السوريون العاديون بوصفهم قُوَّةً عُظمى

2023.02.04 | 07:20 دمشق

السوريون العاديون بوصفهم قُوَّةً عُظمى
+A
حجم الخط
-A

في السابع عشر من شهر شباط/فبراير من عام 2003، وبعد أيامٍ من تظاهراتِ طالت معظم عواصم العالم، ومدنه الكبرى، احتجاجًا على غزو الولايات المتحدة للعراق؛ كتبت جريدة نيويورك تايمز على صفحتها الأولى من عدد ذاك اليوم عنوانًا لافتًا من النوع القابل لاستحضاره والتفكير في مضمونه الآن من جديد. العنوان هو: "قوة جديدة في الشوارع" (A new power in the streets)، وتحت هذا العنوان، بدأ باتريك تايلر (Patrick E. Tyler)، كاتب المادة، نصه بالجملة الآتية: "الانقسامات التي ظهرت في التحالف الغربي ضد العراق، والتظاهرات الكبرى المناهضة للحرب التي حدثت خلال عطلة نهاية الاسبوع (قُبيل كتابة المادة)، هي نوعٌ من التذكير بأنه ثمة قوتان عُظميان لا تزالان كائنتين في هذا الكوكب، هما الولايات المتحدة الأميركية، والرأي العام العالمي". وثمة في هذه الجملة، التي صار عمرها اليوم عشرين سنة، ثلاثُ كلمات مفتاحية مهمة هي: "تذكير" (reminders)، و"قوة عظمى" (Superpower)، "لا تزالان كائنتين" (still be). ويبدو أن العالمَ اليوم يحتاج إلى تذكيرٍ مُشابه، ولكن ليس تذكير الولايات المتحدة فحسب، التي على الأرجح لم تنسَ بوصفها دولة، ولكن تذكير الرأي العام العالمي نفسه بأنه لا يزال قوةً عظمى كائنة، بما تعني القوة من قدرة على فرض إرادة صاحبها فرضًا؛ وبأنه قوةٌ كامنة تحتاج إلى تحريرٍ فحسب. ولكن، كيف تُحرَّر قوة الرأي العام الكامنة؟ ومتى تُحرَّر؟ ومن يُحرِّرُها؟

السوري العادي قادرٌ على تحرير قوة الرأي العام العالمي الكامنة، لأن السوري في عين حدثٍ عالمي مرعب يؤهله لتفجير هذا الكامن العظيم وتحرير قوة جديدة عظيمة

بصورة عامة، يكفي الرأي العام العالمي أن يتكوَّن لكي يصير قوةً سياسية عُظمى؛ وهو يتكون ما إن يبدأ بالعناية بمسألةٍ ما، والعناية مرتبطة بالذِكرى، فأن يعتني العالم بمسألةٍ ما يعني ألَّا يتركها تنفلت من ذاكرتنا، أي يجعلنا نهبها ذاكرَتَنا، ويجتمع الفكر العالمي فيها؛ فالذاكرة، بحسب تعبيرٍ فذٍ أطلقه مارتن هايدغر، هي "تجميع الفكر" (Gathering of thought). قد نقول في حالتنا هذه إن الرأي العام يكون قوة عظمى عندما يتذكر ذلك فحسب، ولا يُذكِّره بذلك إلا ذاتَه، عبر تجميع فكرهِ في جزءٍ من ذاته ليكون مهمومًا به، وهذا يعني تكوين رغبة عمومية برعاية جزءٍ من العالم أو قضيةٍ من قضاياه، فتصير المعاناة مرئيةً من غالبية الأفراد الذين يُشكِّلون الرأي العام. وأن يصير الرأي العام مرئيًا يعني أنه بحاجةٍ دائمةٍ إلى أن يُذكِّر نفسه بقدرته، عبر استعراضٍ من نوعٍ كبير وعظيم يجعله مرئيًا، وهذا الاستعراض في حالة الرأي العام المُعاصر هو التظاهرات الكبيرة مثل تلك التي دفعت باتريك تايلر لكتابة عبارته تلك على صفحة نيويورك تايمز الأولى.

وفي الأحول كلها، دعونا نقاوم إغراء التفلسف في هذه الفكرة، وننتقل إلى نقاش ما يخطر على البال عند التفكير بهذه الطريقة اليوم، وهو فحص الفرضية الآتية: السوري العادي قادرٌ على تحرير قوة الرأي العام العالمي الكامنة، لأن السوري في عين حدثٍ عالمي مرعب يؤهله لتفجير هذا الكامن العظيم وتحرير قوة جديدة عظيمة، ولكن شريطة أن يصير السوري نفسه كونيًا، أن يتكلم لغة كونية مفهومة للجميع. وينطبق هذا أيضًا على الفلسطيني، والأفغاني، والعراقي، واليمني، والأوكراني.

