ضحكة لاشيت وضحكة الأسد

2023.03.15 | 06:24 دمشق

ضحكة لاشيت وضحكة الأسد
+A
حجم الخط
-A

كان آرمين لاشيت المرشح الأول لخلافة ميركل المستشارة الألمانية الغنية عن التعريف، سواء في رئاسة الحزب الحاكم (سابقاً) الحزب الديمقراطي المسيحي حيث خسر الانتخابات لصالح الحزب الاشتراكي برئاسة المستشار الحالي أولاف شولتس، ويشغل الآن موقع المعارضة فيما يُسمّى بتبادل السلطة، أو في حكم ألمانيا كمستشار سيخلف ميركل بعد قرارها عدم الترشح لولاية جديدة.

مسيرة آرمين لاشيت حافلة بالنجاحات؛ فهو عضو بالبرلمان الألماني منذ عام 1994، وكان عضواً في البرلمان الأوروبي لدورتين متتاليتين. ثم شغل مناصب سياسية عليا اعتباراً من عام 2005 في ولاية شمال الراين، وهي أحد مفاتيح السياسة في ألمانيا بالإضافة إلى برلين وهامبورغ وبافاريا. تدرج في المناصب كعضو في برلمان الولاية المحلي ثم وزير. بعدها تولى رئاسة الحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم في الولاية، وأخيراً شغل منصب رئيس الولاية عام 2017.

يتميّز آرمين لاشيت بشخصيته الليبرالية المرنة، والتي تقود حزب يدعمه محافظون مع جيل توّاق للتغيير، وكان لاشيت هو الشخصية التي استطاعت أن تجمع بين كل تلك المتطلبات ويزاوجها بعلاقة طيبة مع الألمان ذوي الخلفية المهاجرة، حتى إنه لُقّب بـ: "آرمين التركي". بعد أن أعطته المستشارة الألمانية الثقة، تم انتخابه في يناير 2021 رئيساً للحزب المسيحي الديمقراطي الحاكم آنذاك، وبدأت الأوساط السياسية والإعلامية تتعامل معه بصفته المستشار القادم بعد أن هزم رئيس أقوى ولاية "بافاريا" صاحب الشعبية الكبيرة والطاغية آنذاك ماركوس زودر في سباق الترشح لمنصب المستشارية. وبدا أن الطريق مفتوحاً لتولي منصب المستشار بعد اعتزال ميركل.

عندما كان الرئيس الألماني شتاينماير يلقي كلمته، التقطت عدسات الكاميرا لاشيت يتبادل بعض الكلمات مع رئيس البلدية، ثم ضحكا. ضحكة قصيرة عابرة "خارج السياق"

في صيف تموز 2021 تعرضت المناطق الغربية في ألمانيا لسيول مدمرة، راح ضحيتها أكثر من مئتي قتيل، كما أغرقت السيول العديد من القرى، وشردت أكثر من خمسين ألف شخصاً، وأعلنت الحكومة المركزية تلك المنطقة منكوبة بالكامل. مع بدء عمليات الإغاثة وتخصيص المساعدات، زار المنطقة رئيس ألمانيا شتاينماير (وبالمناسبة هو منصب ذو صلاحيات محدودة جداً بالمقارنة مع منصب المستشارية أي رئيس الوزراء) لتقديم العزاء لذوي الضحايا، والتضامن مع المنكوبين. تضمّن الوفد المرافق له طبعاً رئيس الولاية آرمين لاشيت المستشار القادم خليفة ميركل.

عندما كان الرئيس الألماني شتاينماير يلقي كلمته، التقطت عدسات الكاميرا لاشيت يتبادل بعض الكلمات مع رئيس البلدية، ثم ضحكا. ضحكة قصيرة عابرة "خارج السياق" للمرشح لحاكم ألمانيا المستقبلي "آرمين لاشيت" خلال زيارة لمناطق متضررة من الفيضانات حسب وصف الصحافة الألمانية كانت كفيلة بتحطيم مستقبل ذلك السياسي المحترف، الذي قدم الكثير لألمانيا على مدار عشرين عاماً.

