السويداء: مَن يطلق الرصاصة الثانية؟

2024.03.12 | 07:20 دمشق

9898
+A
حجم الخط
-A

إذا كان هناك تشابهات كثيرة في بدايات الاحتجاجات في السويداء مع شقيقتها السابقة عام 2011 في الشكل والمضمون، فإن هناك أيضاً تطابقات كبيرة في تصرفات نظام الأسد تجاه الاثنتين رغم اختلاف المكان والزمان، والوضع الإثني والاجتماعي والظروف السياسية والإقليمية والدولية بين عام 2011 وَ 2023. هذا يطرح التساؤلات عن مصير الانتفاضة الحالية مقارنة بسابقتها.

بدأت احتجاجات السويداء مطلبية ثم سرعان ما تحولت إلى إسقاط الحكومة، فإسقاط النظام، وتحميل رأس النظام مسؤولية ما يحدث. تكررت فكرة التأكيد على سلمية المظاهرات واستمرت تلك السلمية عدة أشهر، وتكررت فكرة تجاهل الأسد لتلك السلمية واستغلالها في المواجهة عبر طرح حلول جزئية تهدف إلى المماطلة وشراء الزمن أكثر منها إلى إيجاد حلول حقيقية. 

ربما اختلفت قدرة النظام على تقديم الحلول الخدمية بين 2011 و2023. لكن عجز النظام السياسي عن تلبية المطالب الشعبية الجوهرية في كلتا الحالتين واحد: لا يمكن إيقاف تغول المافيا التي تُسمّى "نظام سياسي مغلّفة بحكومة"، كما لا يمكن تغيير الطبيعة الأمنية لحكم الأسد مع ما يعنيه بقاء الأسد وأركانه في السلطة مع تبعاته الحقوقية والاقتصادية والسياسية. كما لا يمكن لنظام الأسد تفعيل دور القانون في كلتا حالتي 2011 وَ 2023؛ لأنه سيفتح على نفسه باب المحاسبة الذي سيتطور حتماً إلى فتح ملفي القتل والاعتقال في فترة ما قبل 2011 وفي فترة ما قبل 2023، إضافة إلى النهب المنظم والممنهج للاقتصاد السوري، والذي سنكتشف أنه برعاية شخصية من عائلة الأسد.   

استمرار مظاهرات 2011 السلمية عدة أشهر، وتأكيد الناشطين والمتظاهرين والنخبة المساندة لها على سلمية المظاهرات، ومطالباتهم بالحرية والمساواة وسيادة القانون ذهبت أدراج الرياح. وهتافاتهم واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد لم تسمعه سلطة دمشق، وتم الدوس على الزهور التي تم تقديمها لعناصر الأمن والجيش. أتذكر جيداً "الكفّ" الذي أكله أحد الشباب من قِبَلِ عنصر أمن، عقب تقديمه له وردة، ثم تناوبت المجموعة على ضربه وركله وسحقه وجرجرته حتى إدخاله سيارة الأمن. العقيدة الأمنية لأركان الأسد مؤسسة أصلاً على مواجهة الشعب وليس الأخطار الخارجية.

اختلفت تفاصيل ردّ نظام الأسد في 2023 ولكن المبدأ واحد: النظام الأمني باقٍ، ولا يمكن تقديم كثير حيال ذلك. ونقصد هنا بكلمة كثير أنه ربما يرغب النظام باحتواء الاحتجاجات ويقيل رئيس فرع أمن، أو يتم تعيين محافظ جديد، لكنه لن يقبل بتغيير المنظومة الأمنية المتحكمة بالقانون والاقتصاد والحياة السورية عموماً لا عام 2023 في السويداء ولا حتى مستقبلاً في حراك مماثل في الساحل إن نشأ مثلاً. في تلك النقطة لن يختلف رفض مطلب السوريين إن كانوا سنة أو دروز أو علويين. نعم، وللدقة ستختلف طريقة التعامل مع كل جماعة وهي ضرورة سياسية مرتبطة بالظروف المرحلية المحيطة، وطبيعة الجماعة المطالبة بها والحلول الأكثر نجاعة للسيطرة عليها، أكثر منها لأسباب دينية أو طائفية كما يتوهم بعضهم.

