السمكة لا تهدد بالانتحار غرقاً

2022.01.08 | 06:28 دمشق

61d494094236046b9029d28d.jpg
+A
حجم الخط
-A

يقدم المروّض لتلاميذه في قصة "النمور في اليوم العاشر" درسا بليغا عن الاستعباد بسلاح الجوع. استخدم سلاح التجويع كثيرًا في الحروب الناعمة، وأشهر ما نذكره حصار شِعب أبي طالب في السيرة النبوية، وقطع الإمداد عن الجيش العثماني في الحرب العالمية الأولى، وحصار الغوطة، وحصار الشعب السوري في الوقت الحالي. مصر تستورد القمح ولا يسمح لها بزراعته، وسمعنا شهادات من رجال النظام المصري يكشفون صراحة من غير خجل أن زراعة القمح خرق للأمن القومي، فالسلطات حريصة على جعل القمح بضاعة مستوردة شرطا للبقاء في الحكم، وكان عليهم أن يقرّوا أنه أمن قومي أميركي وليس مصريًا، وفي الجزيرة السورية، وهي سلّة القمح السوري، تصنع المخابز خبزًا لا يصلح علفًا للبهائم، قيل إنه يخلط بالذرة. التجويع أسهل آلات السيطرة، والحرب بالجوع رخيصة الكلفة. قتل هتلر مئات الألوف من شعبه بالتجويع، وستمئة ألف من أسرى الجيش الروسي جوعًا، وأطلق الروس نكتة في الحرب العالمية الثانية عندما زودتهم أميركا بمعلبات لحم البقر فقالوا: بدأنا بفتح الجبهة الثانية، الجوع سلاح معهود في المعتقلات السورية، لا يمكن التهديد به، مثل السوري المعتقل كمثل السمكة التي تهدد بالانتحار غرقا.

أصبحنا نحتفل بانتصار صائمين عن الطعام، انتزعوا بجوعهم بعض الخبز، ونتبادل التهاني بشجاعتهم

كنا نحتفل بالانتصارات الكبيرة، ونعتزّ بمعارك مثل اليرموك وحطين وعين جالوت، ثم دارت بنا الأيام، فأمسينا نحتفل بالهزائم، وأطلقنا عليها تسميات لطيفة مثل نكسة حزيران لمخادعة الذات، وسمّينا حرب تشرين التي لم نرَ من انتصاراتها شيئًا بالتحريرية، ثم دارت بنا أيام أُخر، فأصبحنا نحتفل بانتصار صائمين عن الطعام، انتزعوا بجوعهم بعض الخبز، ونتبادل التهاني بشجاعتهم، أثنى الإعلام كثيرًا على المقاتل الأسير الفلسطيني أبو هواش الذي انتصر بعد 141 يومًا من الصيام على اعتقاله الإداري مدة ستة أشهر، وهو أب لخمسة أطفال، وتعرّض للاعتقال عدة مرات سابقًا، وبدأت مواجهته للاعتقال منذ عام 2003 بين أحكام واعتقال إداريّ، وبلغ مجموع سنوات اعتقاله (8) سنوات منها (52) شهرًا رهن الاعتقال الإداريّ من غير محاكمة. لم تكن له حيلة سوى الصوم.

اتفق الطرفان على إنهاء الإضراب عن الطعام مقابل إطلاق سراحه في شهر شباط، فلن يطلق سراحه فورًا حفظًا لكبرياء الاحتلال، وانتزع الأسرى في السجون الإسرائيلية إبان إعادة أسر الهاربين الستة عبر النفق وعودًا بتحسين ظروف اعتقالهم في الأمس القريب، وأطلقت الصحافة على هذا النوع من النضال "الكفاح بالأمعاء الخاوية"، وكان المناضلون المعاصرون يتداولون كثيرًا مقولة أبي ذر الغفاري في منشوراتهم: "عجِبتُ لمَن لا يجدُ قوتَ يومِه كيفَ، لا يخرجُ إلى النّاسِ شاهِرًا سيفَه". فإذا بنا نثني على من يخرج شاهرا معدته على شاهري السيوف، والواقع أنهم يثنون على العدو الذي نجحوا باستدرار شفقته أو أنهم جعلوه يستحي من موت مضربين عن الطعام في سجونه.

معظم الذين يضربون على الطعام هم أسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وهو سلاح تحتفل به إسرائيل الحريصة على صورتها، وهي صورة تزداد بريقا بعطفها على الصائمين الأسرى، فهو نضال بسلاح الشفقة، ومعظم معارك الاستعطاف هي لتحسين الأحوال في السجون، وأحيانًا للوعد بالحرية التي يمكن سلبها مرّة ثانية.

لا تزال دولة عربية  بها رمق أخير من  الحياء، هي تونس، أضرب فيها برلماني سابق اعتقل من غير تهمة عن الطعام، هو نور الدين البحيري  وانضمت إليه زوجته وأولادها

يندر أن تجد سلاح الاستعطاف بالصوم مجديًا في دولة عربية، وهو مستحيل في سوريا، ويصعب أن تسمع به وكالات الإعلام به لو أضرب المعتقل عن الطعام، فمعتقلاتنا محصنة وباطنية، لا تتسرب منها الأخبار إلا بصعوبة، وكان الإضراب مستحيلًا في أيام الشبع، وهو أشق في أيام الجوع والبطاقات الذكية، فالشعب جميعًا جائع، والجائع لا يستطيع التوسل بجوعه، فالجاني عديم الرحمة، ولا تهمه سمعته، ولا تزال دولة عربية بها رمق أخير من  الحياء، هي تونس، أضرب فيها برلماني سابق اعتقل من غير تهمة عن الطعام، هو نور الدين البحيري  وانضمت إليه زوجته وأولادها، حتى تطلق سراح زوجها بالاستعطاف. المعتقل خصم سياسي، ويجري البحث له عن تهمة تطبخ على نار هادئة، وقد خرج رئيس تونس ومدرس القانون، فخطب خطبة عصماء في أربعة من حاشيته، جامعًا بين موهبة الفصاحة وموهبة الطرفة، وزعم أنه وفر للمتهم البحيري الطعام، والفريق الطبي، لكنه يأبى تناول الطعام، فذكّرنا بأغنية كوميدية لفريد الأطرش وشادية في فلم "أنت حبيبي":

 شادية: هاولع فى روحي يا قلبي وعينيَّ

فيرد فريد الأطرش، وهو يحمل علبة كبريت عملاقة: لا أوعَ يا روحي ده واجب عليا.

خطب الرئيس التونسي فقال: من أراد أن يضرب عن الطعام، فسنوفر له المشافي والآلات والأدوية، ثم تحدث عن الثورة والعدل، وظننا أنه سيعلن عن مسابقة للصائمين والمنتحرين جوعًا!

 بطولة أن يقدم امرؤ على الموت جوعًا، وأكرم منها أن يعطف عليه خصمه، والسجان يعلم أنه الكاسب من العفو، فالخسائر قليلة، ولها مكاسب مثل توفير أثمان وجبات الصائم، وهي بطولات فردية ومقصورة على المعتقلين والمظلومين، وقد يعتقل المضرب عن الطعام الفائز بالرحمة بعد شهر بسياسة الباب الدوار، ويظهر الجاني للعالم بصورة المشفق الرحيم. استطاع المروّض في قصة النمور في اليوم العاشر أن يروّض النمر، أما النمر فطال به المطال مئة وأربعين يومًا من الجوع حتى رقَّ له قلب المروّض الرحيم، واستحق النداء بنداء أنت حبيبي.