هبطت شعبية المستشار القادم بنفس سرعة انتشار فيديو تلك الضحكة القصيرة العفوية. حيث توقفت الصحف مطولاً عند معاني تلك الضحكة البسيطة "العابرة"، كان التركيز على واجبات رجل الدولة في مثل حالات النكبات تلك، وبماذا أخطأ رئيس حكومة الولاية ورئيس الحكومة المركزية المستقبلي بالضبط؟ حيث أجمعوا أن رجل الدولة يظهر إلى العلن ليس بصفته شخصاً عادياً، بل يرمز إلى شخص يمثل الجماعة ككل و"من لا يستطيع العمل كسياسي بهذا المعنى فهو ببساطة غير مناسب لأحد أعلى المناصب في الدولة". حسب تعبير صحيفة فرانكفورتر الشهيرة.

اعتذر آرمين لاشيت على تصرفه الخاطئ وغير المسؤول. اصطحبته المستشارة ميركل في جولتها التالية على المناطق المنكوبة، في محاولة لإنقاذ مستقبل الحزب الحاكم الذي تراجعت شعبيته بشكل كبير نتيجة تلك الحادثة. نعم، قامت ميركل بزيارة المناطق المنكوبة، حيث تفقّدت القرى المتضررّة وحرصت على متابعة عمليات الإغاثة مصطحبة معها نائبها والمرشح لخلافتها آرمين لاشيت في خطوة وصفتها الصحافة الألمانية بأنها سياسية تهدف إلى رفع شعبية لاشيت. "وَسَعَتْ ميركل للتعامل مع نفاد صبر ضحايا فيضانات تموز، ووعدتهم بتقديم مساعدات ضخمة، فيما يبدو محاولة لتحسين وضع معسكرها المحافظ". وهي عبارة مقتبسة من تقييم صحيفة فرانكفورتر ألغيماين الشهيرة، حيث لم يتم شكر الرئيس على زيارته واهتمامه وعطاءاته، بل اتهام باستغلال واجبه الوظيفي كحاكم مسؤول عن إدارة الأزمة وإنقاذ الضحايا لغايات انتخابية.

مَن لا يستطيع العمل كسياسي بهذا المعنى (معنى تحمل المسؤولية كرجل دولة يمثل الجماعة ككل) فهو ببساطة غير مناسب لأحد أعلى المناصب في الدولة

سرّع لاشيت المساعدات، وأقرّ حِزَماً أخرى إضافية. لكن الشعب الألماني لم يغفر له ضحكته غير المسؤولة أمام آلام أهالي الضحايا والمنكوبين. انهارت شعبيته، وتراجعت شعبية الحزب الحاكم الذي يرأسه رغم دعم المستشارة ميركل، حيث يحترمها الشعب الألماني، ورصيدها السياسي والمعنوي مرتفع جداً. أضافت الصحيفة الألمانية: "مَن لا يستطيع العمل كسياسي بهذا المعنى (معنى تحمل المسؤولية كرجل دولة يمثل الجماعة ككل) فهو ببساطة غير مناسب لأحد أعلى المناصب في الدولة. إذا كان يضحك بشكل خطأ في الحياة الخاصة، فلا بأس. ولكن بعد ذلك يجب أن يبحث عن المستقبل كشخص عادي). وهنا نقتبس من الصحيفة حرفياً.

استقال لاشيت من رئاسة الحزب، وانسحب من الحياة السياسية، وبدأ يبحث عن مستقبله كشخص عادي، حيث يستطيع أن يضحك كيفما يشاء وأنّا يشاء. 

طبعاً لا يمكن المقارنة بين ضحكات الرؤساء، حيث المقارنة تعني بالضرورة شيء من الشبه والاختلاف. فلا شبه ولا اختلاف بين مجرم ورجل مافيا لا يرى في الشعب المنكوب سوى فرص سانحة لتمكين سلطته وزيادة نفوذه وموارده على حساب الشعب المنكوب، ورجل دولة يقدّم الصالح العام وإن تعدّدت أخطاؤه، حيث إنه وفي تلك الحالة فقط ينطبق عليه الحديث الشريف: "إن اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران".