تركية، أي ما يعادل اليوم نحو (70) دولارًا، نتيجة حالة الغلاء القائمة هناك، وفق رأي المعلمين مصروف أسبوع واحد، وللتذكير كمثال عن الأسعار المرتفعة مقارنة بالدخل (أنبوبة الغاز: 400 ل. ت، والكهرباء 3 ليرات لكل ك.و.س، وليتر المازوت المكرر محلياً (20) ليرة).

ينفطر القلب عند الدخول إلى المخيمات التي تفتقر لكثير من البنى التحتية، فمنها ما لا يزال موزعاً بين أشجار الزيتون، حيث تتكرر معاناة سكانها كل شتاء من دون أن تلقى استجابة معقولة

نتيجة للظروف السياسية والأمنية السائدة في المنطقة، يكاد الاستثمار أن ينحصر بأمور قليلة ولا يتجاوز العمليات التجارية المتوزعة على المطاعم والمتاجر الصغيرة، أما الصناعة فما زالت بعيدة عن المنطقة، فرغم بناء مدن صناعية، فإن غالبية الأبنية تحولت إلى مستودعات لتخزين بضائع أو مواد مستوردة، في حين أنَّ عدد المعامل لا يتجاوز أصابع اليد. في هذه الظروف، تبدو القطاعات التي تجذب الشباب بشكل كبير محصورة بفئات ثلاث: التعليم، وسلك الشرطة، والتطوع مع الفصائل العسكرية، حيث يتقاضى العاملون في التعليم والشرطة نفس الراتب تقريباً، بينما ينخفض إلى النصف بين عناصر الفصائل، وهذا قد يكون أحد الأسباب في حالة الفوضى التي تعيشها المنطقة.

ينفطر القلب عند الدخول إلى المخيمات التي تفتقر لكثير من البنى التحتية، فمنها ما لا يزال موزعاً بين أشجار الزيتون، حيث تتكرر معاناة سكانها كل شتاء من دون أن تلقى استجابة معقولة، أما المخيمات "النظامية"، مع أنها أفضل قليلاً من سابقاتها، فإنها كذلك في قلب المأساة، وخاصة في ظل تخفيض مستوى الدعم المقدم من المنظمات الدولية، وبالتالي تقلص الدعم (السلة الغذائية) من حيث المحتوى وزيادة الزمن الفاصل بين التوزيع، أما المياه فبعضها تأتي كل ثلاثة أيام لمدة نصف ساعة فقط، وهذا يكفي لتصور مدى المعاناة، ناهيك عن  ارتفاع أسعار مقومات الحياة عموماً في المنطقة.

يهدف الحديث رغم ألمه عن حال الشمال إلى ضرورة الاهتمام من الجهات المشرفة بأحوال الناس ومعاشهم، والعمل على بناء بعضٍ من مقومات الحياة، والتعامل مع فعاليات ومؤسسات المنطقة كبنى مدنية فاعلة وخاصة النقابات والجمعيات، كبنى مدنية للمجتمع تشترك مع "السلطات" في مساعدة البشر على تحمل هذا الطريق الطويل: طريق الآلام نحو الحرية، بعيداً عن كونه طريق مطباتٍ وحواجز..