وقد نبني التساؤل الأهم في هذا السياق، أليس من الأجدى أن نتجه نحن السوريين إلى خطاب الرأي العام العالمي الذي نحن جزءٌ منه، والذي نتقن لغته؛ بدلًا من التوجه إلى الكلام بلغة الدول التي لا نتقن الكلام بها؟ فنحن لا نمتلك دولة بعد أن استولت عليها عصابة إجرامٍ وكبتاغون، وبحوزتنا "تمثيل سياسي" ركيك قد أخفق مليون مرة، وقد سقط النظام وتحول إلى عصابة ولا يزال هذا "التمثيل" يسمي نفسه "معارضة سياسية"! لذلك نحن غير مؤهلين للكلام بلغة الدول، ويمكن أن نفصِّل في هذه المسألة أكثر: لغةُ الدول إما دبلوماسية، ونحن اليوم لا نمتلك أي هيئة دبلوماسية. أو لغة القوة العسكرية أو الاقتصادية أو النفوذ، وهذه أيضًا لا نمتلكها. أو لغة المصلحة المشتركة التي ليس لدينا إمكانية تبادلها مع أحد؛ فنحن لا نمتلك على طاولة التفاوض ما نفاوض عليه إلا حيواتنا. وعليه، وأمام انسداد الأفق أمام هذه اللغة، ربما يصبح كلام السوري بلغة الرأي العام العالمي هو الأجدى والأكثر نفعاً. ولكن ما لغة الرأي العام العالمي؟ بتقديرنا، هي كل ما يُرى، فما أن يفعل جمهورٌ ما أي شيءٍ له علامة تجعله مرئيًا بعيون العالم (مثل علامة الستر الصفراء في فرنسا على سبيل المثال)، حتى يصبح هذا المرئي بحد ذاته موضوعَ نقاشٍ عامٍ؛ فيسحب معه رسائله كلها إلى الضوء، وتصير رشيقةً وخفيفةً وقابلةً لتُحمل بعيدًا عن مكانها. يتحدد بقاء الموضوع في الضوء العالمي بمدى رشاقته وأخلاقيته وقدرته على بناء صوتٍ مفهومٍ بكل اللغات: صوتٌ يشبه الموسيقا، يجذب، ويستوقف، ويتوقف المرء عنده لبرهةٍ حزنًا أو فرحًا، في أي لحظة، وفي أي مكان: في الشارع، وفي المنزل، وفي مطعمٍ، وقبل النوم، وفي أثناء العمل، وفي أثناء الرياضة، وإلى ما هنالك. القضايا الأكثر قابلية لتصير قضايا رأي عام هي القضايا السائلة، التي لأصحابها القدرة على بناء سردية سائلة لها، وتحويلها إلى مجموعة رسائل محمولة إلى أي مكان (Take away massages): هي ما كان قابلًا ليدُندن به أيُ أحد. 