ماذا سيتصرف الأسد فيما لو عادت أحداث السويداء إلى تصدر وسائل الإعلام، وصار من الممكن أن تتمدد، ورأى منها خطراً حقيقياً على نظامه؟

لقد ذهب النظام في انتفاضة عام 2011 إلى أقصى درجات القتل والإجرام مع الأكثرية السنية، بعد أن استنفد الحلول التفاوضية المخادِعة على إنهاء المطالب الجدّية وتحويلها إلى مطالب خدمية عادية (مع الامتناع عن تقديم ضمانات حقيقية بعدم اعتقال الناشطين الذين قادوا المظاهرات أو الإفراج عن المعتقلين منهم)، مما أدى إلى حمل السلاح ليدافعوا عما تبقى من أنفسهم وعائلاتهم التي استباحها النظام بطريقة وحشية. وليس من ضامن لعدم تكرار هذا في احتجاجات 2023. صحيح أن الأسد لم يستخدم القوة الضاربة ضد الاحتجاجات حتى الآن، ولكن لا توجد بالمقابل ضمانات على عدم استخدامه العنف ضدّهم. يحاول نظام الأسد المماطلة، وتجاهل الاحتجاجات، واستنزاف المنطقة اقتصادياً، وقد ساعدته حرب غزة على تغييب الأحداث، وعدم إحراجه عندما ظهرت صور وفيديوهات تمزيق وحرق صور الأسد الأب والابن، وإغلاق مقار البعث. ولكن ماذا سيتصرف الأسد فيما لو عادت أحداث السويداء إلى تصدر وسائل الإعلام، وصار من الممكن أن تتمدد،  ورأى منها خطراً حقيقياً على نظامه؟

في أيلول الماضي وإثر محاولة المتظاهرين إغلاق مقر حزب البعث وتحطيم تمثال حافظ الأسد، أطلق عناصر الأمن على المدنيين وجرحوا العديد منهم. استفزاز عناصر الأمن بحق الأهالي دفع الشيخ حكمت الهجري إلى إدانة الحادث بعبارات قاسية، لكنه مع ذلك حاول ضبط النفس وإبراز سلمية المظاهرات بهدف تجنب الصدام مع النظام، وقال كلمته المشهورة: "الدم السوري على السوري حرام... سلاحنا مثل العروس سيظل على جانبنا نظيف ومجهز والطلقة ببيت النار. ولكن الطلقة الأولى لن تكون من جانبنا".

في ظلّ عنف النظام المتعمّد والمتنامي، وشعور الناس هناك بالظلم وغياب العدالة، وانسداد أفق الحلول الدولية في الوقت الحالي، وإصرار النظام على حصار الانتفاضة ووأدها، يتمّ التساؤل وبكثير من القلق عن مستقبل الحركة الشعبية في السويداء: هل يطرح النظام حلولاً تؤدي إلى نزع فتيل الانفجار، أم تتحول إلى حرب خارج السيطرة؟  

لا ندري الرسالة التي أراد توجيهها الشيخ على وجه التحديد. يُحتمل أنه أراد توجيه تحذيرٍ قويٍّ للنظام؛ ألّا يتمادى في العنف ضد المتظاهرين؛ حيث أن وقوع قتلى سيفجّر الوضع ويخرجه عن السيطرة، ومن الممكن أيضاً أنها كلمات عفوية خرجت ضمن ردود الفعل وهي كلمات متوارثة من ثقافة أهل الجبل هناك. ولكن الثابت أن المتظاهرين حاولوا ألا ينجرّوا نحو المقاومة المسلّحة. التعقّل الشعبي هذا لم يستتبعه تعقّل حكومي، مع أنه يُفترض عادة العكس. فتحرّشات الأسد لم تهدأ على مدار الأشهر الماضية، من استدعاءات أمنية، ونشر المخدرات، وإطلاق يد الميليشيات، وخنق المنطقة اقتصادياً لإنهاك الحراك.

بعد أشهر من سلمية انتفاضة السويداء ـ وللمصادفة فإنها ستة أشهر أيضاً ـ، أطلق أفراد الأمن النار على أحد المحتجين وأردوه قتيلاً أثناء الاحتجاجات أمام مقرّ المصالحات. خرجت مظاهرات غاضبة تندد بمقتله. وصفه شيخ العقل حكمت الهجري بـ: شهيد الواجب. ورغم محاولة القيادات المدنية استيعاب الحدث وعدم الانجرار إلى العنف المضادّ، إلا أنّ سقف الشعارات ارتفع؛ حيث وصف المحتجّون بشار الأسد بأنه قاتل وطالبوا برحليه عن السلطة. 

يبدو أنّ الاحتجاجات انتقلت إلى مستوى آخر، ومن الطبيعي ولا يُلام أهلنا في السويداء على غضبهم ومطالبتهم بالعدالة للشهيد. ولكن في ظلّ عنف النظام المتعمّد والمتنامي، وشعور الناس هناك بالظلم وغياب العدالة، وانسداد أفق الحلول الدولية في الوقت الحالي، وإصرار النظام على حصار الانتفاضة ووأدها، يتمّ التساؤل وبكثير من القلق عن مستقبل الحركة الشعبية في السويداء: هل يطرح النظام حلولاً تؤدي إلى نزع فتيل الانفجار، أم تتحول إلى حرب خارج السيطرة؟