انتحار الحاكم العربي الأخير

2023.04.27 | 07:04 دمشق

انتحار الحاكم العربي الأخير
+A
حجم الخط
-A

صارت العروبة الأخيرة هُويةً أيديولوجية يمتطيها الحاكم إلى حيث يشاء! كأن هذا الحاكم العربي الأخير الذي عمَّر طويلًا لا يزال يستأنف مَصادرَ ذاتِه من دون تغييرٍ منذ بداية الدولة السلطانية. ولا يزال الحُكم السلطوي مفهومًا يعمل بثباتٍ ويمزج باقتدارٍ الهُويةَ والسلطة والوطن والكرسي: إنه بهذا المعنى الحاكم "الهُووي" الأخير وقد جَثَمَ طويلًا. واليوم، ثمة خوفٌ حقيقي يتسلل إلى قلوب الذين يُفكِّرون بمستقبل المنطقة العربية، خوفٌ من مآلات تراكم الإخفاق العربي الناتج من السياسات العربية الركيكة التي راكمها هذا الحاكم الأخير منذ البداية، وفي العقد الأخير بوجهٍ خاص. وكأنه خوفٌ من "بَرملة العرب جميعهم"، والبرملة من برميل، ولكن ليس أي برميل، إنه البرميل المُتفجِّر، ذلك العلامة المسجلة بحقوق ملكية حصرية للنظام السوري، والذي يحتاج استخدامه إلى ترخيصٍ من مطوِّره وتدريب. ميزة هذه البراميل، التي يرميها النظام السوري خبط عشواء، أنها تحرق الأرض تحتها وتقتل "أيَّ أحد"، من دون أي تسديدٍ أو تدقيق، إنها القتلُ لأجل القتل، الشرُ لأجل الشر، وإنها أداة الحرب للدمار والقتل فحسب، لا الحرب لتحقيق أهدافٍ استراتيجية يقاس بوساطتها النصر، إنها القتل لأجل السلطة، ونوعٌ أكثر توحشًا من سياسة الجثث (The Necropolitics): إنها نيكروسياسة البراميل (Necropolitics of Barrels). وليس البرميل أداة قتلٍ فحسب، لكنه فائضُ أدرينالين الحاكم العربي "الهووي" الأخير، فائضٌ من نوع "الأسد أو نحرق البلد"، أو فائضٌ من لا إنسانيةٍ مٌمنهجة تراكمت طبقاتها منذ سنوات. بَرمَلَةُ العرب، هي فائضُ أدرينالينٍ من النوع نفسه، فعندما لا تتعين البرملة في صورة برميلٍ متفجر، قد تتعين في تطوير جهاز دولة لا يصلح إلا للتدمير، أو في آلة "حربقة" وتذاكٍ سياسي مبتذلة، أو في تطبيعٍ مع الإجرام ومد اليد للمجرمين المُؤسسين مثل الطغمة الحاكمة في سوريا؛ فتعريب سوريا الأسد يعادل موضوعيًا "بَرمَلَة العرب كلهم". والبرملة هي الصيغة المنحطَّة لآلة الحرب، وهي آخر ما وصل إليه الحاكم "الهووي" الأخير، وآخر السرديات التي تقدمها إلينا الدولة السلطانية المعاصرة التي تعمل باسم الهوية المقدسة التي "تخلقها الواقعة الوطنية المزيفة".

مع هذه التوجهات الكارثية كلها، تحوّلت الجامعة العربية من واقعة مثيرة للضحك، إلى واقعة مثيرة للخوف

أصَّلَ الحاكم "الهووي" الأخير الركاكةَ في الحكم، ثم صان الركاكة بالقوة، وبانحطاط الدولة الأمنية القيمي، واحتال على الديمقراطية باسم "الوطنية" بعد الثورات العربية، وعلى المَلكيِة باسم الرفاه والتطوير. وثمة بعض استثناءات لهذه القاعدة الراهنة من طرائق التفكير في الحكم العربي، ولكنها قليلة جدًا، ويبدو أنها متعبة وباتت متوحدة في وسطها العربي، بل بات ينبغي أن تفكر في حماية نفسها من الغدر "الهووي".

ومع هذه التوجهات الكارثية كلها، تحوّلت الجامعة العربية من واقعة مثيرة للضحك، إلى واقعة مثيرة للخوف، ولكن، ثمة شيء إيجابي في كل شيء، حتى الكوارث الكبرى لا تخلو من شيءٍ إيجابي؛ فمع أن الألم، ونتيجة الركاكة، يطغى على كل شيء عربي آخر، ومع أن المرء العربي يشهد متحسرًا مجروحًا في القلب هذا الانهيار الأخلاقي الكبير عندما يهرول العرب إلى السفاح السوري مثلًا، وعلى الرغم من خيبة الأمل، والإخفاقات السياسية العربية المتكررة منذ منتصف القرن الماضي في أقل التقديرات، إلا أن شيئًا إيجابيًا يمكن رؤيته في كل ذلك، وهو أن الحاكم "الهووي" الأخير ينتحر مُعلنًا انتهاء حقبة الحاكم الكلاسيكي الذي عرفناه منذ فجر الدولة السلطانية.