ممَّا سبق كله، واستنادًا إليه، يمكن أن نبني السؤال الذي يهمنا: لماذا لم يتحرك الرأي العام العالمي تحركًا ملحوظًا إزاء موت السوريين المستمر منذ 2011؟ وقد أجاب ما سبق جزئيًا عن قسمٍ من هذا السؤال، ولكن يبدو أن الموتَ، أو القتل بحد ذاته، لم يعد خبرًا مثيرًا من فرط ما صار اعتياديًا في هذا العالم المعاصر، لكنَّ الذي لا يزال خبرًا مثيرًا ولافتًا هو الغضب بسبب القتل. بعبارة أخرى، لكي يصير موتنا خبرًا مثيرًا غير اعتيادي، ينبغي أن نغضب بسببه، أو بصورة أكثر دقة أن نبتكر طريقةً نعبر فيها عن غضبنا بسببه، لأننا بطبيعة الحال غاضبون، ولكن ينبغي أن نجعل غضبنا هذا مرئيًا. يبدو أن نوع القتل المعاصر، وكثرة حدوثه، بنى مناعةً ضد عادات الإنسان الأولى إزاء الموت، مثل التعاطف والشعور بالمسؤولية عن إيقاف نوع الظلم الذي أدى إليه، وكأن العالم يمر بـ "ترند" (Trend) اسمه اللامبالاة أمام القتل؛ أو كأن احتمال الموت صار مثل أي تحدٍ خطيرٍ من تحديات "التيك توك" (TikTok) هدفه المشاهدات من قبل المهووسين بمشاهدة غير المألوف. وكأن اللامبالاة أمام الموت صارت "ترند" الراهن، ونوعًا من المتعة "التيكتوكية" بغير المألوف. وأحد أسباب هذه الظاهرة الأكثر أهمية ربما، هو أن القتل تحول إلى فعلٍ سياسي، أو ما سمّاه المفكر الكاميروني "أشيل مبيمبي" (Achille Mbembe) بـ "النيكروبوليتكس" (Necropolitics) يعني احتكار قرار من يُسمح له بأن يحيا، ومن يجب أن يموت: هي بالمعنى الحرفي "سياسة الموت" أو هي "سياسة الجُثث" إن شئنا التغاضي عن قسوة التعبير على القلوب الرقيقة. إن سياسة الجثث هذه هي سياسة النظام/العصابة السوري منذ تكونه إلى اليوم، وسياسة نظام الخميني، وسياسة الأنظمة المتوحشة والهمجية والأنظمة القمعية كلها، هي سياسة روسيا في سوريا وفي أوكرانيا وقبلها في الشيشان، هي سياسة طالبان في أفغانستان، وسياسة الولايات المتحدة الأميركية في أفغانستان أيضًا، هي سياسة صدام حسين في العراق، وسياسة الولايات المتحدة الأميركية في العراق أيضًا، هي سياسة فرنسا في أفريقيا مثلًا، وسياسة ميانمار مع الروهينغيا، وإلى ما هنالك. المهم أن القتل صار مجرد تكتيك لا يثير أي حرجٍ أخلاقي، ولا يحرر طاقة الرأي العام العالمي الكامنة. للأسف هذا عار الإنسان الذي صُرناه أخيرًا.

الغضب لا يزال خبرًا يتضمن فعلَ تذكيرٍ بأن الرأي العام قد يصل إلى مستوى قوة عظمى في أي لحظةٍ يريد

نعود إلى موضوعنا، فنقول استنادًا إلى هذا كله: ليس لمن أراد أن يصير قتله قضية رأي عام، إلا التعبير عن الغضب العارم بسبب القتل، فالغضب ما يزال خبرًا يتضمن فعلَ تذكيرٍ بأن الرأي العام قد يصل إلى مستوى قوة عظمى في أي لحظةٍ يريد. وخير تعبيرٍ عن الغضب بسبب القتل هو التعبير الحيوي، أي مواجهة الموت بإرادة الحياة، وخطاب الحياة الموجه إلى الذات السورية وإلى الآخر.

ثمة ملفات سورية ثلاثة في أقل التقديرات، تصلح لتكون مسائل رأي عامٍ عالمي: ملف قيصر (التعذيب)، والكيماوي، والكبتاغون. وصار لكلٍ من هذه الملفات الثلاثة سند قانوني، وأخلاقي، وسياسي، وحيوي، يجعل السوري مؤهلًا لتحرير قوة الرأي العام العالمي العظمى الكامنة إن أتقن لعبة الخطاب في الفضاء العمومي الكوني، وهذا التأهيل للكونية موضوعٌ آخر ينبغي إطلاق حوارٍ عمومي للإجابة عنه، لأنه شرطٌ لازم لهذا النوع من المناورات العصرية، وعليه صرنا أمام سؤالٍ له أولوية: كيف نتكلم لغة كونية؟ ثمة كلامٌ كثير للإجابة، ولكن باختصار وبساطة وتكثيفٍ شديد ووضوح: نكون كونيين بمقدار ما نحن عاديين، يعني بمقدار ما نكون هاربين: هاربين إلى ذواتنا من خارج سياجات الأيديولوجيات كلها، وهذا أول هروب، وهاربين من دون الأبدي (بتعبيرات بودلير): أي معاصرين، وهذا ثاني هروب. يعني لكي نكون كونيين علينا أن نكون هاربين من العصبية، والطائفية، والمللية، والعشائرية، والمناطقية، والقومية، ومن المذاهب كلها، ومن المذهبية، علينا أن نكون الهاربين من المقلوب ومن المقلوبين كلهم، يعني أن نكون سوريين عاديين، عندها سنحرر قوة عظمى كامنة قد يكون فيها خلاصنا، هي قوة الرأي العام العالمي، عندها سيصير السوريون العاديون قوةً عُظمى.