ثمة شيء إيجابي في أن يذهب الحاكم العربي إلى العصابة الحاكمة في سوريا مُصافحًا، مع أنه ذهابٌ قاسٍ على الوجدان العربي الحي، وعلى وجدان السوريين غير العرب أيضًا الذين يأملون بموقفٍ أخلاقي إنساني من الجامعة العربية إزاء مآسيهم، الإيجابي هو أنه بهذا الذهاب لا يفعل شيئًا إلا الانتحار. إنهم ينتحرون بوصفهم حكامًا لا يزالون يحكمون بالأيديولوجيا وبالهُوية المغلقة الخائفة المتكورة على ذاتها. وليس كبتاغون النظام السوري أداةَ هذا الانتحار، ولا الكيماوي، أو التعذيب، أو البرميل، أو حفار القبور، أو حفلات قتلٍ مثل التي حصلت في التضامن، أو غيرها من وسائل قتل السوريين التي تهدد وجود العرب الأخلاقي ومن ثم الحيوي؛ بل أداته الذات الحاكمة نفسها: إنه انتحارٌ بالمآل الحتمي لاكتمال الدولة الشمولية التي يتمثل تحققها داخل دولة انتحارية، كما حددها دولوز وغاتاري. قد نطرح أن هذه الانتحارية في الحالة العربية نوعٌ من انتحار الحاكم "الهووي" الأخير. ما نريد أن نقوله بصورة مباشرة وواضحة هو الآتي: يعني انفتاح بعض الحكام العرب على النظام السوري أنهم ينتحرون، وهذا الأمر إيجابي، ليس لأنهم ينتحرون، فليس للمرء أن يرى في الانتحار نفسه شيئًا إيجابيًا، بل هو شيءٌ يحزن المرء لوقوعه حزنًا شديدًا، ولكن الإيجابية هي أن هذا الانتحار قد يفتح أمام الشعوب العربية أفقًا لحياةٍ أفضل. إن الحاكم العربي الأخير لا ينتحر بالنظام السوري إذا هرول إليه – فالنظام أجبن من أن يقتله لأنه لا يستقوي إلا على السوريين السلميين العزل – لكنَّه ينتحر بذاته: بجرعةٍ قاتلة من الأدرينالين الذي لم تنجح محاولات تفريغه بعد.

التطبيع نتيجةٌ من نتائج فائض الأدرينالين الذي طوَّره الحاكم العربي الأخير في رد فعلٍ غير واعٍ على دفق الحرية العظيم

التطبيع مع النظام السوري ليس سلوكًا سياسيًا، وليس ظاهرةً سياسية تخضع للعلوم السياسية، لكنَّه ظاهرةٌ أدريناليَّة تؤدي إلى تصرفاتٍ تبدو منطقيةٍ، ولكنها من دون تفكير؛ فالأدرينالين لا يعطي للمرء فرصةً للتفكير البارد. ولذلك إن هذا التطبيع منطقٌ من دون عقل: يعني ذلك أن هذا التطبيع مثل الانتحار، له أسبابه المنطقية التي يدركها الأطباء والمراقبون، ولكن يجهلها المنتحرون الذين يسيرون بمنطقيةٍ إلى حتفهم من دون عقلٍ يُفكِّر بما يفعلون. ويبدو غياب التفكير المتزامن مع صدمة أدرينالينٍ سلطوي عند الحاكم العربي الأخير هو الأمر المنطقي جدًا في هذه المعادلة. التطبيع نتيجةٌ من نتائج فائض الأدرينالين الذي طوَّره الحاكم العربي الأخير في رد فعلٍ غير واعٍ على دفق الحرية العظيم، دفق التنوع والتفكير الذي أتى مع الثورات العربية منذ 2011، الذي دشن عصرًا جديدًا للواقعة الوطنية أعلى منزلةً من عصر الأيديولوجيا والهوية الثابتة المُقدسة وطاعة الحاكم. وبهذا المعنى، كانت لحظة 2011 لحظةَ إبداعٍ من إبداعات الإنسان الأعلى (der Übermensch) – بتعبيرات نيتشه – إنها لحظة إبداعِ العربي العادي، بوصفه العربي الأعلى الذي يرى العروبة فضاءً روحيًا وثقافيًا، أوسعَ من هوية مغلقة ثابتة، ومن أيديولوجيا قومية "هووية". ولذلك كله، نطرح على الراكضين إلى البرميل بشكل جماعي سؤالًا قد صاغه نيتشه أيضًا ذات مرة: ماذا فعلتم كي تتجاوزوا ذواتكم ولو مرةً واحدة؟ هل حقًا لا تزالون تريدون أن تكونوا الجَزر في هذا الدفق العظيم؟